إبراهيم محمود - بين رغبة الكلام وإرادته

أحدنا يرغب في الكلام وقول ما يرغب في التكلم به، أحدنا يريد الكلام وقول ما يريد التكلم فيه. يكمن الإشكال الأكبر هنا، حين نخلط بين الرغبة والإرادة أولاً، وحين نجرّد الرغبة ومقابلها الإرادة من كل سلطة، ووهم أو زعم أننا نتكلم عندما نرغب، أو نتكلم عندما نريد، وهذا ما يمكن التوسع فيه على صعيد الكتابة: نكتب ما نرغبه، نكتب ما نريده ثانياً . يا للهول !
يتراءى الخبط الأكبر قبل كل شيء في عدم التفريق بين الرغبة بوصفها رغبتنا، والرغبة بوصفها تعنينا لكنها تفارقنا، كما لو أن الرغبة محكومة بنا، على طريقة التابع والمتبوع.
في الجانب المقابل والمعمّق للمفارقة المريعة الفظيعة، هو ما يصل الرغبة بالإرادة ويبقي الأخيرة في موقعها الأقرب إلينا، سوى أنها هي الأخرى تظل متميزة بنوع من الاستقلالية.
في الحالتين، رغم التفاوت الاعتباري بينهما، فإن كل جهة تضيء الأخرى وتستضاء بها، أي ما يمكن تسميته بحس المناطقية في التحرك والتشكل، في الحياة والموت والانبعاث، وتعزيز حرمة كل منطقة ووشائج قرباها من الأخرى، وحالات الهجنة بينهما في القول والفعل، إنما المفيد في الأمر هو ما يمسُّنا في العمق، حين نعجز لأكثر من سبب، عن توجيه " دفتنا " النفسية، فيما نسلطه في الكلام وحين يستحيل الكلام كتابة، وتداخل الرغبة والإرادة في ذلك، أي حيث تفصح الرغبة عن اسمها وفي درجات، لتيها الإرادة بمقاماتها ومساحة تحركاتها.
وللتوضيح، فإنني أتحدث عما هو ممكن التحقق وليس الاستحالة " كأن يرغب أحدنا في الطيران مثلاً، أو صيد السمك في الصحراء، أو يريد حمْل كوكب على منكبيه...الخ ".
في البداية، ليس الكلام ملحقاً بنا، كما يُظن، فهو يسمّينا في طريقة تهجئتنا له، وفي تلك الصيغ التي نمتلكها في التواصل معه، وأساليب المناورة المطلوبة لكسب " ودّه " ليكون أصلح لنا !
لكَم يتعثر أحدنا في الكلام، في كلام ما يرغب في قوله، في قول المرغوب فيه كما لو أن الكلام المتكلَّم أو الموعود التكلم به في انتظاره من نوع " شبّيك لبّيك الكلام بين إيديك "، لكم " يخون الكلامُ أحدنا، وما في التسمية من غبن بحق الكلام، وما في ذلك من اعتراف ضمني بالكلام باعتباره كينونة لغوية ثلاثية الأبعاد. هنا يشار إلى الكلام الملازم للماء الراكد" المستنقع "، الكلام نزيل الينبوع، والكلام مواطن الأنهار وكل ما يجري بدفق مستمر، وكيف يمكن لأحدهم أن يحقق نصاب التحقق كلام ينبوع أو نهر أو أكبر أو يكتفي بالاستنقاع !
أليس من داع لتسمية السالف: فبين الكلام والرغبة فيه، مسافة طويلة وعميقة، تتدخل في قطْعها شهرزاد، إن جاز التعبير، لتبلغ ساعة " ديك الصباح " فيكون أوان نوم شهريار، واسترداد شهرزاد لأنفاسها، فتكون ليلتها حبلى بالكلام الذي يولد في ظل قابلة النهار. إن التعبير عن الرغبة يتطلب معرفة الرغبة، كيفية تفهمها، بكل مقومات وجودها: رغبة الكلام كلام الرغبة.
أن نرغب في الكلام، هو أن نعرف ما نرغب، حتى ترغبنا الرغبة، حتى تعترف الرغبة ذاتها بأن الرغبة التي تستبطننا، ونعيشها تستحق اعترافاً بها من لدن الرغبة المفارقة، وليس من الممكن ولا بأي شكل أن تسلس لنا الرغبة قيادها إلا إذا أسلسنا لها وعياً تتأكد من سلامته، من طياته، أي بمقدار ما نيمّم شطر الرغبة، فلا بد أن تتحدد الرغبة نوعاً وجنساً، فصلاً ووصلاً، وعدم تماه ليحصل الحوار، إذ تمتحننا الرغبة وهي بنا وفينا، لتتوقف على حقيقة ما نفصح عنه، لكي يكون في مقدور الكلام أن ينتقل من حالة الكمون " العماء " إلى الفعل " التشكل ".
رغبة ترغب فينا كما نرغب فيها بصدد موضوع معين، كلمات معينة، هوى معين، مجابهة معينة، وضعية معينة في التعبير...ولكل منها مقاسها ومداسها، لنتخذ الاحتياطات المطلوبة كما لو أننا نطيع الرغبة لتطيعنا وضمن حدود معينة، وبصورة نسبية، كونها نهرية متحولة .
هنا، علي أن أشير إلى الكثرة الكاثرة ممن يستهيون بأمر الرغبة من خلال عبارة " الرغبة في ..." أو " الرغبة عن... "، وفي التداني والتنائي تكون المسافة الاعتبارية عينها، تكون الرغبة القيمومة على ما أنا/ ما نحن فيه، إذ لا أسلم للمرء من أن يقدّر مقام الرغبة، سلطتها، نفاذ فعلها، قدرتها في الصد والرد، في القبول والاحتضان، في الخلط والبلبلة، ليكون أكثر أهلية لحظة النظر فيما يحوطه وما يناط به التكلم فيه رغبياً. الرغبة مميتة عند الاستخفاف بها وكأنها في وضعية استملاك، دون روح، والذين يتعرضون لإحراجات مرده ما أتينا على ذكره .
أي من المستحيل أن أقول مباشرة: أنا رغبتي، لأنني وحدت بين رغبة تمضي بنا إلى الخارج حتى لو كان داخلي، فأنا الخارج بالنسبة لنفسي، مثلما تكون هذه خارجي، وهي مؤطرة، وأنا التي تتمثل في جزء ضئيل مما يمكن التوقف عنده من تركيبتي النفسية، وفي لعبة خطرة .
وربما كان الحديث عن إرادة الكلام في المنحى الوعر ذاته، إرادة غير متيسَّرة. فأنا لست إرادتي إلا إذا تعمقت فيما يمثّلها من النواحي كافة: أي إرادة، في أي اتجاه، إرادة ماذا، وكيف ؟
مثال ذلك، أن نتحدث عن " الإرادة القوية ونسَبها في القوة طبعاً " إنما هي تأشيرة وعي الإرداة في مساحة جغرافية: نفسية وزمكانية معينة، وليس عموماً، وقوة الإرادة هي قوة رغبة وعيت اسمها ومسماها وبحثها ضمن خاصية محددة، ليكون المستهدف نصب العين .
ولو أننا، بالمفهوم الجمعي، تعرضنا لبعض مما يعنينا وفي الحياة اليومية، لرأينا كيف يتلبسنا أو من هم حولنا إرباك وخجل وتعثُّر في التعبير عن المراد، وعسر في النطق أحياناً أخرى، وما يترتب على ذلك من سخط على النفس ورمي التهمة جانباً، أي تبرئة أنفسنا من أنفسنا.
ذلك ما نتلمسه في مواقف ووضعيات تترى من قبل كتاب، باحثين، سياسيين ونقاد....الخ، وهم يبحثون عن مبررات لخيبة أملهم وإحباطهم جرّاء الفشل في إيصال " المعنى " إلى الآخر، ومن شأن ذلك تأزيم الوضع، لا بل العمل بموجب إدارة أزمة الرغبة والإرادة باستمرار، طالما أن هناك ما يحول دون نظر المعني بعالمه النفسي " وعبارة: عالمه النفسي تضم تضاريس كاملة ومناخات وتحولات أجواء وتقلبات ومباغتات، واستحالة السيطرة عليها والتنبؤ بأنوائها..".
ذلك ما يسيء، وأي إساءة إلى تبئيس فعل الروح في الجسد، وخلخلة الأساس العضوي للجسد، وتفتيت وحدته وفي كليته، والرغبة لا تتأتى إلا بجملة من التحاورات المختلفة داخلاً وخارجاً، أي ما يمد في مفهوم الرغبة وقد أصبح فلسفياً في الصميم، وما يبقي الإرادة في موقعها الأكثر حيوية وأهلية لأن يُهتَم بها قياماً وقعوداً، أي إرادة يصلها " مرتَّبها " من الجهد والتبحُّر.
إن الذين يبدعون، الذين يحسنون التفكير الفعلي، الذين يحسنون التكيف مع أنفسهم وهي في ثرائها، وطابعها المغامراتي المطلوب، هم الذين يسهمون في كيفية التعاطي مع أحدث المستجدات في الوسط المحيط وخارجاً، والرغبة منزوعة الإطار، وتلك هي الخطوة الأولى لتكون ينبوعية في الكلام، لحظة الاعتراف بمقامها، بمقدار ما تكون الإرادة في أتم تجذرها الجسدي، إرادة تعمل وفق مبدأ " الاستقراء الناقص " على الأقل، بغية النظر عالياً في النجوم، بغية الامتلاء باللامرئيات في عالمنا والعالم المفارق لنا، وذاك الآخر المستولَد فينا، بنا، معنا.
أن نرغب في الكلام هو أن نتكلم كلام الرغبة وقد أضيئت معالمها، وقد تكلَّم كلامها الذي يمنحني حضوراً ديمومياً في الوجود، وأن نريد كلاماً يعنينا، وكلاماً يستحيل كلمات يحمل بصمتنا بالمقابل، هو أن نفهم إرادة ما نريد في إثر رغبة مفصَح عنها، إرادة تصبح على بيّنة مما نحن فيه وعليه، بالمقدار الذي نعيش ارتقاءات لنا طولاً وعرضاً وعمقاً .
أتراني رغبت في رغبة رغبت بي هي الأخرى، وأردت ما يعنيني، وقد أسهمت إرادتي في إبراز هذا الذي يعنيني، لتشكّلَ كل من الغربة والإرداة نقطتيْ إسناد كبرى لخاصيتي الفعلية ؟


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى