إبراهيم الحسيني - بيضة الصباح و المساء.. قصة قصيرة

عندما يدخل شعاع الشمس من النافذة , يغمر الحجرة ضوء النهار , يطن في أذني الولد سمير لغط وهمهمات وصياح الباعة في الحارة , يتقلب في فراشه بالطول والعرض ,مستمتعا بالدفء والخدر والسرير خال من أخته أمه وأبيه , الذين ينهضون مع آذان الفجر وتكبيرة الصلاة , ويكون سمير في انتظار أمه تأتي ويدها مبللة بالماء , لتدفع الغطاء عن وجهه , تهزه وتقبل جبينه ,
وتقول : قوم يا سمير , الشمس طلعت من بدري .
يظل يئن يتلوى يراوغ يتملص , إلي أن يشعر بنبراتها , وقد فاض منها الكيل , تحتد وتقوي متوعدة ومنذرة , يكف والبكاء يخنقه , ويجثم علي أنفاسه , يقاوم رغبته في النوم والكسل , يستجمع قواه لمواجهة لسعة البرد ووخز الهواء , يشب بجذعه متعلقا برقبتها , لتمنحه بعض الدفء وابتسامة تزيل التجهم والصرامة آثار الغضب علي وجهها , يقبلها ويتوسل إليها :
" أن تدعه ينام اليوم .. واليوم فقط "
تداهمه السبورة والحصيرة وأحذية وشبا شب الأولاد وعصاة الشيخ مسعود , الذي يراه – كما يرى الجان والعفاريت في حواديت وحكايات أمه التي تملأه بالرعب والخوف في أنصاف الليالي – بقرون وحوافر وأنياب حادة طويلة ومدببة .
تحمله بين ذراعيها , تسير به إلي الحوش الترابي , تضع رأسه تحت حنفية المياه , وهو يرفس الهواء بقدميه , ينشج ويصرخ ويضربها بيديه علي صدرها , يحاول التملص والانفلات من إحكام ذراعيها حول جسمه .
الولد سمير تظل البيضة , طوال أيام الأسبوع , تداعبه , تراوده , تأتي إليه في الأحلام : علي هيئة ثمار كثيفة تتدلي من فروع الشجر , أو تلال كبيرة لا تنضب , ويظل هو , في خيالاته , ينزع القشر عن البيضة , يتحسس الملمس الناعم من الداخل , يديرها ويضغط عليها في كفه , بينما لعابه يسيل , وريقه يجري , يعد يحسب :
" السبت الأحد الاثنين ... "
بدءا من ليلة الجمعة إلي صباح الخميس , ينتظر مرور الأيام وتتابعها بفارغ الصبر ,وطعم البيضة الحلو الشهي اللذيذ , يتعلق بذاكرته , يلازم شفتيه , ولا يفارق لسانه .
لهذا يكون الولد سمير , يوم الخميس بالذات , في انتظار أمه , قلقا متوجسا , يتحرق شوقا إلي سماع صوتها , وابتسامة مريرة تشق شفتيها , عندما تقول :
" خليك نايم أنت يا خويا وأنا رايحة ألم البيض "
ينتفض وينفض اللحاف بعيدا عن جسمه , دون خوف من لسعة البرد ووخز الهواء ومياه الحنفية و خيزرانة الشيخ مسعود , يهبط السرير شاكيا باكيا , بملابسه الداخلية المتسخة , يجري يصعد السلم بساقيه المقوستين محاذرا , يستند بكفه الصغيرة علي الجدار .
وعند عشة الفراخ : يكور جسده الصغير , وينفذ من الفتحة الضيقة – وقلبه يرجف – يبحث في التراب والريش والغبار عن البيضة التي يخبئها في عبه , إلي أن يغيب عند الجدار وطلمبة المياه , في الحارة عن عيون أمه التي تودعه بقبلة علي جبينه , والحزن يرقد في قلبها بلادا وبلادا .
ذات ليلة , والقمر هلال , وكانوا يجلسون في حوش الدار , قال : ........................
فتلقى صفعة قوية من أمه , التي ظلت تبكي طول الليل , لكنه ظهيرة اليوم التالي وجد بيضة مسلوقة ترقد بين طيات الرغيف ,عندما هم يتناول طعام الغداء في الكتاب .

عندما تغيب شمس الخميس , وتسقط خلف النقطة القديمة , يعود الولد سمير , رغم كثافة الشوق , علي قدميه من الكتاب .
وفي الكتاب ينسي الولد سمير- في هذا اليوم بالذات – الدنيا وما عليها , يغيب تماما عن المكان , لا يري الشيخ أو السبورة أو الأولاد , يسرح ببصره , يركز بعقله وأفكاره , هناك عند الجدار , حيث دفن البيضة بجواره في الصباح , يتأمل شكلها ,حجمها , ملمسها , مذاقها , إلي أن يأذن لهم الشيخ بالانصراف , فينطلق مسرعا , ويكون الشيخ قد ضربه , في هذا اليوم بالذات , علي كفيه أو إليته مرات ومرات .
وفي الحارة , يلقي نظرة علي الجدار , ملؤها الحنين والرغبة واللذة ثم يقترب منه بحذر وتردد شديدين , يتلفت حواليه , يختلس البصر يمينا ويسارا , ويعبث بأصابع قدميه في التراب .
لكن الولد سمير لم يكن بمقدوره أن يرى أمه , كل يوم خميس , وهي تستبدل البيضة التي يدفنها في التراب كي تنضج علي نار الشمس الحامية .
ولم يكن بمقدوره أيضا , أن يرى أمه المختفية الآن وراء الباب , تتأمله بفرحة ومرارة , وهو ينبش في التراب , باحثا عن البيضة التي تكون قد نضجت واستوت , فيأخذها في عبه – هنا بجوار القلب – ويجري يأكلها ويرمي قشرها بعيدا عن أنظار الآخرين .
ثم يرفع الترباس , ويتسلل داخلا من فتحة الباب الموارب.



* مجلة الانسان والتطور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى