مهدى يوسف ابراهيم - الغريب

و نظر جدي إلى الأفق البعيد لبرهة ، ثم ابتسم و قال و المسبحة تتدلى من أصابع يده النحيلة " جاءنا يا بنى ذات يوم صيفى ما . بدت الشمس و كأنها قد أدارت ظهرها إلى الكون كله لتصب شواظها على قريتنا . كنا قد خرجنا للتو من المسجد بعد أن فرغنا من أداء صلاة الظهر " . و أردف و هو يميل طاقيته إلى حافة رأسه كعادته كلما أوغل في السرد " فجأة وجدناه أمام باب المسجد . كان جائعا ، و منهكا ، و هزيلا و نازفا . حيانا ثم سقط على الأرض فحملناه في الحال إلى ديواني الكبير هذا . أحضرنا له الحكيم من الشفخانة فضمد جرحه ، و أطعمناه من الدجاج و اللحوم ما يكفى لجيش جرار " . سألته " ألم تتساءلوا عن أصله و فصله ؟ " نظر جدى فى عيونى بحدة ثم قال " الهواجس و التساؤلات هذه هى سمة جيلكم أنتم . أما نحن فلم نكن نسأل الضيف و عابر السبيل أن يرينا بطاقته الشخصية لنكرمه" . و مد عصاه الخيزران الطويلة و أشار فى شكل دائرة فى الفضاء مردفا " هذه القرية التى تتحول الآن إلى مدينة صغيرة ، هذه البيوت الأسمنتية الباردة التى تراها كانت مبنية من الطين و أمام كل واحد منها راكوبة قش عملاقة يجلس تحتها أصحاب البيت و جيرانهم طوال اليوم . و هذه " الايريلات " المرتفعة إلى الفضاء كأرجل عاهرات وهمية ، و التى لا تجلب سوى المشاهد العارية و الثقافات الملتوية، ما كنا نعرفها . كان هناك تلفزيون واحد فى بيت جدك الكبير . زمان ، كنا نجتمع فى دكان عمك المرحوم " ود خريبان" عقب صلاة العصر و نتسامر حتى منتصف الليل . كنا نصلى المغرب و العشاء أمام الدكان . كنا شلة نقية ، فيها الختمى و الأنصاري و الصوفى ، و حتى " محمود الشيوعى " الذى جاءنا من بلاد السوفيت بشهادة اقتصاد كان حين نذهب إلى بيته يأمر ابنه الصغير أن يحضر لنا أباريق الوضوء و سجادات الصلاة ، بل كان يقرأ معنا "راتب المهدى" فى عيد الأضحى " . نظرت إلى جدي متأملا وجهه الأسمر الوسيم ، عيناه جميلتان كعيني الأنثى ، انفه طويل مستقيم و شفتاه رقيقتان . ذكر لى أبى أن النسوة كن يتشببن بجدى ، و منهن من كان يغمى عليها حين ينزل إلى ساحة الرقص ، متمايلا بقامته المديدة كصارى السفينة . ربطتنى بجدى منذ الصغر علاقة حب متبادلة . كنت حفيده الأثير و كان أحب خلق الله لى . و منذ صغرى أدخلني إلى خلوة القرآن ، و اشرف على تعليمي الحكومي ، بل خاصم أبى حين ارتأى الأخير أن يخرجني من المدرسة لأساعده فى فلاحة الأرض . و لعل الفضل الأكبر فى كونى درست "صحافة و إعلام" يعود إليه دون أهلي . كان جدى يصر أن أرافقه حين يسافر إلى القرى المجاورة مهنئا و معزيا . ذكروا لى انه كان متفوقا فى دراسته لكنه اضطر أن يضحى بأحلامه الأكاديمية حين توفى أبوه ، تاركا له مهمة تربية إخوته و أخوانه- و ما أكثرهم !. سألته " و هل أعلمتم الشرطة بالأمر ؟ قهقه جدى حتى بدأ صدره يصدر صوتا ككرير ماكينة سيارة قديمة و قال " شرطة ؟! و هل كنا وقتها ندرى شيئا عن الجرائم ؟ ذات عام زارنا مرشحون كثير . هذا تابع للحزب الفلانى و هذا للحزب الفلتكانى . يختلفون طولا و عرضا و يتفقون فى الابتسامات البلاستيكية و الوعود الجوفاء . أذكر منهم واحدا قصيرا بشكل مضحك . اضطررنا أن نوقفه على كرسى ليخاطب الجمع . قال لنا بأنه ، حال فوزه ، سيبنى لنا شفخانة و مدرسة و مركز شرطة و جمعية تعاونية و سيحفر لنا قنوات إضافية للمشروع . طبعا حين فاز لم نر وجهه بعدها . لكن حكومته أحضرت لنا جوز عساكر قصار القامة جلسوا معنا سنين عددا دون أن يحدث أمر ذو بال فى القرية ، فتزوجا منا و عملا بالزراعة مثل بقية أهل القرية . سألته و أنا اضغط على يده بحب " و ماذا حدث بعد أن أحضرته إلى ديوانك ؟ " . تنهد جدى طويلا ثم أردف بأسى و صوته يتهدج " حدث إن القرية منذ تلك الليلة لم تعد كما هى . أتعلم يا أحمد .. كنا قبل قدوم " عثمان العالم " نعيش فى قريتنا هذه فى وئام غريب . كان يعيش معنا "دينكا " فى أطراف القرية . صحيح كانوا يصنعون الخمور ، و كانوا لا يدينون بديننا ، لكنهم كانوا إخوة لنا ، يقفون معنا في الأفراح و الأتراح ، بل إن منهم من يرافقنا إلى المقابر لدفن موتانا . و كانوا حين يحضرون إلى سرادق عزائنا يقرأون الفاتحة و يحيوننا بتحية الإسلام . لم نكن من أولياء الله الصالحين الذين تشد إليهم الرحال ، لكن سفيهنا ما كان يجرؤ على رفع عينيه إلى جارته أو بنت فريقه . كانت " ست العرقى " تعيد لك باقى مبلغك إن أخطأت أنت و دفعت لها مبلغا إضافيا ، و اذكر إن شيخ الطريقة كان يذهب إلى ملعب القرية ليشاهد الصبية يلعبون كرة القدم ، و كان يستمع إلى أغنيات عبد العزيز داؤود .فجأة بدأ الحقد يتفشى بين الخلق . بدأت البيوت تتهاوى كان زلزالا ضربها . اذكر انه حضر إلى القرية يوم السبت . استيقظنا يوم الأحد على ولولة زوجة "ود خريبان " . ركضنا إلى البيت فوجدنا ديوان الرجل قد سقط عليه فتوفى فى الحال . و حتى اللحظة لا يعلم احد ماذا حدث لذاك الديوان العملاق . بعد يومين تهاوت عربة بنسوة فى الخور الذى يمد القرية بماء الأمطار للشرب و الزراعة . كن عائدات من عزاء فى قرية صغيرة مجاورة . علمنا فيما بعد أن " ود برناوى" السائق كان ثملا يومها . و هو أمر لم نعهده عنه أبدا " . و مسح جدى دمعة ترقرقت على عيونه و استطرد " بعد خمسة أيام تعارك شابان فى السوق . فاستل احدهما خنجرا و اغمده فى بطن الثانى فارداه قتيلا " . سألته و الفضول يلتهم خيالى " و ماذا حدث بعد ذلك ؟ " . انزل جدى رجليه من عنقريبه الى الأرض و قال " تلك الجمعة خطب فينا " عباس المبروك " إمام المسجد . قال إن ذاك الغريب الذى جاءنا فجأة و كأن باطن الأرض قد تقيأه إلى خارجها هو أس المصائب ، و انه ليس ببشر و إنما شيطان رجيم و علينا أن نقتله . نظرنا إلى الإمام فى لا تصديق . حتى إمامنا بات يحرض على القتل !
فجأة ، انسل هو – الغريب- من بين الخلق فى المسجد العتيق . وقف أمامنا بقامته الطويلة ، ووجهه الوسيم ، و ابتسامته الخلابة . حيانا فى أدب جم ، فأخذنا بصوته العذب . و قال إن المصائب إنما هى ابتلاء الله ، يمتحن بها أقوياء الإيمان من ضعافه . و ذكر أن قدر " ود خريبان" أن يموت شهيدا تحت أنقاض ديوانه ، كما أن نسوة القرية قد استشهدن لان الغريق شهيد بنص الحديث . و أمرنا أن نخرج الدينكا الذين ظلوا يعيشون معنا سنوات طويلة من القرية لأنهم ٍسبب المصيبة ، فهم يصنعون الخمر التى احتساها " ود برناوى " مما أدى إلى سقوط العربة فى الخور و بالتالى موت النسوة . صمت أبى لبرهة و استطرد " كانت فى حديثه طلاوة و عذوبه غريبة ، فاستمعنا إليه و حواسنا مستلوبة ، و دواخلنا مبتلة بمطر وسيم . و عيوننا تغرورق من الدمع . و لم يكد يفرغ من حديثه ، حتى بدأ المصلون يهتفون بسقوط " عباس المبروك " ، و نصبوه إماما للمسجد بدلا عنه " .
بعد أسبوعين توفى جدى فى صمت . كنت قد ذهبت إلى الخرطوم لاستكمال بعض الأوراق الرسمية و حين عدت فوجئت بالفاجعة . قال أبى إن جدى استدعاه تلك الليلة ووصاه على إخوانه و أخواته ، وكأنه كان يعلم بتاريخ موته ثم أعطاه طردا ليسلمه لى . فتحته بعد أيام من الوفاة فوجدت فيه تنازلا لى عن بعض الحقول فى القرية . تلك الليلة تمددت على فراشى و صوته يرن فى دواخلى " ثم جاء " عثمان العالم . نصبناه إماما لنا . بعد شهر كان قد أصلح أكبر تاجر ذرة فى القرية . و أضحى يتحكم فى أرزاقنا . تزوج أربعة نسوة دفعة واحدة ، و أصبح يطلق و يتزوج مثلما يشاء ، و كلما حدثناه في أمر أقنعنا بعكسه بسهولة غريبة . أذكر انه مرة انقع رجلا بتطليق زوجته ليتزوجها هو . نعم ، تغير بقدومه كل شئ . الجار ما عاد يعرف شيئا عن جاره . بتنا يموت فقيرنا جوعا و يموت غنينا تخمة . هاجر شباب القرية إلى المدينة و قويت عيون النسوة فبتن يدخن النرجيلة و يرقصن أمام الغريب و يضحكن بأصوات مجلجلة أمام الوالد و الأخ . عاد رجلا الشرطة إلى مخفرهما ليحاربا الجريمة ، و تركا الزراعة " .
سافرت إلى الخرطوم بعد ذلك للعمل ، و اقترنت بزميلة لى هناك ، لكنى الوشائج بينى و بين قريتى لم تمت ، فظللت أزور الأهل في الأفراح و الأتراح ، بل و أزورهم بلا مناسبة حتى تقوى الجذور بين أبنائي و أهلهم الطيبين ، و بذلت قصارى جهدى فى أن أوصل صوتهم المبحوح الى آذان من ندعوهم ظلما بالمسئولين !
ذات صباح ، اتصل بى أبى . قال لي إن القرية قد استيقظت فلم تجد " عثمان العالم " . تبخر فجأة مثلما قدم . ذهب الناس إليه فى ديوانه الأنيق ليحيوه و يسألونه أن يدعوا الله لهم لينزل الغيث ، فقد اجدب الغيم و أناخ الصيف بكلكله على أضلاع القرية الرقيقة . دلفوا إلى بيته فلم يجدوا سوى زوجاته ساهمات يقلبن أيديهن فى حيرة . قالت أكبرهن " بات معى ليلة أمس ، و كان كعادته رقيقا مجاملا . عند الصباح ذهبت لأيقظه فوجدت الفراش ملطخا بالدماء و لم أجده . تلاشى كالدخان !" .
ذاك اليوم أعدنا " عباس المبروك " إلى إمامة المسجد !!!



مهدى يوسف ابراهيم
جدة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى