إبراهيم محمود - بَشَرُ نظرية اللغة الخرْقاء

إن نظرة موجزة ومركزة وشاملة على اللغة: ما قيل فيها، وما يتردد، وما يقرَأ فيها، وهي موصولة بما هو ميتافيزيقي كثيراً، حتى الأكثر دنيوية يمضي الكثير في مناقشة هذه النشأة، وهذا يعطيها قوة دفع وانتشار أكثر، وما هو مادي/واقعي قليلاً، تقلق وتفلق إلى درجة كبيرة .
هل يمكن لنا التحرر من سطوة الإيماني، الديني و" نظرية الأسماء " بمرجعيتها الإلهية، والخلل الصادم فيها: من حضر لقاء الخالق وملائكته وآدم، وفي أي مكان وكيف، وبأي لغة ؟
حتى قراءة كتاب مثل " لغات الفردوس " لموريس اولندر توقعنا في هاوية الماورائي.
ضمناً، حتى أطروحة تفكيكي لامع هو جاك دريدي، منذ نصف قرن، لم تمنحه التوازن النفسي وهو ماض في سباقه الماراتوني لتأكيد الكتابة قبل الشفاهة، ولا كان دوسوسير فالحاً في ضبط حدود العلاقات منذ قرابة قرن بين السكوني والحركي: التزامني والتزمني، وهو يمارس/ يجري اقتطاعاً في أوصال اللغة وفق تصورات لا تخرجه عن الجغرافيا الثقافية التي تأثر بها.
ما أريد طرحه، هو المتعلق بما أسْميته بـ" بشر نظرية اللغة الخرقاء "، وكيفي تغليب الوهم على المعتبر واقعاً " أي واقع، فلدينا ما لا نهاية منه ؟ "، وكيف؟ ربما المطروح نفسه أخرج، وقد يؤلبني على قول ذلك كائن أخرق يقيم داخلي. سوى أن الذي أتبصره، وفي ضوء المثار لغوياً، هو أننا نتصرف باللغة دونما إدراك أننا نتجاهل عنفواتها، جبروتها، وعنفها.
فاللغة تسبقنا، بعلاماتها" لا بد أن كوناً قيّض له أن يتشكل بطريقته، وليس بطريقة من زُكّوا أنبياء ورسلاً، وآلهة وسواهم ! " وهذه العلامات لم يحسن البشر تعاطيها أو تداولها، إنما، وكون البشر هؤلاء مشدودون إلى ما هو فلكي، فهم يتنفسون ماداً، ولم يختبَر فيهم ما يخرجهم عن هذا النطاق، وهو مستحيل النظر فيه أو الإحاطة به، لتأتي كل تسمية في ضوء هذا الوضع .
فقد حُدّدت لها أبجدياتها، حروفها، ورسومها، ومارست تقسيمات فيما بينها وتفضيلات وتغليب أفكار، والأصح عموماً: أوهام وتخرصات وتخيلات...الخ.
ولئلا نولغ في المتاهات الكلامية، فإن اللغة منزوعة البداية والنهاية، إن تعاملنا معها من منظور كوني وليس بشرياً، وأن المسمى فيها بـ" الأسماء والأفعال، والحروف " إنما اختلاقات أخرى بغية التشبث بدعامات خشية الانزلاق، فما يخص تراكيب اللغات المختلفة في بناها، لا يعدو أن يكون إجراء بشرياً أخرق هو الآخر لتسهيل الكلام، أي إحكام القبضة على اللغة .
اللغة غير مؤطرة، ونحن نحيلها إلى أصوات تعنينا، وكلمات: مفردات، عبارات وجملاً، توحي إلينا بالتهدئة والسيطرة الزمكانية.
واللغة داخلة في الزمان والمكان، تمتصهما، وكل اجتزاء سعي آخر إلى العبث بمفهومها الكوني، إلى جانب أنها بالطريقة هذه تعني أي شيء آخر، إلا أن تكون حقيقتها " يمكن لنا تتبع بعضاً من هذا التصور الأخرق والمأسوي لدى المعري، وحديثاً لدى نيتشه، ومن يتابع مفهوم البشر حفْرياً: أركيولوجياً، أي ميشيل فوكو، ومن يتعقب ويفكك هذا المفهوم، ويقلقه أمره كثيراً رغم كم وافر وظافر من الكتابات، أي جاك دريداً، وهم يعيشون عذاب اللغة واستبدادها " .
وما علامات الترقيم، من حيث الدور، إلا هذا التلغيم لكليتها، فهي في مجموعها تعلِم بنقاط ضعفنا وما أكثرها، كما أنها تعرّينا ونحن نلبِس اللغات بعضاً ممن نعتبره : إكساء .
وليست العناوين المختلفة، الفقرات، البداية المزعومة، والنهاية المفترضة إلا استتباعاً لسلسلة الخدع التي تترجم البشر وهم منتشون بجريرتهم، بانتصارهم المزعوم على اللغة .
إنها من حيث المفهوم الكوني عبارة عن ثقوب سوداء لا تنفك تبتلع فينا أعمارنا، أطوار أعمارنا، حيث إن نبضاتنا علامات زمنية، كما أن كل وقفة لغوية نعي لما سبق، حيث تتنشط فينما دورات الموت، مثلما أن خوفنا من الصمت يتأتى من كون إدراكنا للغة على أنها وديعة موت وتنخر داخلنا، أي ما يجعل جسدنا مقبرة الزمن المديدة واللانهائية .
فالوقوف استرداد الأنفاس، والأنفاس شهود عيان فضائحيون لذات الجسد المنذور لتلف الزمن، وكل نهاية مفترضة استعجال لزمن صادم، موت جيني معين، إن دُقّق في نفاذ فعل اللغة .
ورغم ذلك نتباهى باختراعنا للغة، وقدرتنا على ضبط الزمكان، وقهر الموت بمقدار حرصنا على الكلام والكتابة، وهو مكر لعوب آخر أردناه حقيقة، لنبعد شبح الموت عنا.
أي حيث إن اللحظة الزمنية الواحدة فعل جيني قائم في جسدنا، وجسد كل كائن آخر، سوى أننا ونحن مبتلون بفضيلة مزعومة هي " العقل " نعتمد سياسات مختلفة لإبقائنا مطئنين .
أي أن النظر رفي اللغة يتطلب تجاوزاً لتلك المقاييس المعتمَدة من قبل البشر، فثمة إمكانية للحديث عنها باعتبارها اللانهائي لكل قول ومكتوب، وأن أطروحة الجسد الفاني هي التي تدحض هذا الزعم المصادق عليه بشرياً بابتكارهم للغة، واعتبار هذه وجوداً بشرياً، في الوقت الذي أحيل الأصل إلى المفارق لهم، كما رأينا " الله هو علَّم آدم الأسماء "، وهذا التعليم مستمد في أصوله المبتدعة مما هو بشري، لحظة الترداد والكتابة الدالين بمقاس بشري. ولنعترف هنا أنه إذا كان البشر أمماً وشعوباً وجماعات، فلكل منها إله أو أكثر، ولكل من هؤلاء طريقة معينة في تلقين " بشره الخاصين " اللغة التي تتناسب ووجودهم وثقافتهم، أي ما يخرج البشر من نطاق المعطى المادي من جهة، وما يبقيهم أسرى له، وفي الحالتين تبدو اللغة خارج كل تصنيف بشري، حيث تمتد في الجهات كافة، كما هو الزمن، وحيث يتم تقطيع كل منهما: الزمن واللغة تبعاً لنوعية الوعي، أو التقدم، سوى أن اللغة في بنيتها تشهد على هذا الوهم المشار إليه.
إن الحديث عن " الأخرق " يرتبط بالخرْق والخارق، وهذا يمكننا من إمعان النظر أكثر في هذا الوهم الذي تلبَّس البشر وأوحى إليهم بما آمنوا به في زمان ومكان مقتطعين .
إن الذي يترجمه الزمن فينا ومن خلال نظيره المكان، يشكل الدرس الأرحب والأعمق والأكثر مأسوية للغة التي تسخر بكلّيتها مما ننسبه إلى أنفسنا، ونحن نقطّع فيها وهي البتَّارة فينا أكثر!

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى