يحيى فضل الله - تداعيات الداخل الحي - الخارج الميت

yahiafadlalla.jpg

الله أكبر

بذلك الخوف الأبي تجاه الموت ترتجف الأصوات مرددة التكبيرة الأولى في صلاة الجنازة، مساء حزين، ريح متكاسلة تلامس شواهد القبر مكثفة ذلك الخوف الأبدي الميتافيزيقي، قلوب واجفة، نباح كلاب بعيد، نجوم تحاول أن تخترق شبكة الغبار التي تحاصر الأفق فتبدو النجوم شفيفة وشاحبة شحوب هذه اللحظة التي تحول فيها ذلك الضحوك الساخر إلى معنى غريب للغياب، صوت الثاكلات لا يملك إلا استمرار متخذا مختلف النبرات رغم هذا الاختلاف المتباين في الأصوات إلا إن أنين(بثينة) شقيقة بابكر الصغرى. كان أنينا متواصلا ومتأهلا بذلك الحزن الفاضح وتلك الحسرة التي يبدو أنها لا تنتهي، لم تستطع والدته حاجة (التاية) ان تحتمل هذا الغياب المفاجئ لابنها فنفت وعيها بعيداً وفقدت حتى تلك القدرة التي يتميز بها الهذيان، غابت الحاجة (تاية) عن وعيها في اللحظة التي عرفت أن أبنها (بابكر) قد ذهب هناك الى حيث لا عودة.

(الله اكبر)

وقف (عصمت) خارج ذهنه تماما وقف من ضمن المصلين في الصف الثالث، كان يتجول بعيدا هناك حيث تحتفظ الذاكرة بتفاصيل صديقه(بابكر)، لا يملك حتى إمكانية أن يردد مع المرددين يتصيب منه العرق وتصب في دواخله أنهار من اللوعة والحزن و تتبعثر حيويته أمام غموض التساؤلات والحيرة تجاه تلك الحقائق المطلقة التي يقذف بها الموت في وجه الحياة و عنفوانها.، تشرخ أصوات الثاكلات خواطره المتعبة، يحدق هناك في فراغ لا نهائي، ينسي تماما ان يشارك بصوته الذي انسحب الى الداخل، شواهد القبور أمام عينيه يهرب منها متعلقا بغبار الأفق، ينظر بلا معنى نحو أضواء المدينة البعيدة، يحتل جسده ارتجاف غامض ومخيف، تضيع منه حروف الكلمات فيتحرك في منطقة ذهنية خالية من التفكير المرتب، يهذي هناك حيث تختفي قيود المنطق. حيث لا يمكن أن يتصور أحد. لا أحد يملك حق أن تكون هناك تفسيرات. عذاب مثقل يجثم على العقل ويخربش بأنياب حادة في الأنسجة التي تحرض على الحياة.

تخلت تلك الريح عن كسلها واختفت النجوم خلف مظلة كثيفة من الغبار الهائج، أكياس النايلون تتطاير وتلوذ بتلك الأشجار الشوكية المتناثرة بين القبور، الطيور التي ألفت المكان استلفت أصواتها ذلك النواح المحتج على ما يحدث، نباح الكلاب البعيد يتزايد، الريح تحكمت في تلوين أصوات الثاكلات وكأن الريح قد حرضتها علي الصراخ المؤلم، ضجة تلك الأصوات المتباينة كانت لاتعني شيئا أمام صراخ الدواخل العنيفة، من بين دموعه كان (عصمت) يحاول أن يلجأ إلى ذاكرته ومنزويا في الأقاصي البعيدة للخواطر. نقاء الدموع تلوث بغبار حرقته الرافضة تماما لفكرة غياب (بابكر) الأزلي، يراه هناك متجولا بحيويته الأليفة في كافتيريا الجامعة يملا المكان بضحكاته وصرخاته ذات الألفة الحميمة .يري بابكر وقد اقترب منه هامسا ((عصمت تعال تابع معاي المشهد دة)).

دائما ما كان (بابكر) يحاول أن يحول التفاصيل إلى مغزى عميق، كان صاحب لسان لاذع، عقلية نقدية حادة تجاه كل الأمور، صريحا وفاضحا، يدخل مباشرة إلى حيث يكمن جوهر الموضوع.

((في شنو يا بابكر؟))
((يقول ليك تعال معاي))
((جدا، بس أوع يكون مقلب))
((مقلب شنو، يقول لك تعال))

تحركا نحو تلك المنضدة التي اختارها كموقع للمراقبة، أشار ل (عصمت) بطرف خفي نحو المنضدة المقابلة لهما، أنتبه (عصمت) لطالب وطالبة كانا يتناجيان (بابكر) في أذن (عصمت)

((تابع حركة عيونها)) وأضاف بعربية رصينة قائلا ((أنها تنطلق بالهوى)) كانت الفتاة تتحدث وكأنها تغني، يكفي أن تنظر في عينيها لتعرف ماذا تقول، تتحرك فيها العيون بالمعني الواضح والخفي من خلال غلاله شفافة من الإيحاء الأنثوي الذي قرر أن يجتذب بتعقيدية انفعالات الذكر التي لا تجيد فن الإخفاء.

((لاحظ لون اليد وقارن بلون الوش، من فوق مصرية ومن تحت زنجية))

ويضحك(بابكر) ضحكة مكتومة، كان الشاب لا يملك إزاء ثرثرة العيون إلا الإستسلام كان يوافق علي كل شيء، لا يعترض أبدا، تثرثر الفتاة ويضحك (بابكر) بحشرجة خفيفة ويقول

((بلاهي شوف الانتيكة ده مستحمل البراية دي كيف)) نهض الشاب، تلك الفتاة لم تتوقف إذا التفتت خلفها وواصلت ثرثرتها مع شاب آخر كان يقف هناك عاد الشاب يحمل معه قرطاسين من التسالي جلس في مكانه وتدفقت تلك الثرثرة نحوه أعطى الشاب قرطاسي التسالي للفتاة، (بابكر) يهمس ((لاحظت يا عصمت بعد الأناقة دي كلها اشتري ليها تسالي يا غالي)) استلمت الفتاة التسالي وسرعان ما بدأت فرقعة خفيفة تتخلل حديثها المتصل والشاب يسمع فقط ويوافق علي كل شئ، اخرج الشاب منديلا من جيبه، مسح به علي جبينه، ارجع المنديل ومد يده نحو الفتاة كي تعطيه ما تيسر من التسالي وهنا دخل (بابكر) في جوهر الموضوع ودون أي مقدمات صرخ في وجه الشاب قائلا ((ليه، ما أنت اشتريت قرطاسين ما تشيل واحد وتديها واحد ليه تديها الاثنين؟ وبعد ذلك تمد يدك تقولها أديني؟ ما معقول اسمح لي أقول ليك يا شاب أنت من النوع البعدين هيسلم ماهيتو كلها))

ضحك (عصمت) من خلال دموعه التي هربت من العيون واختارت أن تتقاطر في الدواخل، كاد أن يضحك بصوت عال ولكنه انتبه إلى الأصوات الجماعية التي هدرت بالتكبير.

(الله اكبر)

يهرب سريعا من كل ما يوقظ هذا الواقع، يري بين تجاويف الذاكرة مدرج الفلسفة حين جاء ذلك الأستاذ داخلا المدرج، كان الأستاذ مولعا بمناهج التفكيك، بكل الطموح الفلسفي كان يحاول دائما إثارة الاسئلة، الاسئلة الغريبة، مداخله إلى المحاضرة كانت دائما تتسم بالغرابة التي تثير من النقاشات مايكفي تمام لتأكيد مبدأ الغموض الذي يقود إلى الكشف، دخل ذلك الأستاذ إلى المدرج حمل قطعة طباشير واتجه نحو السبورة ووضع نقطة بيضاء في الوسط تماما من السبورة والتفت نحو الطلبة قائلا: ((شايفين النقطة دي؟ عايز واحد يتكلم عنها من وجه نظر بس النقطة دي يعني شنوا)) ترتعد أوصال (عصمت) وترتجف لهدير الأصوات التي تعيده قسرا إلى واقع اللحظة الميتة، يصر على ذاكرته، يري فيما يرى الأستاذ يبحث بتلك النقطة البيضاء على سواد السبورة عن متحدث جرئ تدخلت أصوات الطلاب في شكل همهمات مبهمة يأتي صوت الأستاذ مصرا على أمر النقطة: ((يا شباب النقطة دي بتعني ليكم شنوا؟ بدون تعقيدات أنا عايز الانطباع الأول ما في زول عايز يتكلم؟))

بابكر يفرقع اصابعه

((ايوة أتفضل))
((ضروري يا أستاذ نتكلم عن النقطة دي؟))
((بالضرورة))
((ممكن طلب بسيط؟))
((جدا أتفضل))
((لو سمحت يا أستاذ النقطة دي ممكن تقلبا لينا بالجهة التانية؟))

وانفجر المدرج بالضحك وضحك (عصمت) ضحكة معلنة تنتمي إلى الداخل الحي ولوثت ضحكته هذا الخارج الميت، ضحك بصوت عال، اهتز الصف الثالث في صلاة الجنازة، امتد الضحك انكسر وقار الموت الهيبة وابتذلت صفات الموت النبيلة، امتدت ضحكة (عصمت) جلجلت وطفت على صوت الريح والثاكلات وتوقفت تفاصيل صلاة الجنازة وفقدت صفوف المصلين ذلك الانتظام المهيب، تبعثر المصلون امسك بعضهم بتلابيب عصمت ولكنهم لم يمسكوا ضحكته التي أخذت تعلو وتعلو وانفلت (عصمت)، هرول نحو جنازة (بابكر) تسبقه ضحكته الناشرة والمعلنة رفضها للأمر، هرول (عصمت) نحو عنقريب الجنازة وبغتة وبدون أن يتوقع أحد امسك (عصمت) بالعنقريب وقلبه لتسقط جنازة (بابكر) على الأرض، تدحرجت الجنازة على الأرض وبكل ضحكته وقع (عصمت)عليها كان يضحك ويبحث عن (بابكر) من خلال كتلة البياض التي تحيطه وتكفنه، هز (عصمت) جسد (بابكر) الميت، يبحث فيه عن تلك الحياة ويضحك ويضحك ويضحك وكانت ضحكته قد اختلطت بأصوات نحيب رجالية عميقة، خلص بعض الحاضرين (عصمت) وضحكته المستمرة من جنازة(بابكر) بمشقة عظيمة، حمل (عصمت) إلى البيت بعد أن امتدت ضحكته إلى كل البيوت والدروب والشوارع ولوثت أثير الليل بالحسرة والحزن وبالمعني العميق الذي يمكن في تضادها المعلن.

وفي ظهيرة ذلك اليوم عاد (بابكر) من الجامعة مرهقا تغدي ونام ولم يستيقظ بعدها أبدا هكذا ببساطة انسحب ذلك الضاحك الساخر من الحياة دون أي مقدمات تاركا ذلك الغياب القاسي يعذب الجميع.


تم الاعتناء بحالة (عصمت ) التي رفض موت (بابكر) بتلك الضحكة المجلجلة بين القبور، تم حقنه بحقنه مهدئة في تلك الليلة المغبرة بالموت.

* في الأيام التالية لذلك الحادث لاذ (عصمت) بصمت مطلق، كانت نظراته فارغة، كانت لا ترى ملامح الخارج، لا تهتم مطلقا بذلك كانت عيونه ترى هناك، تتجول في الدواخل العميقة وتجتر حياة (بابكر) رافضة نفيه في الموت كان (عصمت) في صمته يتحدث مع (بابكر)، يتجادلان في الفلسفة والجماليات ويلونان أحلام اليقظة بالضحكات وتمادت هذه الذاكرة حتى تجسدت فيها الحياة بعمق وتحولت إلى صور حية لا يراها أو يعايشها سوى (عصمت)، لذلك صمت (عصمت) لتضج منه الدواخل ارتاحت الأسرة والأصدقاء لهذا الصمت واطمأنوا أن حالته تسير إلى الأحسن وكان الخوف من تعاوده تلك الضحكة قد زال تماما.

صباح الجمعة خرج (عصمت) من المنزل ووصل سوق الرواكيب اشتري طماطم وبصلا ودكوة وجرجير وعجور وشطة وكميات من الخبز وربع رطل سمسم، حمل كل ذلك في كيس واتجه إلى حيث منزل( بابكر) حيث انهما يسكنان في حي واحد، وصل منزل (بابكر)، طرق الباب، جاءته (بثينة) شقيقة (بابكر) شاحبة وحزينة، دخل المنزل لم يلاحظ الكآبة التي تسيطر على جميع من في المنزل بل أن قدومه قد كثف من الحزن ما يكفي، جلس علي بنبر بحميمة عالية ومألوفة أمام حاجة (التاية) التي كانت تحدق في فراغ لا نهائي، ناول عصمت كيس الخضار إلى حاجة (التاية) قائلا

(( يلا حاجة ظبطي لينا السلطة دي، بابكر وين في الحمام ولا شنوا ؟؟؟))



* sudan4all

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى