علي المك - رسالة إلى جيني آن.. قصة قصيرة

كتبتُ لك هذا الخطاب في ذهني مرات، مسحته، أعدتُ كتابته، مسحته ثم أعدتُ كتابته وألحَّ عليّ، صرت أنطقه لنفسي نطقاً، وأهمسه لنفسي همساً، وقد كنت أظن قبل اليوم أن آثار الجرح القديم قد انمحت، وأن بقايا الأوصاب قد عفا عليها الزمن، وأني أخذت نفسي بشدة لم تعتد عليها نفسي، كل هذا لأني أريد أن أجعل نفسي عائشاً في الواقع وليس من حوله.

تلقيتُ رسالتك، أحسستُ أنها – الرسالة – لفرط ما سافرتْ في الجو، عبر الأقطار والأنهار والبحار: منهكةٌ، وأنها متعبةٌ وأنها تنتظر ملهوفة أن أفضها فتحكي لي رسالتها، وتتمزق بين أصابعي شهيدة. وأخذتها باهتمام، فأنا دائماً أحافظ على رسائلك، ولا أقرؤها إلا في البيت حين أكون وحدي، أنا والرسالة والسماء والأرض التي من موضعي عليها أرى السماء وما عليها.

في ذلك اليوم كان في السماء غبار كثيف، بدأ بلون ترابي، وصار إلى ستة الوان حين بلغ أشدَّه.. وقرأت ثم قرأت.. ولم يكن هناك شيء كثير فيقرأ: بطاقة دعوة لزواجك! ولأول مرة أعرف أن اسمك الكامل هو (جيني آن)، إننا نتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ولهذا وحده يمكن لنا أن نستمر في الحياة.

عزيزتي جيني آن..

أذكرها، الليلة الممطرة، كان المطر عنيفاً، وكان ماؤه بارداً، وكنت ارتجف منهما: البرد والليل. فأنا لا أحب الليل كثيراً، لأنه من صلب الخوف والحزن، وقد يخيل إلىّ أحياناً أن ظلامه لن يرتفع عن السماء والأرض، وأن الدنيا كلها تموت وتفنى وأن وأن..

نعم إني أذكرها الليلة الممطرة... والماء السماوي البارد يغسل كل شيء، وأنا أسير تحت رحمته بارداً وساخناً، بارداً بأثر مياهه وساخناً بالأمل في أن ألقاك، وهذا الاحساس البارد والساخن هو الذي مكنني أن أسير وأسير، وأن أصعد السلم بدرجاته وأنا ألهث.. شبحٌ أسود في مطر غزير، والناس احتمت ببيوتها، وأنا كما تعلمين أكره المطر – أقول لك الحق: أنا أكره الفصول جميعاً! في مثل هذا الجو تمتزج ألوان الناس، يمسي الأسود بلا سواد، والأبيض بلا بياض، ويبقى الانسان الحقيقة، العظم لا لون له والجلد لا لون له. اللون الاحساس والعاطفة والحب والبغض والانفعال. سرنا تحت المظلة – أنت وأنا – روح تحتمي بروح، والماء المتساقط يسقط علينا لسعة برودته تؤثر فيك وفيَّ بذات القدر. قلت لك إني أكره المطر؟ كاذب أنا، فاللحظة أعشق المطر أحبه.

وما جدوى أن نسير معاً، ونركض معاً، ونلهث معاً، ونهرول ونخاف معاً، ونحب ذات الأشياء: فريق (بوسطن) لكرة السلة وفريق (الدودجرز) للبيسبول وسير (لورانس أوليفييه) و(إيللافيتزجرالد) وكونشيرتو البيانو الرابع والعشرين لموتسارت، وموتسارت كله، جميعه، كل ما كتب وابدع وخلق.

لماذا هذه الأشياء بالتحديد؟ الآن أعرف لماذا؟ فريق بوسطن لم يهزم، ولورانس أوليفييه على عرش العروش في القمة، وإيللافيتزجرالد صوت الملائكة في صلوات السماء، وصوت المحزونين في مزارع القطن، وآهات المستجيرين من العذاب في سجن (سنقس سنق) و(سان كونتين). لماذ موتسارت؟ لأنه انتصر برغم أنه مات في الخامسة والثلاثين، وأبدع في الفن الموسيقي آيات رائعات.

ونحن ما نحن؟ - أنت وأنا – هُزمنا قبل أن نبدأ، أجل هُزمنا قبل ان نبدأ. هُزمنا يوم اعترفنا أن المجتمع هناك يكره أن يرى فتاة بيضاء وفتى أسود، وخضعنا له، كيف خضعنا له؟ خضعنا له لأننا لم نتحداه. تقولين "في الجنوب الأمريكي نضرب ونعذب وقبلها بسنين ليست بعيدة تشنق أنت على شجرة.. ولكن الغرب منافق يبتسم بالرغم عنه، يدعي أنه يبارك العلاقة، وهو في الواقع يلعنها ويكره لها أن تستمر.. أترى الفرق الآن؟"

وإني لا أرى فرقاً بين الغرب والجنوب، فالنهاية واحدة كما ترين، فالحب يحيا بالحرية، يتنفس بالحرية، ينمو بالحرية، ولكنه ههنا في الغرب أم هناك في الجنوب يموت باللعنات والنظرات والمشانق. لا يهم مطلقاً أبداً لا يهم. فالذي يموت هو الحب، باللعنات يموت، كما يقضي بالمشانق.

الآن عرفت، عرفت، عرفت، لماذا انهزمنا، وحملت أنا حقائبي وسرت إلى أبعد مما تتصورين، نزلت بلدي في أفريقيا، فالليل المظلم من حولي الليلة، نهار ساطع الشمس في كاليفورنيا.. وعلى الشاطئ الرملي في (سانتامونيكا) والقهوة والشاي في (القولدن كراون). وألف الف شيء.

حملتُ حقائبي أنا ثم رحلت، أنت تعلمين أن القمر جميل جداً على الشاطئ الرملي في سانتامونيكا، ولكنه الليلة في بلدي غير بازغ، فأي تعاسة هذه! وأي حظ ذاك الذي جعل بيننا ألوف الأميال من الصحارى والجبال والوديان والبحار!

مبروك جيني آن.. عزيزتي: جميل جداً أن تختاري زوجاً من أهلك، جميل أن تصلي لقرار في موضوع ما. لأول مرة أكتب لك خطاباً قصيراً وأقطع علاقتي بك.

وصبرت صبرت صبرت، ولكني تذكرتك اللحظة، الآن، الليلة، لماذا! ألأني استمتعت إلى كونشيرتو البيانو الرابع والعشرين لموتسارت! أم لأني شعرت أن الهزيمة كانت أكبر مني ومنك.... ربما ولكني قررت أن أكتب إليك. إنسان يكتب لإنسان.

الطوابع على المظروف سوداء، إذن فلون الهزيمة لم ينهزم بعد، ولهذا أيضاً مزقت كتابي إليك وأعدت كتابته في ذهني مرات، قرأته لنفسي وسيكون مسرحه الذهن ولن يسافر إليك فيشقى بغربته وتشقين به والسلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى