حيدر عاشور - مطلوب عشائريا.. قصة قصيرة

لم يكن يحب حمل السلاح ، كان يكتفي بالعصا الغليظة يلوح بها ذات اليمين وذات الشمال وهو يدخل في عمق البستان الملغوم بالفاكهة بأنواعها وهي تتلألأ في أغصانها لتعطي لوحة تشكيلية ربانية الفن تثير جمال الناظرين وهي تنحني نحو الأرض لثقل حملها وتتكئ بعضها على جذوع النخيل لتشكل نشرة ضوئية من مصابيح ملونة متوهجة رغم عتمة الليل، أثاره منظر شجرة التفاح الممتلئة عن بكرة أبيها جلس القرفصاء أمامها وهو يحسب كمياتها بخبرة فلاح قضى عمره في مهنة الضمان لكافة الفواكه وأنواع التمر، اخرج من جيبه علبة الدخان وأشعل سيكارة ونفث دخانها إلى أعالي النخيل وهو يبتسم للخير القادم... وفجأة رمى من يده السيكارة وجلس أرضا وهو يشاهد في سكون البستان امرأة ورجلا جالسين وسط ساقية البستان يتغزلان.. لم يحرك ساكنا بل بقي يراقب عن كثب ماذا يفعلان... وسأل نفسه العديد من الأسئلة من هما؟ ولماذا هذه البستان بالذات؟ عليّ الاقتراب أكثر لأرى وجهيهما عن قرب.. واخذ يتنقل ببطء شديد وأصبح على بعد أمتار عنهما شاهد الشاب وهو يرتدي ملبسا عشائريا , أما هي فكانت تتزين بالعباءة ويتوهج وجهها جمالا... عرفهما على الفور إنهما أولاد شيوخ المنطقة والشاب ابن مالك البستان... لا يعرف ماذا يفعل وأي تصرف يتجه إليه أنها ورطة حقيقية وسط هذا الليل الذي لم ينتصف بعد وهما يجلسان وسط هذه الخضرة وتعلوهما شجرتان كبيرتان من فاكهة الرمان مسلط عليهما بشكل عامودي القمر في منتصف ربيعه يبثهما ضوءا ربانيا ليشكلا منظرا من جنة الأرض يلتقي بها العشاق من زمن حواء وآدم والفرق أن حواء وآدم كانا تحت شجرة التفاح الممنوع قطفها وهما تحت شجرة الرمان... سمع صوتها وهي تطلب أن يقطف لها رمانة فأجابها في همس.
- كل مرة تطلبين نفس الطلب وأنا اكرر عليك إن الفاكهة ليس ملكنا إنها مباعة وهي على أشجارها، فقط البستان هي ملك أبي.
ماذا ؟إنهما دائما يلتقيان هنا وانا لا اعلم .. إذن شريكي على علم بذلك ... لماذا لم يقل لي سوف أعاتبه على ذلك ... ولكن شريكي هادي عصبي جدا لا اصدق إن يقبل بذلك .... حبس أنفاسه ولم يستطع كتمانها فأطلق صوتا عفويا انتبه إليه ابن الشيخ فسحب مسدسه واختفت البنت وسط الساقية والخضرة وأصبح في وضع حرج جدا كلاهما ينتظر رد فعل الأخر فقال ابن الشيخ بصوت منخفض يدل على خوفه
- من هناك أخرج وإلا أطلقت النار عليك .
- اهدأ يا وصفي أنا أبو القواسم الكاظمي ضامن هذا البستان ... اعذرني فان حراستي هذه الليلة وكان عليك إخباري بدخولك البستان.
- أسف أبو القواسم الأمر في غاية السرية إذا عرف والدها ووالدي يقتلاننا ونحن احدنا يحب الأخر من زمن والخلاف قائم بين عائلتينا وأنت تعرف المصير ونحن لا نلتقي كل يوم بل كل منتصف شهر مثل هذا اليوم وفي نفس المكان لسفر والدي وانشغال أبيها شيخ مزعل الوهاب.
خرج أبو القواسم وصافح وصفي وأعطى حبيبته الرمانة وقال لهم .
- أنتما تعملان ما يغضب الله أولا هذه المرة الأخيرة التي اسمح لكما بها باللقاء وسأكتم فعلتكما هذه ... صحيح البستان ملك أبيك شيخ مردان الحايض ولكنها الآن ملك الضامن يا ابني ... اسمع سأخرج أنا هذه الساعة من البستان واذهب إلى مضيف الشيخ مردان واخرج بعدي بنصف ساعة أو أكثر كي لا نقع في خطأ ندفع ثمنه أرواحنا.
تركهما أبو القواسم مسرعا لا يلتفت إلى الوراء وهو يتوجس الخطر في أي لحظة وعند دخوله المضيف وجده خاليا من أي شخص معتقدا إن الجميع نائمون فمجرد جلوسه دخل عليه أشخاص من عشيرة مردان مرحبين به حاملين إليه الماء والزاد واخذ يحدثهم عن حكايات أيام زمان وكيف كانت البساتين آنذاك . حتى غلب عليه النعاس فنام حتى الصباح تناول فطوره وأردف راجعا إلى البستان والقلق يساوره والشكوك تحيط به عن تلك الليلة وأحداثها الغريبة ... جاء شريكه هادي واستلم منه البستان بعد أن تجولا فيه، ووقفا بنفس المكان الذي كانا يجلسان فيه الليلة الماضية، والذي حصل كأنه حلم من أحلام العشق والغرام فضحك ملء فمه.. وينظر إليه (هادي) متعجبا عن هوسه وهو (يفر فر) بكلتا يديه .
وجاء يوم مناوبته في حراسة البستان وقبل أن يخرج من داره جاء إليه شريكه هادي ليقول له:
- ماذا فعلت؟ شيخ مردان وشيخ مزعل يطلبانك فورا
- ألم تعلم لماذا ؟
- كلا ولكن البستان ملغومة بأفراد العشيرتين منذ ليلة أمس وحتى لاح الفجر والبنادق محشوة بالرصاص .
ذهب أبو القواسم إلى البستان فوجد شيخ مردان بانتظاره والشرار يتطاير من عينيه فقال له فور وصوله:
- أبا القواسم هل أنت من سمح لوصفي بالدخول إلى البستان مع بنت الشيخ مزعل.
- ما هذا الكلام يا شيخ... هذا كلام جارح كيف تتحدث معي وكأني (....) أنا إنسان مكافح وشريف وابن عشائر ولا ارتضي أي فعل شين من هذه الأفعال التي لا تشرف والذي نقل لك الخبر هو إنسان سوء وواشٍ وأنا أطالبه عشائريا لان يوم أول أمس كنت في حالة مرضية ألمت بي وذهبت إلى مضيفك ونمت الليل كله هناك وأبناؤك قاموا بالواجب وأكثر .
تفاجأ الشيخ والحاضرون من قوة رد أبي القواسم والدفاع عن نفسه وابهر الحاضرين بما قاله ... هذا ما فكر فيه أبو القواسم حين طلب من وصفي وحبيبته البقاء لوقت بعده تحسبا من أن يراهم احد وفعلا قد شاهدهم احد أفراد عشيرة مزعل وأصبحت العشيرتان على حافة الحرب العشائرية فيما إذا اثبت لقاء وصفي بابنة شيخ مردان إما أن يقتلا بالعرف العشائري أو حرب لا تنطفئ إلا بانتهاء إحدى العشيرتين .... أما نكران أبي القواسم جاء عن خبرة في الأمور العشائرية ويعرف ماذا يريد من كل هذا متوسم بالقول إن الله ستار يحب الساترين ... فجاءه صوت الشيخ مردان :
- أنت ستقسم اليمين أمام العارفة.الذي سيكون الحاكم بيني وبين الشيخ مزعل .
- تأمر شيخ ما يكون خاطرك إلا طيب .
وفعلا اجتمعت العشيرتان في مضيف محايد وتوسطتهما العارفة ... وظل وصفي قلقا جدا أراد إن يعرف بماذا يفكر فيه أبو القواسم؟ وقبل دخول أبي القواسم إلى مضيف الحكم شاهده وصفي شاخصا بصره وأبو القواسم مبتسم وهو يردد ستنال ما تتمناه هذه الليلة يا وصفي كن قويا. وجاء صوت ينادي بدخول أبي القواسم للقسم أمام العارفة وأدى القسم بعدم رؤيته للعشاق ولم يسمح لأي احد دخول البستان ... فكذبت العارفة الشاهد من أل مزعل فكان الحكم إما أن يقتلا أو يتزوجا تحاشيا للفتن المودية للقتال والخراب ... أعلنت العارفة موافقة الشيخين زواج الحبيبين بأقرب وقت ... وتزوجا فعلا ورزقا بنين وبنات وهذا كان بحكمة أبي القواسم الذي كان يعلم إن حفظ السر وكذب الشاهد ونكر الحبيبين تكون النتيجة العشائرية هي الزواج المحتم ... ولم يقضِ كثيرا أبو القواسم أيامه في بستان الشيخ مردان كضامن لان في ليلة من ليال الشتاء وبحراسة مشتركة بين هادي وأبي القواسم وهم يحصدون المحاصيل لغرض بيعها سمعا صوتا في الجهة الثانية من البستان وهي الجهة القريبة إلى لقاء الأحبة القديم قال أبو القواسم:
- هادي لا تستعجل الأمور وأنت حامل هذا السلاح القاتل قد يكونان عاشقين جديدين في بستان مردان.
صرخ هادي بصوت منخفض لصوص يسرقون الفاكهة وهناك رئيس لهم يعلو سور البستان وآخرون يسرقون
- أطلق فوق رأسه النار ليهرب ونمسك الباقين
- ماذا تقول بيدي سلاح وأشاهد لصوصا يسرقون ولا اقتل احدهم خذ يا رئيس الحراميه.
سقط أرضا ميتا بعد ان أصابه هادي برأسه وفر الباقون وفر أيضا أبو القواسم وسجن هادي خمس عشرة سنة وكتب على باب البستان مطلوب (ضامنها ) عشائريا وخسروا كل شيء بلحظة بعد أن زرع أبو القواسم الثقة بين الفلاحين والعشائر وهدمها بسوء تصرف هادي ببندقيته التي لم تخطئ طلقتها الأولى .
هكذا مسح عينيه أبو القواسم بمنديله وهو يقرأ عبارة، العمارة مطلوبة عشائريا ... لفتت هذه العبارة نظره واعادته إلى أكثر من خمسين سنة حين ترك البستان بنفس العبارة ليقول في نفسه : موجة العصر الحديث تعيد ذكريات عشائرية قديمة ظننت قد انتهت مع تطور الزمن بعد أن قضت الجمهورية على الإقطاعيين وأرست قواعد القانون في البلاد ... إذن في بلدي يموت القانون أحيانا لتعيد العشائر سطوتها ليس في الأرياف والقرى فقط بل دخلت المدن المتحضرة لتكون عشائر مدنية تتحدى القانون وان كان حيا.

*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى