مها يونس - باقة الزهور الأولى.. قصة قصيرة

تجاوزت منتصف الثلاثين وما زالت تتمتع باطلالة نضرة وجمال اشقر مرغوب يلاحقها ذات السؤال :لماذا لم تتزوجي لحد الأن وكلك محاسن وحسنات ؟ وتجيب بابتسامة باهته : أنه النصيب.
شهادة الدكتوراه ونبل المحتد وفوق ذلك كله نقاء في السريرة وعفوية محببة لم يلوثها زيف أو نفاق وأن شابها القليل من الزمجرات التي تصدم أحيانا متلقيها الأ انها في العموم بدت وكانها مكمله للوحة جميلة كقطة شيرازية تشهر مخالبها في سويعات متباعده.بدا لها ان الأعوام تسير خارج حساباتها وأن الكلمة البغيضة (العانس) سترافق مسيرتها القادمه في الحياة أن لم تجد لها مخرجأً قبل حلول الأربعين وعدا عمن يعرفها عن قرب كانت تبدو أصغر بعشرة أعوام من عمرها الحقيقي لنعومتها وقامتها الدقيقة .تغريد البلابل يوقظها صباحاً لتستقل سيارتها الصغيرة القديمة الى عملها اليومي حيث تجد في رفقة العمل ما يشغل فراغها ويزجي ساعاتها وبعدها العودة الى البيت القديم الفاره و الحديقة الوارفة الحاوية على الورود وأشجار البرتقال المتدلية كمصابيح صغيرة تضيء لياليها الرائقة .الفت هذه التفاصيل الصغيرة في البيت الذي ولدت فيه والعابق بذكريات الطفوله والصبا حيث لا تخلو زاوية من أجترار مشهد أو موقف معين وكان ملاذها الأمن و موطن الدعة والأطمئنان .أتصل هاتفيا لأول مرة بها وميزت بسرعة صوته الأجش ذو النبرة المتسلطة على الرغم من انه لم يعرف بنفسه لثقته بانه غني عن التعريف , طلب رؤيتها بصيغة من لا يتوقع سماع كلمة نفي أولا يحب أن يسمعها ,وما لبثت أن عرفته وعادت بها الذاكرة الى ما قبل عام حين التقته صدفة في مكان عمله وحياها كما يحي الرجل صبية صغيرة وهو غارق في زحمة العمل كجراح مرموق وكان الرجل الحلم لمن فاتها عمر الأحلام أولمن خرجت من تجربة زواج بالترمل أو الطلاق فهو الكهل العازب الذي جمع بين الجاذبية الطاغية والعقل الراجح مستمدا اعتزازه بنفسه من حسب معروف وسعة في الرزق رافقت طفولته وشبابه ,لم يعرف خلالها معنى الهوان أو مر الحاجة حتى ولوكانت لكسب ود أجمل الفتيات وأصعبهن منالأً وهاهوالأن ينتظر منها كلمة (نعم ) بعد ان رأها صدفة في ندوة طبية وتبادل معها حديث قصير أكتشف بعده أنها أبنة الجيران الطفلة الجميلة التي كانت تمر أمام داره بجدائلها الشقراء وحقيبتها المدرسية في تلك الضاحية الهادئة من العاصمة .وفي ثواني أدرك أنه يكبرها بعشرين عاماً وتجربه حياتيه قد تفوق ما خبرته كل حياتها.
أدرك بحنكته أنه أمام كنزمكنون لم يقدره الشبان حق قدره والأ لبذلواالمستحيل للظفر به وهذ من حسن حظه ,تساءل في أعماقه هل يخفي هذا المظهر الخلاب والكبرياء الناعمه أي أسرارجعلتها بعيده عن الزواج أم انه النصيب كما يسمونه وشاء نصيبه أن يفوز بها بعد أن أيقن أن لأ حظ له مع الفتيات وعليه البحث عن زوجه من نادي الزواج الثاني الذي انتمى له ؟ها قد أكتملت كل الحلقات المطلوبه لشريكة الحياة المثالية وأيد الكثيرون من معارفه سمعتها الناصعة وطيب ذكر عائلتها الكريمة وهذا ما أثلج فؤاده أذ لم يكن مستعداً لأحتواء من تقل عنه في المستوى الأحتماعي والثقافي كونه سليل البيوتات والصالونات وقد خبر المرأه في أبهى صورها وتعرف على الكثيرات عن طريق الصداقة البريئة وغير البريئة .لكن الأمر يختلف الأن قرر الزواج للمرة الثانية وأمامه المستقبل المجهول وخلفه الشريط الطويل من الذكريات من حياته الاولى . كانت الخطوة الأصعب هي اللعب على أوتار قلبها أذأستشف من تفكيرها صعوبة تحييدها بالمال والجاه وأنها ما كانت لتوليه اي أهتمام لولا أنجازاته العلمية والتفاف الناس حوله وهيبتهه عليهم , الواضحة وضوح الشمس ,اذن فليبدا الخطة التي قضى أناء الليل والنهار في هندستها بحيث لا تدع أي ثغره للتملص أو الهرب ,في هذا البلد المثقل بالموت والحروب والحصار حيث الف البشرلعبة القدرلأبقاء جذوة الحياة متوهجه وكانت هي ممن أعتدن على قسوة الحياة اليومية ممثله بمشقة مهنة الطب في هكذا بلد مستعينة باحلامها في التحليق الى فضاءبعيد حيث الحرية والسلام ومن ثم أكمال مسيرتها الطبية وتحقيق طموحها العلمي ظل الأمل يراودها بان تصل الى المنبع لتنهل منه بعد أن نهلت من الجدول , وفي مسيرتها هذه ذاقت الكثير من خيبات الأمل كأي أمراه عاشت وتعايشت مع أصعب الظروف ,ولجت عتبه مكتبه الانيق بتردد وفي يدها طلب لتسهيل أمر وظيفي معين لم يستغرقه غيردقائق عبر أتصال تلفوني مع مسؤول رفيع مما ضاعف من شعورها بسلطانه في أحد أكثر مراحل حياتها ضعفاً يطبق على أنفاسها تتابع الأيام الرتيب الهاديء الى درجة الملل و الخواء .شكرته وهي تهم بالأنصراف فابتسم بدهاء قائلاً :انت زميلتنا وخدمتك واجبه , ما أن حل الصباح التالي حتى رن جرس الهاتف وعلى الطرف الأخر مديرها في العمل يطلب منها القدوم الى مكتبه لملاقاة ضيف مميزيسأل جاء لزيارتها .أدركت على الفور ماهية هذا الضيف من رنه التعجب أو التهكم التي شابت صوت المدير على غير عادته وأيقنت بحدسها الأنثوي أن هذه الخطوة هي بداية النهاية لعزوبيتها وان لم تتبين خيوط اللعبة بعد الأأن أحساسها يسيرها كالبوصلة اليه وما أن مشت الخطوة الأولى في الحديقة المؤدية الى غرفة المدير حتى غمزتها أحدى زميلاتها بان لا تتأخر على من ينتظرها .
ثم لقاء أخر وأخر قبل أن يطرح عليها السؤال المصيري وقالت نعم بدون مناقشة التفاصيل , أجابته بالصمت حينما طلب منها ولمرات عده أن تخبره بشروطها ومخاوفها .
لاحقتهما الأعين أينما ذهبا و لمن بادرهما بالتحية ,كانت أمارات الدهشة هي الأنفعال الظاهرأو الباطن والفضول لمعرفة أكبرقدر من التفاصيل الخاصة بلقائهم وأختيارهم لبعض .
لم يفارقها شعور الزهو والفخار وهي تتأبطه ولم يخطرببالها أن مشاعر الزهولديه بامتلاكها كانت أكبر,خيمت سحابة من الهم منذ الصباح الباكرلهذا اليوم الصيفي المحدد لخطوبتهما الرسمية وهي تعد لزينتها وللجلسة العائلية التي ستضمهما مع أبواها وأشقائها وشقيقاتها, وما أن حل المساء حتى أرتدت ثوباً مزركشاً وأخرجت الكعك من الفرن وتأملت غرفة الجلوس لأخر مرة قبل موعد قدومه وهي تشعر بالقشعريرة كمن يقف على حافة الهاوية ولم تجرؤ على دعوة أي قريبة أو صديقة وهتف في أذنها صوته قائلا :ستتذوقين السعادة والهناء في أعلى حدودها .
حلت الساعة السادسة وهي محاطة بشقيقاتها أما الأب القلق فقد غادر البيت باكراً هرباً من أحاسيسه المتناقضة .شخص الجميع الى الباحة الخارجية بعد مرور ساعتين من الأنتظار القلق حيث توقفت سيارته وترجل منها حاملاً باقة من الزهوريمشي خلفه رجل مسن في اللباس الشعبي حاملاً كيساً للحلويات .
تأملته باعجاب مشوب بالحزن للطلة الصامته التي لم ترى مثلها من قبل في كل المناسبات المماثله ,ترددت الأخت الكبرى في أطلاق بعض الزغاريدودخل الجميع بهدوء غريب رغم الأبتسامات المتبادلة.تذكرت الأعراس الصاخبة التي حضرتها من قبل لصديقاتها ومعارفها والأصوات المتداخلة للموسيقى والزغاريد مع سحابة العطور الانثوية ممتزجة بروائح أطايب الطعام.
سألته باستحياء :لماذا تأخرت ؟ وكانت أجابته صارمة : يجب أن تتعودي على حقيقة أن الجراحين لا يملكون السيطرة على مواقيتهم وردد كلامه خادمه القديم منذ الصبا .
بعد أنتهاء العشاء البيتي والدردشات المتشنجة المغلفة بالمرح المصطنع أنصرف الجميع .
تفرست في باقة الزهور الصناعية التي بدت لها شعبية الذوق بعض الشئ لا تتماشى مع أناقته المترفه , أستلت بطاقة صغيرة محشورة بين الزهور وقرأت كلمات شكر موجهه له من أحدى المريضات ربما ,راودتها ضحكة مريرة ,هل ياترى ضاق وقته الى الحد الذي حجب أنتباهه عن هذه الزلة المقيتة لابد أنه سلك الطريق الأقصر بأخذما كان موجوداً أمامه في عيادته بدلاً من صرف الوقت والجهد لشراء أول باقة زهور لها وفاته أن يزيل البطاقة الأصلية ليبدلها بأخرى أو على الأقل يستعمل أي وريقة ثانية نفي بالغرض ولنفس الغرض كانت علبة الحلويات ,لقد نسي ان عينيها الواسعتين تريان أدق التفاصيل وتحتفظ بها في خزينة محصنه داخل الذاكرة الحديدية .سالت دموعها على وسادتها الأثيرة , غردت الطيور قرب نافذتها مرة أخرى معلنه قدوم يوم جديد وناداها صوت الأم الهادئ المحبب يدعوها الى تناول الأفطار الصباحي ,أعدت الثوب الذي سترتديه في دعوة الغداء الرسمية لهذا اليوم .


* نقلا عن:
د. مها يونس : باقة الزهور الأولى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى