من أحمد بوزفور إلى عبد القادر وساط ومحمد علي الرباوي

نزوة غريبة هذه التي استبدت بابن علي، فدفعته إلى أن يفرض المنسرح على الشعراء. وما هو هذا المنسرح بعد كل شيء؟، أما أنا فأعتقد أنه بحر خفيف العقل أي أن به لطفا لطف الله بنا، لأن أحد معاني المنسرح في اللغة: المتجرد من ثيابه.. فحقه أن يُسمى ( المنفضح ) ستر الله على بحورنا العاقلة. وتمخر أمواج هذا البحر سفينة غريبة ترفضها كل بحور الشعر، ويعتبرها المنسرح ( تيتانيك )ه الخاصة، وهي تفعيلة (مفعولات) هي أخت ( مستفعلن ) من الرضاعة، وإن كان بينهما ما لا يفعل الأخَوَانِ. لكن ابن الكلبي في كتابه الشهير ( أنساب تفعيلات العرب ) ينكرها ويعتبرها تفعيلة من قوارير لا يربطها ببحور الشعر إلا ما يربط الشحم بالساطور. ولم ينفعها ادعاؤها الرضاعة مع ( مستفعلن )، ويبدو أن فقه العروض لا يرتب على لبن الرجز أحكاما شرعية. والمنسرح نفسه يعتبره عدد من علماء العروض ( وبينهم الجوهري ) رجزا. وإذا أصر ابن عليّ علَى فرضه علينا، فأقترح أن نسميه ( المنسرح البلدي )، وننظم فيه قصائد ننسبها إلى بيرم التونسي ومحمد بن إبراهيم المراكشي، ونشهر اسمه في وسائل الإعلام حتى نستفز به المخزن فيهدمه ويريحنا منه.

***

وربما لأن الشعراء الجاهليين كانوا يعتبرون المنسرح رجزا، فإنهم قلما نظموا فيه، ولا أعرف للملك الضليل فيه إلا أبياتا قليلة يقول في مطلعها:
( إن بني عوف ابتنوا حسبا = ضيعه الدُّخلُلُون إذ غدروا )
ولا يعجبني منه لدى الشعراء الأقدمين إلا بيت للأضبط بن قُريع السعدي هو:
( أذود عن حوضه ويدفعني = ياقوم من عاذري من الخُدَعَةْ )
ويعجبني منه لدى الشعراء الجاهليين المتأخرين قصيدة أوس الشهيرة في الرثاء:
( أيتها النفس أجملي جزعا = إن الذي تحذرين قد وقعا )
وفيها بيته الجميل:
( الألمعيّ الذي يظن لك الظـــــن = كأنْ قد رأى وقد سمعا )
وبيت أمية المعروف:
( من لم يمت عَبطةً يمت هرما = للموت كأسٌ والمرء ذائقُها )

***

غير أني عثرت على مقطوعة جميلة لأحيحة بن الجُلاح الأنصاري يقول فيها:
( يشتاق قلبي إلى مُلَيكةَ لو = أمسى قريبا لمن يطالبُها
ما أحسن الجيدَ من مُلَيكةَ = واللبـــــات إذ زانها ترائبُها
ياليتني ليلةً، إذا هجع النـــ = ـــاسُ ونام الكلابُ، صاحبُها
في ليلة لا نرى بها أحدا = يحكي علينا إلا كواكبُها ..... )
ولم يجد عمر بن أبي ربيعة إلا المنسرح لاحتواء هذا الهبل الذي يقول فيه:
( قالت: تصدّيْ له ليعرفنا = ثم اغمزيه ياأختُ في خَفَرِ
قالت لها: قد غمزتُه فأبى = ثم اسبطرّت تشتد في أَثَري
وقولها والدموع تسبقها = لنُفسدنَّ الطوافَ في عمرِ )
وما أجمل ما قال له كُثَيّر حي سمعها:
( لو وصفتَ بهذا الشعر هرّةَ أهلك ألم تكن قد قبّحتَ وأسأتَ لها؟، إنما توصف المرأة الحرةُ بالحياء والإباء والبخل والامتناع )
وكان المنسرح نحسا على ابن قيس الرقيات حين نظم فيه قصيدته التي أراد أن ينكر فيها زبيريته ويصالح الأمويين، فقال في مدح عبد الملك:
( إن الأغرَّ الذي أبوه أبو العـــ= ــاصي عليه الوقارُ والحُجُبُ
يعتدل التاج فوق مفرقه = على جبين كأنه الذهبُ ....)
فقال له عبد الملك: تمدحني بما يُمدحُ به الأعاجم ( التاج على المفرق والجبين الذهب )، وتقول في مصعب بن الزبير:
( إنما مُصعبٌ شهابٌ من اللــــه = تجلت عن وجهه الظلماءُ
ملكه ملك رحمة ليس فيه = جبروتٌ ولا به كبيرياُْ
يتقي الله في الأمور وقد = أفـــــلح من كان همَّه الاتقاءُ )
اما الأمان فقد سبق لك، ولكن لا تأخذ عطاء أبدا.

***

ومن أملح ما قرأت في الشعر العباسي في هذا البحر قول أبي نواس:
( سألتُها قبلةً ففزتُ بها = بعد امتناعٍ وشدت التعبِ
فقلتُ بالله يامعذبتي = جودي بأخرى أقضي بها أربي
فابتسمت ثم أرسلت مثلا = يعرفه العُجْمُ ليس بالكذب
لا تُعطيَنَّ الصبي واحدةً = يطلب أخرى بأعنف الطلب )
وقل العباس بن الأحنف:
( أُحرمُ منكم بما أقول وقد = نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذُبالة نُصبت = تضيئ للناس وهي تحترقُ )
وقول ابن لنكك البصري:
( لا تخدعنك اللحى ولا الصورُ = تسعةُ أعشار من ترى بقرُ
في شجر السرو منهمُ مثل = له رُواء وما له ثَمَرُ )
وفي الشعر الأندلسي قول صاعد اللغوي:
( قلتُ له والرقيب يُعجلُه = مودعا للفراق: أين أنا؟
فمد كفا إلى ترائبه = وقال: سر وادعا، فأنت هنا )

***

وأخيرا يحكون أن شاعرا خرج ليتعشى على شاطئ بحر المنسرح، فسقط في البحر فابتلعه... فقال الناس ( سقط العشاءُ به على منسرح ). سرّحنا الله وإياكم وحفظ الشعراء ( الجميلين فقط ) من عقابيل المنسرح آمين


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى