نجيب محفوظ - نبقة في الحصن القديم.. قصة

نبقة هو الابن الأخير لآدم السقاء. أنجبه بعد وفاة تسعة في الوباء الكبير، ونذره لخدمة الزاوية إذا حفظه الله له. ووفى بنذره فسلمه لإمام الزاوية عندما بلغ السابعة، وقال لأصحابه:

خدمة بيت الله أشرف خدمة، وبين الصلوات والأدعية والدروس يتشرب قلبه النور والبركة.

وأكثر الوقت قضاه نبقة في الزاوية، وأقله في بيته أو مع الصبية في الحارة، ورضي الإمام عنه ونوه بنشاطه وأمانته. وأخذ يدنو من العاشرة ولكنه مُنيَّ في أثناء ذلك برحيل أبويه. وعُرف عنه حبه للحصن القديم القائم فوق القبو. وكان يسأل كل من هب ودب:

- متى يفتح باب الحصن الموجود داخل القبو؟

ويسمع إجابة واحدة تقريبًا، هي:

يفتح مرة في العام عند زيارة رجال الآثار ولكنه صار منزلًا للعفاريت.

ولما بلغ نبقة العاشرة استأذن الإمام في زيارة قبر والديه، فقال له الإمام:

ليس الوقت بموسم الزيارة.

ولكن الصبي أصر متعللا بحلم رآه. وذهب. ولم يرجع في الوقت المتوقع، ومر على غيابه ثلاثة أيام. وقلق الإمام وظن أن الصبي اختار لحياته سبيلا جديدا أو أنه حدث له حادث. وكاشف شيخ الحارة بمخاوفه وأرسل الشيخ خفيرًا للبحث عنه، ولكن قبل انقضاء اليوم الثالث بساعات رئي الصبي قادمًا من ناحية القبو، ووجهه مكتسي هدوءا لا يناسب ذنبه. وسأله الإمام معاتبًا:

أين كنت؟

وإذا به يقول بهدوء:

كنت في ضيافة الراحلين وقد ملئوني معرفة وقدرة.

فتفحصه الإمام بنظرة ذاهلة، وقال:

أجننت يا نبقة؟ أم مسّك عفريت؟

فقال نبقة:

- أستودعك الله، أنا ذاهب.

- إلى أين؟

- لم أعد أصلح لأكون خادمًا لك ولا أنت تصلح لتكون سيدًا لي.

فصاح الإمام:

عليك لعنة الله.

ومنذ تلك اللحظة عرفت الحارة الوجه الآخر لنبقة بن آدم السقاء.

باغت الناس بجرأة لم يتصور أحد أن تصدر عن صبي في سنه ولا حتى من رجل مجنون.

يعترض كثيرين من وجوه الحارة. يبدأ كلامه عادة بقوله "اخجل من نفسك"، أو "كيف سولت لك نفسك أن تفعل ذلك"، أو "أمازلت تتظاهر بالوقار؟"، وعقب تلك الافتتاحية يذكر فضيحة من الفضائح الأخلاقية أو المالية. وحصل صخب وغضب. وتساءل الناس "من أين يجيء ذلك الصبي بتلك الأسرار؟"، وذهب بهم سوء الظن كل مذهب. ووقعت فتن وخصومات وانتشر القلق أيما انتشار. وقيل بحق إن الحارة ركبها عفريت. وكبر الأمر إلى إمام الزاوية فاعتبر نفسه مسئولًا على نحو ما عما يحدث، وأصابه شيء من سوء الظن الذي تفشى في كل مكان. من أجل ذلك ذهب إلى نبقة وصاح به:

عد إلى زاويتك.

فقال له نبقة بقوة أشد:

عد أنت إلى زاويتك أما أنا فلا زاوية لي.

ورماه الإمام بالكفر وانقض عليه مصممًا على أخذه بالقوة، ولكن الصبي دفعه بالقوة الجديدة التي استمدها من المجهول فتقهقر الرجل فاقدًا لتوازنه وهو يرتجف من الذعر.

وقدم شيخ الحارة مهرولًا فقال له الإمام:

أدرك الحارة قبل أن تفقد سمعتها إلى الأبد.

فصرخ الصبي:

أنطقت بحرف واحد كاذب.

فصاح شيخ الحارة:

القانون يجب أن يحترم.

فرد عليه الصبي وهو يزداد جنونا:

أنت لا تحترم نفسك فكيف تطالبنا باحترام القانون!

وغضب شيخ الحارة غضبًا شديدًا، وهجم على الصبي بعصاه. ضربه أولًا بخفة فلم يبال ولم يتحرك. فراح يقوي من ضرباته والصبي يتلقاها بهدوء والناس ينظرون في ذهول. وبدا أن الصبي يزداد قوة واحتمالًا وأن أمرا بالغ الغرابة يقع في الحارة على مرأى من أهلها.

ما روي لي بعد ذلك من حكاية نبقة، غير متسق ومغالى في غرابته. فثمة كلام غامض ومتضارب عن معركة نشبت بين الناس وشملت جميع الأركان. وأنها لم تنفض قبل هبوط المساء وتدفق أمواج الظلام. وقيل إن نبقة قبض عليه، وقيل إن الأقدام داسته. أما سكان القبو فقد أكدوا أنه حي وأنهم رأوه يتجول فيما وراء القبو، وأنه كان مع كل خطوة يكبر ويتضخم ويتعملق ويمتد في جميع النواحي حتى تعذر عليهم أن يروا رأسه [المنطلق]* في الفضاء.

ومازال قوم يعتقدون أنه مقيم حتى اليوم في الحصن القديم.


* تنويه: الكلمة التي بين المعقوفين وردت في الأصل "المنطلقة"

[SIZE=6]** قصة تنشر لأول مرة[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى