حيدر عاشور - الهروبُ الى الماضي.. قصة قصيرة


منذ عامين وهو يكاد يتعفن في غرفة رديئة في فندق من الدرجة الثالثة وربما اكثر ولم ينتق هذا المكان الا بسبب قلة ما يملك من المال، وانقطاعه عن العالم وعن زوجته وابنه عادل الذي تركه وهو في سن الخامسة وها هي سنتان ونصف السنة قد مضت على وجوده في هذه العلبة شبه المهجورة، لا يخرج منها الا للتسوق السريع وهو متخف وغيّر الكثير من ملامحه حتى لا يكتشفه احد من ابناء قريته (ام النخل) او احد اشقاء داود السلمان او احد ابنائه الذين لا ينقطعون عن الذهاب الى بغداد لقد كاد يجن من هوس الوحدة القاتلة وعدم ورود اي اخبار من اهله وقريته فلا احد يعرف عنوانه او الطريق اليه الا صديقه فاضل الذي يعمل بالحدادة فهو من اهالي احد احياء شارع الرشيد الذي يقع فيه فندق التسامح وكلما ينظر الى لافتة الفندق يتساءل في اعماقه عمن يسامحه وهو يكاد يموت وحيدا ويتآكل في غربة صدئة وتوحد يوسوس بالجنون لاسيما وهو ملقى في متون الليل والبرد والصمت الموحش وانيابه التي تقطع الروح قبل الجسد وتذكر تلك المقولة الشهيرة (ان الجنة بلا ناس لا يمكن العيش فيها) و (حشر مع الناس عيد) وكثيرا ما شعر بانه في سجن انفرادي وربما يكون السجن اهون طالما يزورك فيه اهلك في ايام محددة اما هو فلا اهل ولا زيارة والى متى يبقى يقترض المال من صديقه القديم فاضل الحداد على الرغم من انه قد تفضل عليه ايام كان يملك حريته وامواله الطائلة وهو يأتي ببضاعته الزراعية من قرية (ام النخل) الى (علوة جميلة).
وظل يفكر حين خطر بباله السجن : لو انه قد سلم نفسه الى الشرطة أ كان يعاني ما يعانيه اليوم من التوحد والضنك وانقطاعه عن العالم وزوجته وابنه واشقائه وامه المتعبة وهو يدرك ان اخويه شاكر ويوسف يبحثان عنه ولو وجدا خيطا لاهتديا وكم كلف فاضلا لكنه مشغول بعمله وهو في حقيقته يتحسس ويبتعد عن هذه الامور ويتخوف من الاحتكاك بالآخرين ..
ولم تبارح عقله وذاكرته تلك الساعة المشؤومة من اصيل احد الايام حين انفرد بداود السلمان قرب نهير صغير، واطلق عليه الرصاص ثم فرّ الى احد الاكواخ ومنها الى الشارع العام واستأجر سيارة (بيك اب) وتوجه الى بغداد واختفى تماما عن كل الانظار وكانت الرصاصات هي الرد على العداء القديم والمستمر مع اسرة داود السلمان ومضايقتهم له ولأسرته في كل الامور بل ان بين الاسرتين ثأرا يتجدد وعداء يتأجج حتى ان المصاهرة حرمت والتواصل انقطع ولأنه الابن الاكبر قرر ان يتخلص من داود وعجرفته وصلافته وتجاوزاته التي لم يعد يحتملها، ورغم توسلات الام والزوجة والشقيقين الا انه قرر في سره ان ينهي علاقة داود بالحياة عبر هذه الرصاصات السريعة والهروب الخاطف.
وحين استقر كل شيء بدأت الوحشة وعدم معرفة ما جرى ويجري بعد ذلك.. فأفكاره لم تنسب بسهولة.. ظل يهرش رأسه ويفتل شاربيه علامة القلق وعدم الاستقرار، هل قتل احد اخويه ام اختطفت ابنه الذي من المفترض ان يكون قد دخل المدرسة الان وما هي اخبار الام المتعبة والحبيبة سعدية زوجته.. هو يدرك حجم العتب المر الذي سيكلونه له وسيأكلون وجهه على هذه المغامرة التي لم يحسب حسابها.. انها لحظة انفعال وثورة اعصاب لم يستطع الاحاطة بها..
هبط درجات السلم الفندقي المتآكل، وقد قرر مواجهة كل شيء والذهاب الى "علوة" (جميلة) وليره من يراه فقد نزع من صدره فتيلة الخوف وتخلص من اقنعة التخفي وكفى تخثرا وتعفنا في هذه الغرفة ذات الروائح الكريهة ليتحرر من خوفه وليواجه مصيره ولو انه قد امضى هاتين السنتين في السجن لكان افضل.. وقد يكون اهله وعشيرته قد حلوا المسألة حلا سلميا بدفع الدية او بالتراضي او بالفصل وتخصيص امرأة لعشيرة داود السلمان كما هو سائد في العرف العشائري.. دارت في ذهنه كل دوامات المتوقع واللامتوقع وانها لمواجهة لا تختلف عن لحظة اطلاق الرصاصات في ذلك الاصيل الكالح في اطراف قرية (ام النخل).
استقل السيارة في باب المعظم المتجهة الى "علوة" جميلة نزع عن رأسه الغطاء شعر بانه يستقل مركبة غريبة عنه فلقد فارق عالم السيارات ونسي تنقلاته الغريبة حيث لم يستقر في مكان ابدا، كان دائم الترحال وتحول الى تمثال بليد في محيط اكثره بلادة.
حين ترجل واصبح وجها لوجه امام مكاتب شراء المحاصيل والخضراوات وتطلع من بعد الى تلك الوجوه المألوفة في ذاكرته واستعاد رائحة الايام الماضية، توقعه في مجساته الخفية هجوما مباغتا او رصاصة طائشة او طعنة سريعة ولذا فقد استنفر حواسه وبدأ يحرس نفسه بنفسه.. وفي نظرة خاطفة من عينيه المتوجستين لمح وجها يعرفه جمد في مكانه وصعق وكاد يصرخ من شدة الدهشة عقدت الحيرة لسانه.. ما الذي يحدث في هذا العالم الذي بدأ يدوي من حوله.. انه داود السلمان بلحمه وعظمه لقد كبر قليلا وزاد بياض شاربيه، ووجهه ما يزال يضحك ضحكته الهستيرية المعتادة.. اضطر ان يختفي خلف احد الاكشاك حتى تهدأ اعصابه التي ذهبت بها المفاجأة المذهلة وغير المتوقعة دعك عينيه خوفا من ان يكون ما يراه مجرد كابوس او حلم غرائبي..
هو يعرف ومتيقن انه ترك العلبة الفندقية وها هو في منطقة جميلة.. وها هو داود السلمان يقهقه وكأنه مقذوف من حانة رديئة..
اين ذهبت رصاصاتك يا جميل وكيف نجا هذا الكائن من الموت.. ضرب جبهته حزنا على عامين ونصف العام عاقب روحه وجسده على جريمة لم تقع وقع العقاب بينما انسلت الجريمة في ممر غامض ابتعد قليلا من مكان داود السلمان وتوجه الى عدنان احد اصحاب المكاتب وصديقه منذ سنين.. تعانقا بلهفة وعدنان يصرخ من هول المفاجأة.. وضع كفه على فم عدنان ووجّه اليه سؤالا مقلقا وكأنه به ينتظر نبوءة او بشارة العالم كله : لماذا لم يمت داود.. وهل حقا هذا داود ؟!
صرخ به عدنان : انه داود بعينه وليس له شبيه وذهبت رصاصاتك الخلب في الهواء الطلق.. واخبره بانه جرح جروحا في ساقه ويده اليمني ونقل الى المستشفى وتشافى بعد ايام وعاد الى القرية وقد تم تسوية الامر بين الاسرتين بسعي عشائري والامر الذي انشغل به الناس في القرية هو اختفاؤك، ضرب جميل رأسه بكلتا يديه وجلس على الارض هاجمته مشاعر متناقضة بين السخرية مما حدث وعجز ان يفعل شيئا هل يبكي ويلطم على وجهه ؟ ام يضحك وينقلب على ظهره ؟ لكنه لم يفعل سوى ان عانق صديقه عدنان بقوة جنونية شعر عدنان بالخوف ازاءها.. وقرر جميل ان يعدو بأقوى ما في ساقيه من قوة باتجاه الشارع الرئيسي تاركا كل شيء خلفه متجها صوب قرية (ام النخل) التي تحولت فجأة الى حلم الاحلام وامنية ما بقي من العمر وهو يركض بخطوات متسارعة، صور متناقضة.. صوت رصاص قرب نهير صغير..بكاء ابنه وانين الام العجوز ونظرات الزوجة ودهشة الاشقاء .. داود ممدد على الارض الغرفة الرديئة في اعماق الغربة القاتلة .. توقف قليلا باحثا عن سيارة تنقله الى عالم اخر عالم مكتظ بناسه واهله وصولاته القديمة.


* حيدر عاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (بوحٌ مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى