ألف ليلة و ليلة بيترو تشيتاتي - ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد.. ت: محمود عبدالغني

لا نستطيع أبدًا فهم «ألف ليلة وليلة» والحضارة الإسلامية من دون أن نتذكر وجود نوعين من الخلق؛ الأول هو خلق آدم، الذي ننحدر منه جميعًا، والثاني، الأكثر غنى وغموضًا، ويشمل كل عجيب وشيطاني وسحري: إنها مملكة سليمان. هذه المملكة تجاور عالمنا؛ تحيا حياة موازية، وتمتلك قوانينها الخاصة، وتتسرّب أحيانًا داخل وجودنا. كما أنها مباركة ومحمية من طرف الإسلام (النبي محمد يعلن وحيه للجن)، في حين أن الوعي المسيحي يعده شيطانًا وشريرًا.

الحاكم هو سليمان، الملك الساحر، الحكيم الكتوم، الذي يسيطر على المرئي والخفي، يسمع كلّ الكلمات الملفوظة فوق الأرض وفي السماوات، يعرف لغة الطيور الغريبة، ويضع في يده خاتمًا نُقش عليه الاسم السري لله الذي يضمن له إمبراطورية الكون. مات بعد ذلك، وبقي فوق عرش من الذهب، وفي إصبعه ذلك الضوء الساطع من خاتمه، في جزيرة الزمرُّد البعيدة. لكن تلك المخلوقات، على الأقل في ألف ليلة وليلة، بقيت خاضعة لقوانينه؛ لأنه في فضاء السرد سليمان رجل خالد، ومخلوقاته غير محدودة؛ الجنّ الطيب والشرير، المتوحش أو الرائع ذو الجسد المصنوع من الهواء والنار؛ الشعوب النصف بشرية في الهواء والبحر؛ الحيوانات، خصوصًا الأفاعي؛ الأشياء السحرية (حصان الآبنوس الذي يحلّق في السماوات، الطاووس المذهّب الذي يشير إلى الساعات، النظّارة التي تساعد على رؤية مئات الأميال)؛ الأحجار الكريمة في اليابسة والبحر، الأضواء المبهرة، الشرق؛ رُواة الحكايات والخرافات، ونحن، جمهورهم، الذي يتلقى بركة سليمان الغامضة.

مملكة سليمان هوائية، خفيفة، تتجاهل الفضاء والزمن وتتلاعب بالحدود التي تفرضها، بواسطة أجنحتها، وسجاداتها الخارقة، وقصورها التي تظهر في وقت واحد. التحوّل هو سحرها المفضّل. اليد، التي هي دومًا يد امرأة، ترسم إشارة وها هي الأشكال تبدأ في التحوّل: بسرعة مدوّخة يصبح الجني أسدًا، عُقابًا، أفعى، قطًّا، عقربًا، ذئبًا، دودة، ديكًا، رُمّانة أو نارًا مستعرة؛ ويمكن للتحوّل، إلهيًّا كان أو شريرًا، أن يصبح إما سعادة (يتغير الشكل، هل يوجد ما هو أجمل؟) أو خطرًا شيطانيًّا، لا نفلت منه إلا عن طريق الموت. أما أبناء آدم فإن علاقتهم بمملكة سليمان معقّدة؛ ينبغي لهم حبّها مثل الخوف منها، ومداهنتها، وأيضًا إبطال شِراكها.

عالم واحد مشرق

في بعض المحكيات الكبرى، يعترف بعض الرجال بأنهم لا يحبون حبًّا مطلقًا إلا بنات الجن: النساء- السمكات، النساء- الطيور، اللواتي يبحثن عن الهروب من حضور الإنسان والعودة إلى عالمهن الخفيف. لكن في النهاية يتمكّن الرجال من العيش معهن؛ لأن الحلم الكبير الذي يراود رواة ألف ليلة وليلة هو التقريب بين ممالك آدم وممالك سليمان، بين الناس والشياطين والحيوانات والنباتات، وصهرهم في عالم موحّد ومشرق. قرب مملكة سليمان يوجد عالمنا: الحياة اليومية، الحياة الدُّنيا، محبوبة في كلّ تعددها وأشكالها. كل الشخصيات تفكر في أن «الحياة هي الخير الأكثر نفاسة»، كلٌّ يؤمن بضرورة «التلذُّذ بمتعة اللحظة»؛ وهذا الحشد من النمل الصغير، الجشع، الشهواني، النشيط، الماكر، المنشغل، كم يدبُّ فوق مساحة الأرض الغريبة!

ليالي ألف ليلة وليلة طافحة بغنى المشاعر الأرضية، ومُصفّاة بغربال العقل: عطر الأزهار والبهارات، بمذاق الفواكه الطرية أو الجافّة، باللحوم وبمعامل السكر، ملفوظات في سرود دقيقة؛ الحمّام، رائحة أجساد النساء، الخشب المحروق، المسك والعنبر، إيروس، المحادثة، الموسيقا، ألعاب القمار، الخمر، النوم. ها هي مرة أخرى المنازل الكبيرة بغرفها المفروشة بالسجاد، والبُسُط، والصوف، والأقمشة المزخرفة، والأرائك الدمشقية: الحدائق المُخضَوْضِرة تقريبًا بالكامل، صورة عن عدن، حيث الماء يجري، والعصافير تغني؛ والجواري اللواتي تثرثرن، وتغنين، وتعزفن الموسيقا، وتدبرن المؤامرات، وتمارسن الحب. نحن داخل الفضاء غير الواقعي للسرد: لا نستغرب حين نرى الطبقات الاجتماعية واحدة جنب أخرى، والمهربين، صانعي الملابس، الملتحين، بائعي الجمال، الكنّاسين، أطفال الإسطبلات الذين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى وزراء باذخين.

في مملكة آدم الجمال قيمة جوهرية: الله يتجلّى على الأرض، ربما أكثر من الإيمان بالله. عندما يمرّ رجل أو امرأة بجمال باهر في شوارع بغداد، أو البصرة أو القاهرة، فإن وجوههم تشعُّ بالضوء؛ فيفقد المارّة المعجبون الذاكرة، مثل صديقات زليخة أمام ظهور يوسف. إن كلّ ليالي ألف ليلة وليلة هي نُصب للأُنثوي الخالد: سواء كُنّ متحدرات من آدم أو سليمان، النساء حيويات، وملحّات، وعنيفات وشجاعات؛ في حين الرجال، هم تقريبًا مخنثون، «بخطوات أنيقة ومرنة، يتموّجون مثل أغصان الصفصاف أو قصب البامبو»، يستسلمون برقة وهدوء، يتنازلون بدون مقاومة لإثارة النساء الإيروسية الجارفة. يندلع الحب فجأة، مثل الصاعقة. ليس من الضروري رؤية وجه المحبوب، أحيانًا يكون انعكاسًا لوجهنا؛ الاسم يكفي، أو صورة مرسومة على ورقة. ومثلما يحدث في الروايات الإغريقية والنصوص الصوفية، يوجد فقط الحب- الشهوة، والرغبة المثيرة، وقدر العشق، ومرض المعاني، والألم الذي يرجُّ كل الأعصاب ويقود أحيانًا إلى الجنون والموت.

كثيرة هي السفن، كثيرة هي الموانئ والأسواق التي تملأ ألف ليلة وليلة. ليس أمرًا ذا أهمية أنه في الوقت الذي كان فيه النُّساخ ينسخون مخطوطنا، كان المغول في الغالب قد دمّروا شبكة التجارة العربية. لأن السفر هو الولع الحقيقي: لا يُقهر ومتاهيّ مثل السرد. كل يوم يبيع التُّجّار سلعهم، ويبيعون بضاعتهم، ويشترون السّلع المطلوبة من طرف البلدان البعيدة، ويجوبون الأمكنة والأقطار، كما لو أن تراب الأرض عبارة عن قطعة من القماش الرقيق الملتفّ حول عصا. وبقدر ما تلي الليالي النهارات والنهارات الليالي، يتابعون سيرهم. كم تأمّلوا من ممالك، كم اجتازوا من طرق تحت المناخات السبعة، كم من خطوات حسبوا، وكم من بضاعة باعوا، واشتروا، وتبادلوا.. البحر في انتظارهم: الهدوء، حين تمتدُّ الأمواج ببطء مثلما نتصفّح كتابًا؛ حيث صراخ ورعب العاصفة، حين يمتدُّ المحيط من دون نهاية إلى الأفق، حين تختفي كلّ أرض عن الأنظار.

سفر لا محدود

السفر لا محدود، من بحر إلى بحر، ومن قارة إلى قارة، ومن جزيرة إلى جزيرة، ومن ميناء إلى ميناء. التجار يعبرون بلدانًا معروفة: مصر، والعربية السعيدة، والعراق، وتركستان، والهند، والصين. بعد ذلك، ومن دون أن يتمّ إدراك نشوة الطريق، يغوصون في الجغرافية العجيبة لهذا البلد الشاسع الذي يمتدّ إلى ما وراء بلدنا، أو جنبه، أو فوقه، إلى مملكة سليمان، الأكثر شسوعًا، وتعقيدًا وكثافة سكانية مثل البلدان المتخيلة من طرف الأدب الغربي القروسطي. ها هو الجبل الأسود، وجبل الأعشاب، وجبل الزمرّد، ومدينة المرجان، ومملكة الطيور، وقصر الأحجار الكريمة؛ والجزر، الجزر التي لا تنتهي أبدًا، إما فردوسية أو مليئة بالأخطار الرهيبة، التي تتركّز فيها كل عجائب الدنيا.

ثم يقودنا السفر إلى المدن المهجورة، إرم ذات العماد، ومدينة النحاس، والمدينة البيضاء، التي كانت مسكونة قديمًا من طرف الزرادشتيين، أو المشيّدة من طرف الملوك الملحدين الذين أرادوا تقليد جنة الأرض. الأبواب الضخمة مرصّعة بالأحجار الكريمة، والقصور هي الأخرى شاسعة مثل المدن، والسُّرادقات من الذهب والفضة، والحصى من الزبرجد، والألماس والياقوت. خلف دائرة الأسوار، يهيمن الفراغ والوحشة؛ لا وجود لصوت بشري؛ البومة تنعق، والغربان تنعبُ في الطرقات والبيوت، باكية الذين هجروها. حُرّاس الأبواب، والخدم، والخفر، والجنود، والأمراء تحوّلوا إلى حجر، أو ينامون على أفرشتهم الحريرية، وجلدهم ما زال حيًّا مثل الأحياء. في السوق، الفواكه والأشياء المصنوعة من الجلد تبدو في حالة جيّدة، غير أنها تتفتّتُ وتسقط غبارًا بين الأيدي. نُصب تذكاري حزين وضخم «أين الذين حكموا البلدان، وأخضعوا الرجال وقادوا الجيوش؟ أين القياصرة بقصورهم التي لا تُحصى؟ لقد غادروا الأرض كما لو أنهم لم يوجدوا قط» يذكّرنا بأننا دخلنا مملكة الموت. الموت يهيمن على عالم علاء الدين مثلما على عالم سليمان؛ لا أحد يستطيع الهروب منه، حتى شهرزاد، التي هزمته طيلة مدة زمنية بفضل قوتها السردية المقنعة.

لكن الرحلة لا تنتهي هنا. أحدٌ ما، في الأزمنة الغابرة، يبحث عن النبي محمد: بلا جدوى، ما دام محمد لم يولد بعد، ولا يمكن هزم الزمن. شخص آخر يبحث عن امرأة مجهولة، امرأة- طائر أو امرأة- سمكة، تقيم في بلد عجيب ومجهول هو الآخر. وكيفما كان الدافع فإن الرحلة تستمر. يعبر كل الجزر، وكل البحار، وكل القارات، وكل الممالك؛ لأن جوهر البحث هو أن يكون لا محدودًا، أن يتجاوز جبل قاف حيث ينتهي عالمنا، والذهب إلى ما وراءه، بين الأكوان الأربعين، حيث كل واحد له لون مختلف، ولا أحد يعرف آدم أو حواء، النهار أو الليل.

الفصل مترجم عن كتاب: Pietro Citati ; La voix de Schéhérazade, éd. Fata Morgana
المتابعون السريون لشهرزاد والمهمة المزدوجة للسرد

أثناء كتابته الثانية لـ«فاوست»، أحبّ غوته أكثر من الجميع الأمكنة السرية في «ألف ليلة وليلة»: القبور، والآبار، والأدراج التي تغوص في اللانهائي، والكهوف المسكونة، والغرف المحجوبة، والقصور الواقعة تحت الأرض حيث تحكم أميرات الجن. هنا، في الأعماق حيث تعيش أيضًا الأمهات، وتحرس العجائب والكنوز. المتابعون السريون لشهرزاد يرددون على مسامعنا أن مهمة السارد مزدوجة. من جهة، هو يعرف جيدًا أن النزول إلى الكهوف المأهولة بالعجائب هي مهمة صعبة جدًّا: لا طرق، لا مرشد، لا سيد. لا شيء أكثر خطورة من محاولة البحث عن معرفة الأسرار: هناك قانون يمنع ذلك، ولا يمكن خرقه إلا بالتضحية بحياته. لكن من جانب آخر، لا يستطيع إلا ركوب هذا الخطر. وبكل حيلته وقوته، ينبغي أن ينزل إلى القبور، والآبار، والكهوف، والقصور تحت الأرض؛ ليمتحن الألغاز، ويخرجهم إلى الضوء ويحكيها لجمهوره، بهذه الكلمة السعيدة والغامضة التي تخبئها وتكشفها في آن. ربما لن يعاقبه القانون؛ لأنه في جزء من كيانه، الناجي من الموت، لم يعد ينتمي إلى الجنس البشري.

لا أحد يقول لنا كيفية الالتحاق بالقلب السرّي للأرض. كثيرون هم الحكماء في «ألف ليلة وليلة»، يوجدون حتى بين العتّالين، والحلّاقين والجواري: محترمون من طرف الجمهور وأغنياء بهذا العلم الكوني الذي يُؤخذ من الكتب. هؤلاء يرغبون تلقين السارد أن الحكمة توجد مختبئة بداخلها: لكن السارد لا ينتمي لنمطهم. فهو لا يستمع إلى الأحاديث المبالغ في إنسانيتها. وبالرغم من كونه يملك كل الكتب، وبكونه قرأها واطلع عليها بأمل أن يستوعبها، فإنه فهم أن الحكمة لا توجد بين الأوراق. أين البحث عنها إذن؟ في حكاية شهيرة جدًّا، لم ينل حسيب كريم الدين الحكمة إلا عندما ضحّت ملكة الأفاعي بنفسها من أجله، فكان موتها بالنُّسغ الموجود في جسدها هو هديتها له. في هذه اللحظة، أصبح قلب حسيب هو «موطن الحكمة». ليس حسيب شيئًا آخر سوى الوجه الآخر للسارد الخفي في «ألف ليلة وليلة». وله أيضًا تكشف ملكة الأفاعي، صديقة سليمان، أسرار الطبيعة الحية، والأرض العجيبة، والحيوانات الموجودة في السماء والأرض، هذه هي الحكمة التي لا تنطوي عليها كتب الإنسان. غير أن ملكة الأفاعي ليست في حاجة إلى التضحية من أجله؛ فكلما بدأ حكاية ما يقدّم السارد نفسه تضحية معينة، أو يريد التضحية من أجلنا، في اللحظة التي يلي فيها الفجر الليل، وعجائبيته هي تحديدًا ذلك النسغ الذي يحوّل قلبنا إلى «مقرّ للحكمة».


بيترو تشيتاتي—ناقد وباحث إيطالي
ترجمة:-محمود عبدالغني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى