ناصر سالم الجاسم - الخيبات.. قصة قصيرة

في البدء:
"نكره الخيانة ولكننا نضطر إلى أن نخون"
"اللسان حاستنا الباحثة عن الأمان"

للمرة السابعة أطوي فراشي وأخرج، أدور في الصيف عن فم امرأة وليس في الشوارع نساء، سبع محاولات انتهت ولم أنم، كنت أتخيل فيها جلد امرأة ينهي يقظتي وجلود الخيال حيوانات شتى تملأ رأسي، رأسي الحامل كبريائي لم يعد يحمل شيئاً غير خيباتي، حتى كبرياء النوم الشهي فقدته، أنا الذي كنت لا أنام إلا مضطجعاً على جنبي الأيمن أو منبطحاً على ظهري ها أنا ذا الآن أكب في الفراش على وجهي واضعاً يديّ تحت حجري وفمي يحترف عض الوسادة..

الجنازة السابعة في هذا الشهر ولا شيء يوحي بتوقف الموت، والجنازة الثامنة ورقة في يدي عليّ أن أسلمها لصاحبتها بعدما خلعتُ البالطو الأبيض وأطفأتُ المجاهر وجب عليّ في هذه المدينة التي تقدس الواجب أكثر من أي شيء آخر أن أجلس بجانب أبي في مجلس العزاء السابع.

قال أبي للمرة السابعة: "في شبابي كنت أرى الضفدعة معلقة في جناح سحابة عابرة، وحين رشدتُ نمتُ في المقبرة في ليلة مقمرة وقت أن كانت المقابر بلا أسوار" ووضع يده على كتفي ورأسه يدور كرأس واعظٍ يريد إقناع مستمعيه وأضاف بفخر: "وهذا الذي حملتْ به أمه بعد تلك الليلة المقمرة لم يبكِ منذ ولادته حتى الآن"

المعزون يتدربون على حفظ حديث أبي في سرهم ليذكروه في مجالس عزاء قادمة وعقلي مع الجنازة الثامنة.

وصلت الجنازة الثامنة حين كنت جالسا على ذلك الكرسي الفاقد ظهره وعيني اليسرى مغمضة وعيني اليمنى تسجل ما يدور فوق الشريحة الزجاجية، كانت الجنازة عبارة عن عينة صفراء يجب أن أنقل عليها الرقم المكتوب على الورقة التي زاملتُها دون خطأ.. منذ أن عُينت في هذه الوظيفة المقرفة وأنا أتحاشى قراءة الأسماء في هذا المكان المسكون بالجراثيم وكنت أتعامل مع العينات الأنثوية بسرية مبالغ فيها فرضتها على نفسي مكتفياً بمعرفة الأرقام وكتابتها فقط من جديد.

ولكن تلك العينة الصفراء التي جاءت في هيئة جنازة خرقتْ كل حذر عندي، شيء ما شدني إليها وأربكني وجعلني أخصّها بالاختبار وبالمعرفة دون غيرها من العينات التي يطفح بها المختبر، أعدت الاختبار أكثر من مرة وفي كل مرة أتمنى أن يكذب الاختبار، وحين أيقنت أن النتيجة إيجاب قرأت الاسم، وفي لحظة ضعف كدت أحتضن العينة الصفراء وقاومت بكل ما تبقى لديّ من كبرياء احتضان جراثيم المختبر كلها، وكتبت من فوري الآتي:
المكرم صاحب السعادة مدير المستشفى المحترم
أتوسل إليكم قبول استقالتي المسببة، فقلبي المكابر لن يحتمل بعد هذا الشهر أن يرى جنازة كل سنتين، أقوم أنا وحدي بالكشف عنها وتمييزها بالرقم وكتابتها بالإشارة.

فني المختبر
سعد الهايش


طقوس العزاء المكابرة مستمرة وأبي وحده قد عرف بالجنازة الثامنة حين أوشكت دموعي البكر على الاستيقاظ، قال أبي للمرة الأولى ليشغل المعزين الذين يقدسون الكبرياء عن لمعان عينيّ: "مات نصفها الأيمن وظل النصف الحاوي قلبها حياً وهي حاملة بحملها ذي الأربعة أشهر، فسأل محارمُها قاضياً وأفتاهم بوجوب دفنها على أن يرخوا أربطة حبال كفنها ويخففوا من غطاء قبرها ويعلموه بعلامة لعل الله يحدث بعد ذلك أمراٌ وبعد خمسة شهور شق لنفسه بماء جسده الأصفر فتحة في غطاء القبر وخرج منها، فرآه قناص طفلاً عارياً قزما يخرج من القبر ويلعب بين القبور مع الدويبات في الصباح، وإذا أظلم المساء يعود إلى القبر من فتحته التي فتحها، فأخبر ذويه بما رأى وعادوا إلى قاضيهم فسألوه ثانية فأفتاهم بأن لا تصبح القبور إلا وأطفال من أصلابهم يلعبون بينها ليألفهم فيأخذونه معهم، وحين أمسكوا به صرخت الأم في قبرها صرخة عظيمة ومات نصفها الأيسر، فقاموا وغطوا فتحة القبر إكمالاً لفتوى القاضي ومنذ ذلك الحين والناس تسمي ذاك الطفل القزم بقُبير"

حين تأكد أبي من أن عيونهم كلها صوب فمه لكزني في خاصرتي فقمت من المجلس خارقاً أول واجب في حياتي.

وحيد في غرفتي والكأس الثامنة أمامي وصورتها تسبح فيها متغيرة بحملها والحاجز الذي يفصل بين النوم واليقظة والصمت والبكاء ينهار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى