أحمد عبد المنعم رمضان - قبيل العام الجديد

أفقت من غفوتي فجأة، لا أذكر أي شيء عن حياتي السابقة، عن نفسي، عن مكان وجودي، أفقت لأجدني أجري بأقصى سرعة، أهرول وتتطاير الأتربة من حولي ويحف الهواء بأذني محدثا صوت صريخ مزعج، لا أرى هدفي بشكل واضح، ولكن لا بد من أن هناك هدفا أتعقبه، خمنت أنه ما زال بعيدا عني، خارج مجال رؤيتي، وأن عليّ أن استمر في الركض حتى ألحقه، حتما سأعرفه فور أن ألمحه. شغلني الركض بتلك السرعة وتفادي العابرين والسيارات وأكوام القمامة عن التنقيب في ذاكرتي عن سبب عدوي بهذا الشكل أو عما كنت أفعل قبل السقوط في غفوتي. هل ما زلت غافيا؟؟ ولكن لا توجد في الأحلام ذرات من الرمل كالتي تصطدم الآن بعدسات نظارتي، لا توجد في الأحلام نظارات أصل

عند مروري كالبرق الخاطف أمام فاترينة أحد المحلات، لمحت صورتي وهي تسابقني بالمرايا الموجودة داخل المحل، لم أستجمع تفاصيل الصورة أو أدركها إلا بعد بضع خطوات، لم أتوقف رغم بشاعة الصورة وقررت أن أتفحصها لاحقا بشكل أكبر عند أقرب محل ذي مرايا يقابلني. لم يكن محلا هذه المرة، كان زجاج فاميه لأحد البنوك الأجنبية. أبطأت من خطواتي اللاهثة كي أتأمل صورتي على سطح الزجاج البني، يا للبشاعة، كم كبرت وشخت، شاب شعري وطالت لحيتي، تكرمش جلدي ووهن جسدي فانكمشت قامتي، أصبحت عجوزا، صورتي تلك تذكرني بأحد الممثلين القدامى، هل هو توفيق الدقن عندما تحول إلى شيخ كبير في أحد أفلامه؟؟ ربما، كنت قد توقفت عن الجري تماما، وتسمرت أمام صورتي بالهيئة الجديدة، الهيئة المزرية. فكرت في أنني كلما تخيلت نفسي عجوزا أتخيل شعري أبيض كحقل قطن في موسم الحصاد، لم أتخيلني أبدا أصلع! هل بالأمر إشارة لتشابه بين حياتي وحياة والدي؟؟ إلا أنني عندما أتحول شيخا في أحلامي، تختلف هيئتي حسب طبيعة الحلم، ففي أحلامي السعيدة، أكون ممتلئا متوردا مثل بابا نويل، وعندما يستحيل إلى كابوس، أراني نحيفا هزيلا كحالتي الآن.

صدّقت لوقت طويل أن بابا نويل حقيقيا، كنت أقضي آخر ساعات العام المنصرم متدثرا بالبطاطين مشاهدا قنوات التليفزيون الأرضي التي لم يكن لغيرها وجود في ذلك الحين، فأشاهد برامج يختارون فيها الأفضل بكل شيء، ويستضيفون النجوم الذين يرددون بابتسامة يتناقلونها فيما بينهم تمنياتهم بعام جديد سعيد. أظل على ذلك الحال إلى أن أغادر إلى عالم أحلامي الخصبة، فأغوص في نوم عميق على سريري الصغير الذي يحده من يساري الحائط، ومن يميني يضع والداي كرسيا كبيرا كحاجز يمنعني من السقوط من علياء أحلامي إلى الأرض. وفي الساعات الأولى من العام الجديد، أستيقظ لأجد كيسا مليئا بالحلوى المستوردة موجودا على الكرسي إياه. صدقت لسنوات طويلة أن تلك الهدية لا تليق إلا ببابا نويل، وأن الشوكولاتات المستوردة لا يستطيع أن يأتي بها أحد إلاه، وأن لا أحد سيتمكن من التسلل إلى غرفتي دون أن يوقظني إلا بطل أو قديس خارق مثل سانتا كلوز.

لم أدرك خدعة أمي إلا متأخرا، وظللت لعام أو عامين أوهمها أنني ما زلت مصدقا للعبتها الحلوة، كنت أتوق لمتابعة نظرتها إلي وأنا منبهر من قدرة بابا نويل وهداياه القيمة، وهل كان هناك ما هو أقيم وأحلى من شوكولاتات مستوردة في ذلك الوقت؟؟

خرجت موظفة البنك من خلف الزجاج الفاميه وتقدمت نحوي، وقفت على بُعد خطوة مني وهي تسأل بلهجة غاضبة عما أنظر إليه عبر الزجاج. كانت تشبه (لبنى) تماما، نفس الملامح التي عهدتها في مراهقتي، الجسد، الصوت، تقطيبة الجبين غضبا، نفس (السين) الضائعة بين الكلمات، ولكنها لم تكبر أو تشخ مثلما حدث لي، هل تكون ابنتها؟؟ يا لسحر الجينات القادرة على كسر حواجز الزمن والعبور من مرء إلى آخر وكأن الزمن لم يكن. قلت لها بصوت مرتبك أنني كنت أهندم ملابسي فقط، نظرت إلي بتعجب واستنكار قبل أن تدلف مجددا إلى مكتبها.

تذكرت فجأة أمر الجري، فقررت أن أعاود الركض مرة أخرى باحثاً عن أي شيء يدلني عما كنت أتعقبه، دفعتني الغريزة في اتجاهات شتى فتبعتها وجريت دون أن أنظر عن يميني أو يساري حتى لا يتشتت تركيزي من جديد. كانت قفزاتي عالية جدا وعابرة لمسافات واسعة، وأثناء إحداها، حينما كنت أقفز فوق سيارات، عدة أكشاك، شجار محتدم بين مارة، إشارة مرور وعسكريين حولها، لمحت فتاة تجري وشعرها يهفهف خلف كتفيها، لا بد أنها هي، لا بد أنها من كنت أتعقبها منذ البداية. ابتسمتُ فلقد توقعت منذ أول الأمر أن الهدف سيكون مجرد فتاة جميلة، أو لعلنا نحذف كلمة (مجرد)، ففتاة جميلة ليست بالشيء القليل، خصوصا لرجل في مثل هيئتي التي ما لبثت أن أراها.

ورغم أنني أحب الشقراوات، وأهيم بجمالهن، بداية من مارلين مونرو مرورا بديانا ورينيه زيلويجر وسكارليت جوهانسون، إلا أنني لم أحب قط أياً من الشقراوات اللاتي عرفتهن في حياتي، ما زلت أذكر هذا رغم تدهور ذاكرتي، فكانت ثمة صفات مشتركة ومتكررة تجمع كل من أحببتهن أو أعجبت بهن، الشعر الناعم داكن اللون، البشرة المائلة للبياض، الصوت الخفيض الرقيق، الشخصية المميزة، أو ما يسمونه الشخصية القوية، ولكني لا أفضل استخدام ذلك التعبير في تصوير محبوبتي، هل كان فرويد محقاً عندما ربط بين المحبوبات والأمهات؟

التفتت فتاتي أثناء جريها، ألقت نظرة سريعة إلى الخلف، ظننت أنها أيضاً لا تعرف من ماذا أو ممن تهرب، أو لعلها مثلي تظن أنها تطارد شيئا آخر أمامها، التقطتُ أغلب ملامحها قبل أن تعود ناظرة إلى واجهتها. كانت بتلك الهيئة البهية التي تعجبني، لعلني أقول مطابقة للمواصفات، وكأنها مزيج من صور محبوبات سابقات.

زادت سرعتي وتضاعفت قفزاتي الطويلة، حتى كدت أمسك بها في إحداها، حيث لامست شعرها وشممت رحيقها النفاذ، ذلك الرحيق أيضاً من مواصفات محبوباتي المتكررة. كنت أهبط من قفزتي العابرة للحارات والشوارع والأزقة والممرات حينما أدركت تلك اللمسة لشعرها، ولكنها أفلتت مني في لحظة، وانطلقت في عدو سريع جدا لم أر مثله منذ سنين. أيقنت أنها ضاعت مني ولا أمل في اللحاق بها وبشذاها المتناثر. توقفت عن الجري وأخذت أنهج وأزفر هواء في سخونة اللهيب بشكل متسارع وكأنني سأقذف بروحي خارج جسدي.

شرع رأسي في الدوران وذاكرتي في الارتباك، اختلطت عليّ كل الأمور، هل أنا مصاب بمرض من أمراض الذاكرة؟ ألزهايمر؟ فوجئت أنني أقف أمام الزجاج الفاميه للبنك إياه، متى عدت إلى هنا؟! عندما أمعنت النظر فيه لم أجدني شبيها بصورة توفيق الدقن عجوزا كما كنت، بل أصبحت أقرب إلى بابا نويل، ببلوفر أحمر وكرش كبير ووجه وخدود متوردة.

لم أعد أفهم شيئا، في الواقع لا أفهم شيئا من البداية ولكن الأمر زاد تعقيدا، كدت أرحل من مكاني قبل أن تخرج الموظفة الشابة التي نهرتني منذ بعض الوقت، تقدمت باتجاهي ثم ضحكت ضحكة أعرفها جيدا منذ سنين مراهقتي، كدت أسألها عن اسم أمها، ولكنها سبقتني وأمسكت بيدي المثلجة كما تمسك فتاة بيد رجل متهالك وقالت "أنت حكاية". فابتسمت، قالت لي إن الساعة الآن الثالثة وإنها انتهت من عملها وتتضور جوعا. دعوتها إلى سندوتشات شاورمه من (رضوان)، ضحكت الضحكة ذاتها مرة أخرى، لم أعلم لماذا حتى أضافت "أنت قديم جدا". رافقتني بعد أن ضمت ذراعي إلى ذراعها ومشينا بتؤدة مستمتعين بلسعات البرد النادرة إلى أن وصلنا المحل الذي تقلص كثيرا عما كانه أيام طفولتي، حيث كنت آتي إليه كلما ذهبت لزيارة جدتي. تناولنا السندوتشات مستندين إلى البار المواجه لمرآة متسخة داخل المحل، لم أنظر إلى المرآة مجددا، لم أهتم أن أعرف مَن مِن الشخصيات أشبه الآن، حيث أطلت النظر إليها متذكرا حبيبتي الأولى وسنوات شبابي، كانت تتكلم كثيرا، دون توقف، تحكي عن كل شيء وأي شيء، وتشير بطرف عينها للقاصي والداني، وتسخر من هذا وتضحك من تلك، تنشر بنظراتها البهجة في كل مكان. حكت لي عن كل حياتها، ولكنها لم تقل اسم أمها، وأنا لم أسأل، فضلت الاحتفاظ بالأمر غامضا كما هو، أو الاحتفاظ بقناعتي أنها لا بد أن تكون ابنتها.

ثم سألتني عن نفسي، ارتبكت قليلاً، لم أجد إجابة مقنعة، لم أعرف ماذا أقول، كما أنني لا أذكر إلا القليل، ابتسمتُ، ونظرتُ إلى نتيجة الحائط المشيرة إلى ليلة رأس سنة جديدة، دسستُ يدي بجيب بنطالي الجينز مخرجا منه شوكولاتة مستوردة ومددتها نحوها، اشتعلت عيناها بفرح طفولي كالذي وددت دائما أن أبثه في عيون أمها، وفكرتُ أنني لو نظرت الآن إلى المرآة المتسخة المواجهة لنا سأجدني بشعر أبيض، لحية طويلة، وجه وخدود متوردة، تماما مثل بابا نويل.


*قاص من مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى