عبد القادر وساط - من أخبار طاغية نجدان

حكى عمرو بن دينار عن أبي مزاحم، عن عيسى بن جعفر الثقفي، قال:
وجَّهَ إليّ طاغية نجدان ذات ليلة، في ساعة يهجع فيها الخلق، فأردتُ أن ألبس ثيابا تليق بالدخول عليه فمنعني رُسُلُهُ من ذلك وأعْجَلُوني، فدخلَني عندئذ رعبٌ شديد وحدثتني نفسي بأمر جلل لا قبَلَ لي به، وذهبت بي الظنون كل مذهب. فلما دخلتُ عليه حيَّيْتهُ بتحية الطغاة، وبقيت واقفا أمامه وهو مطرق. ثم إنه رفع رأسه إلي وأشار إلي بالجلوس، فجلست، فقال لي: " يا عيسى "، فقلت: " لبيك أيها الطاغية "، فقال:
- لقد امتنع عني النوم الليلة. وذلك لأني بقيتُ مشغولَ الخاطر بالاسم الذي سأطلقه على السجن الجديد...
فسألته:
- أي سجن أيها الطاغية؟
فنظرَ إلي نظرةً انخلع لها قلبي من مكانه، ثم قال:
- ويحك يا عيسى، نبني لكم السجن تلو الآخر حتى تتحقق لكم الحرية المنشودة ولا تعلمون عن ذلك شيئاً؟ ألم يأتك نبأ السجن الجديد، الذي بنيناه غربيّ نجدان؟
قال عيسى بن جعفر:
فأعملتُ فكري لحظةً وقلتُ:
- بلى أيها الطاغية، لقد أتاني النبأ، وعلمتُ ببنائه ولكنّ رهبة الموقف جعلتني أرتبك بعض الشيءً. وأني أرى أن يطلق مولانا الطاغية على هذا السجن المبارك اسمَ الديماس.
فلما سمع مني ذلك الاسم تهللتْ أساريره وسألني:
- الديماس؟ ومن أين جئت بهذا الاسم؟
قلت :
- لا يخفى عليك يا سيدي أن الديماس سجْنٌ كان بناه الحجاج بن يوسف بمدينة واسط. وقد حُبسَ فيه شعراء كثيرون، وذكروه في قصائدهم. ومنهم الشاعر اللص جَحْدَر بن معاوية المُحْرزي العُكْليّ. وهو صاحب البيت المشهور:
فصرتُ في السجن و الحراسُ تحرسني = بعد التلصص في برٍّ و أمصار
وقد حُبس هذا الشاعر أيضا بسجن يقال له دَوّار، حبسه فيه إبراهيم بن عربي، وفيه يقول:
كانت منازلنا التي كنا بها = شتى و ألَّفَ بيننا دوّارُ
سجن يلاقي أهله من خوفه = أزْلاً و يُمنع منهمُ الزوار
وحُبس كذلك بالمُخَيّس. وهو سجن كان بناه علي بن أبي طالب بالكوفة...
قال الطاغية:
- يا عيسى، أتحفظ شيئا من نونية جحدر بن معاوية على الوافر؟ إن كنتَ تحفظها فأنشدْنيها، فإنها من عيون الشعر العربي.
فقلت:
- السمع و الطاعة يا طاغية نجدان، ثم اندفعتُ أنشده:
أليسَ الله يَجْمَعُ أمَّ عَمْروٍ = و إيّانا فَذاكَ لنا تَداني
بلى و ترى الهلالَ كما أراهُ = و يَعْلوها النهارُ كما علاني
فما بين التفرق غَيْر سبْع = بَقينَ من المحرم أو ثمانِ
فيا أخويَّ منْ جُشَمِ بنِ سَعْدٍ = أقلّا اللومَ إنْ لم تَنفعاني
إذا جاوزْتُما سَعَفاتِ هَجْرٍ = و أوديةَ اليمامة فانعياني
إلى قومٍ إذا سمعوا بنَعْيي = بكى شُبّانُهُمْ و بكى الغواني
و قُولا جَحْدَرٌ أمسى رهيناً = يُحاذر وقْع مصقولٍ يَماني
يُحاذر صولةَ الحجاج ظلماً = و ما الحجاج ظَلّاما لجانِ
ألمْ تَرَني غُذيت أخا حروبٍ = إذا لم أجْنِ كنتُ مجنَّ جان
و إبراهيم أرْجى الناس عندي= فكيف فَلَا أراه و لا يراني
فإن أهلكْ فرُبَّ فتى سيبكي = عليَّ مُخَضَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
كذا المغرور في الدنيا سيَرْدى = و تهلكه المطامع و الأماني
قال عيسى بن جعفر:
فلما سمع الطاغية ذلك الشعر زايله الكدر وأمر لي بخلعة ومال كثير. وبعد ذلك خاطبني قائلاً:
- انصرف الآن يا عيسى، سنطلق اسم الديماس على سجن الشعراء في نجدان الغربية . أما اسم المخيس فسوف نطلقه على سجن النقاد بحول الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى