مقتطف حيدر عاشور - الحريقُ الصامت

فجأة وجد نفسه إزاء موقف لا يحسد عليه، ولم يفكر يوما بأنه يفكر في شخص أخر أو يعره أي اهتمام بعد أن عانى كثيرا من رتابة وملل الحياة التي يغوص في بقاياها...وجد نفسه مرة واحدة عاشقا، ومد لها حد النخاع.. حلما بتلك المرأة الارستقراطية المزهوة بجمالها وكأنما يتسلم شفرة سرية ،فلقد ايقظت في أعماقه أحاسيس غريبة ومتناقضة بعد أن اجتاز عقده الأربعين ، تداعت في ذهنه أفكار كثيرة على مدى أعوام وتجلت ذكرياته الأثيرة على شكل شريط سينمائي وهو لم يجرب مثل هذا الإحساس الدافق الذي سلبه دون هوادة ليتوهج في أعماقه حريق صامت يحاصر كريات دمه التي بدأت تهرول بسرعة .
أصابته الدهشة وهو يصغي أول مرة الى دقات قلبه وهي تتسارع ... هل اتاه حنين من الحب ؟ واشتغل هوس العاطفة دون نذير مسبق ...لماذا لم يجرب العشق ؟ ولماذا هذا الحرمان من الإحساس ... تداعت في ذهنه صور النساء اللواتي التقى بهن وتركن في نفسه أثرا أو إحساسا محنطا... شعر بان كل النساء عبارة عن دمى والفرق بين هذا الملاك الجالس أمامه وبينهن كالفرق بين الزهور الحقيقية والزهور البلاستيكية... اللعنة على هذه العاطفة عندما تغزو القلب الفارغ من الوجيب والنبض المجنون لتحوله الى كائن يتعاطى النزف السري والصيوان المشتعل .
كرر النظرات اليها ،وهي جالسة قبالته متوجسا من أمر صعب وعسير والغريب انها لم تعره أي اهتمام بادي ذي أو تنظر اليه ،ولو خلسة ... تصرفات عجائبية ما الذي تريده هذه المرأة الملغومة باللامتوقع !ولماذا تحاول أن توهمه وتغريه بغنجها الانوثي الدفين والمستتر ؟... إنها اللعبة الأنثوية للإيقاع به والتلذذ بعذاباته .
ارتجفت أوصاله عندما التقت نظراته بنظرات امرأة كبيرة السن جالسة بقربها قد تكون أمها أو قريبة لها... لمحته يكرر النظر الى وجهها فابتسمت له بخبث قائلة وهي تومئ الى فتاته :
-أليست هي جميلة .
انتبهت فتاته الى حديث المرأة المسنة وهي تخاطبه فوجدته ساكنا هائما فأومأت برأسها دلالة التحية لكي تقتحم محرابه الغريق بالتأملات فردّ عليها بتحية خافتة يحاصرها القلق ... ومع انسياق نظراته الى وجهها المستدير شعر بأن شلالا من الموسيقى بدأ يغزو جسده مع تصاعد أصوات الآلات التي بدأت تعلن عن بدء الاحتفال .
الساعات الثقيلة والمسافات الشاسعة التي تفصله عنها كانت تملكه الدنيا كلها، كانت المسافة بينهما ملغومة بالقلق والخوف وطغيان الأشواق...ولعبت الهواجس المتمردة في رأسه وبدأ إحساسه الدفين يتوهج ويشتعل...أهو الحب المتوقد انطلق الى فضاءات الدلالة والهيام ... شعر بالارتياح والغبطة حين اكتشف انها أيضا تراقبه بحذر أنثوي ،وعندما رفع كأسه الى فمه أومأت بإصبعها بعدم الشرب ،فاندلع في أعماقه فرح طفولي وكأنها تبلغه بأنه شراب يذهب بالعقل الراجح!!استغرق في عينيها فوجد بحرا عميقا من العواصف المتأججة يسعى به الى وديان شعرية رغم صخب الموسيقى وكثرة الحضور وحشود الراقصين أمام منصة المسرح ،انه لم يشعر إلا بعينها ،كان وجودها قد حجب عنه أية رؤية ...جاء النادل ووقف فوق رأسه من اجل طبق طعام وإكمال زجاجة الشراب الذي لم يتذوق طعمه منذ أمد بعيد... كرر النادل نداءه لكنه لم يشعر بوجوده كان غائبا عن كل شيء وحاضرا أمام عينيها وكأنه متعبد مستميت لم يشعر به إلا ان وخزه في كتفه ليعلمه انه في خدمته ... شكر النادل مرة أخرى دون ان يلتفت اليه كي لا تضيع فرصة زمنية وهو يستغرق في تأملها بانتشاء عميق وحالم ،لأنه كان يحلم بها في صحوته وقبل نومه واستيقاظه في الليالي التي قهرت كبرياءه كثيرا وجعلته مشدودا اليها بجنون دافق ،ساد الصخب من جديد في القاعة عند صعود صاحب الحفلة للمنصة معلنا ترحيبه بالجميع ... فاضطر أن يقف كالتمثال الرخامي أمامها وهي تقترب منه حتى شم عطرها العذب وهي تقول:
-حاول ان تفهم شيئا انك مدعو الى هذه الحفلة من قبل أصدقاء يحبون وجودك أمامهم دائما وفجأة انتبه الى فصاحة ومشاكسة الفكرة ،وادراك سر البطاقة الجميلة التي وصلته بلا معرفة مسبقة ... انها هي اذن الملاك الذي يتربع على القلب الأربعيني ...انها إذن سبب وجوده وسط الصخب ..خططت بذكاء لتضعه في هذا الموقف .
بدأت هواجسه تضطرب وازدادت دقات قلبه وتأملات عقله ...انه يعرف هذا الوجه المستدير لكنه اكتشف السر أخيرا وأدرك إنها هي الملاك الذي خطط وسحبه الى فضاء العشق رغم الصخب وهوس الاحتفال ،لم يبق أمامه سوى الصعود الى مرحلة الانتشاء الخرافي أو الذهاب الى اقرب عيادة طبية لفحص صلاحية روحه ...فلقد صحا القلب الهاجع وماتت الذاكرة .

*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)



تعليقات

لم يبق أمامه سوى الصعود الى مرحلة الانتشاء الخرافي أو الذهاب الى اقرب عيادة طبية لفحص صلاحية روحه ...فلقد صحا القلب الهاجع وماتت الذاكرة .

توقفت عند هذي العبارة ، اسلوبك شيّق في السرد ، عاشت يمينك ، تحية وسلام ..
 
لم يبق أمامه سوى الصعود الى مرحلة الانتشاء الخرافي أو الذهاب الى اقرب عيادة طبية لفحص صلاحية روحه ...فلقد صحا القلب الهاجع وماتت الذاكرة .

توقفت عند هذي العبارة ، اسلوبك شيّق في السرد ، عاشت يمينك ، تحية وسلام ..
الأستاذة فاتن عبد السلام بلان... اسعدني مرورك على النص ...تحياتي لك
 
أعلى