بانياسيس-داخل الصندوق -قصة قصيرة

- الشمس سطعت بشدة .. أدخل الى غرفتك..
أعطته أمرا مباشرا مسبوقا بتبرير منطقي مقتضب. وعليه أن يملأ الفراغات بين التبرير والأمر بنفسه. لكنه لم يكترث لفعل ذلك. بل نهض من كرسيه تحت شجرة النيم الظليلة وعبر الى الفرندة المستطيلة التي تؤم ثلاث غرف على واجهتها.. ثم دخل الى غرفته سعيدا بأن قدميه استطاعتا حمله كل هذه المسافة. ابنته تعطيه أوامر مباشرة بتبريرات مقتضبة ، وهو يتلقاها كطفل مطيع وينفذها كعاهرة مدفوعة الأجر. هكذا هي الحياة -قال في نفسه- وتذكر وجهها الطفولي الذي كان يشبه الى حد ما وجه ابنتها الآن. كان يدللها ولكنها الآن تعامله بحنو ممزوج بقسوة. ربما لازالت متأثرة بطلاقها ، أما هو فسعد كثيرا بهذا الطلاق. مع ذلك لا يجد أن في الأمر أي أنانية منه. لقد ذاقت طعم الجنس وأنجبت طفلة وهكذا تنتهي رسالتها في الحياة بزواج ابنتها بعد عدة سنوات قادمات ثم تجلس معه تحت ظل شجرة النيم الشاحبة...ستعرف حينها معنى الألم وهي تقبع داخل غرفة خانقة معبقة برائحة الخرف وملاك الموت يرسم تعاويذه على جدرانها بصبر وبطء. ستعرف أن أشعة الشمس الحارقة أكثر طعما من ظل غرف انتظار الاعدام. وستشعر حينها بقيمة أن ترى الأشياء وهي تعبر الزمن أمام عينيها.
قال ذلك واستلقى على سريره. سعل مرتين ؛ سعالا خفيفا ومع ذلك قفزت قطعة بلغم من رئته الى حلقه ثم فمه. لم يكن هناك من يراقبه ، علبة المناديل بعيدة عنه ، فجذب طرف ملاءة السرير ومسح فمه بحذر حتى لا يسقط طقم أسنانه. هناك مهلة لم تنته بعد منحها له طبيب الأسنان قبل أن يجري له عملية تثبيت دائم للطقم. لماذا يريد أن يكون جميلا ؟ او فليكن أكثر دقة: لماذا يريد أن يكون مقبولا لدى من ينظرون الى فمه؟ من هم أساسا ليهتم برأيهم فيه؟ لقد مات أغلب أصدقائه والباقون أصيبوا بالخرف وفقدان الذاكرة. جمعة ذلك الموظف الشاب ذو الجسد الممشوق نصف المكتنز بشعره الناعم الذي كان يمسحه بالدهن ويلصقه بفروته مقلدا أبطال الافلام الهندية القديمة. لقد كان من عشاقها ، وكان يحفظ كل الحوارات العاطفية فيها. في آخر أيامه وهو داخل غرفة الوداع بالمستشفى أشار لزوجته بالخروج ثم نادى عليه. دخل له فأشار اليه بالاقتراب من أذنه وهمس بقدر المستطاع:
- السينما الهندية انتهت يا رؤوف.
أسلم بعدها الروح مباشرة.
غطى عينيه بساعده وبدت له ساعة يده ثقيلة على معصمه ، لكنها خفيفة على قلبه.. انها ساعة تلقاها من صديقه السعودي قبل خمسين عاما ؛ لقد خلعها من يده والبسها له قائلا:
- أول ساعة تعمل بالنبض يا صديقي..لا تحتاج لبطارية.
كان حينها في قمة الاندهاش !!! ساعة تعمل بالنبض؟!! تعمل بالنبض!!! كيف هذا؟ ساعة ذهبية ثقيلة ، رؤوس عقاربها مزينة بحجر كريم أخضر ومكتوب عليها اسم صديقه الذي لم يلتقيه بعد عودته من الاغتراب. لأول مرة عرف أن هناك سعوديين شيوعيين عندما التقى به. ثم كانت آخر مرة يلتقي بشيوعي من الخليج. لم يكن هو شخصيا مهتما بالأيدولوجيات ؛ رغم أن الاعلام العالمي كله كان يحاصره بها. وتذكر ضحايا قتلوا بسبب شيوعيتهم وآخرين قتلوا بسبب عدم شيوعيتهم. يا ترى هل كان الأمر يستحق؟ لم يشأ أن يسترسل في البحث عن إجابة. إن ما يهمه الآن هو أن يهدأ الجو وتخف حرارة الشمس ليعود الى ظل شجرة النيم.
-أبوي...نادي هنادي والعب معها لأنني خارجة .. سأعزي صديقة في موت أختها وأعود.
-صوتي لا يسمح بالصراخ.
أجاب بخوف من ردة فعلها ؛ لم يكن خوفه مبررا وتأكد له ذلك حين ذهبت وعادت وهي تقود الصبية.
-اترزعي مع جدك هنا ولا تخرجي الى الشارع.
كانت عصبية ، نظر اليها وهي تغادر ، هنادي الطفلة الخجولة ، كانت تمص ابهام يدها وتثقبه بنظرة حمقاء. لماذا تخاف منه؟ أشار اليها فخطت نحوه خطوات مضطربة مترددة. ربت براحته على سريره فصعدت وجلست قربه. حاول تذكر بضعة قصص من تلك التي كان يلقيها حينما كان شابا مغرما بخيال الظل. كانوا يلقبونه بابن دانيال الافريقي. ابن دانيال كان مثله الأعلى ، قرأ جميع تمثيلياته ومثلها بعربية فصيحة.
- ايييييه .. كانت أيام...
لم يكن هناك تلفاز .. كان يضحك الشابات اللطيفات وهو يحرك تماثيله بدقة لينعكس ظلها على شاشة الصندوق القماشية البيضاء. وحين كان الأمير يطلب من الخاطبة البحث له عن شابة حسناء ليتزوجها كان يرى عيون الشابات تلمع وثغورهن الرقيقة اللامعة ترف عليها اجنحة الابتسام محملة بالأمل. كن يرتدين ملابس خليعة ولكنهن عفيفات جدا وبريئات. كلتومة التي أسرته بوجها الأسمر اللامع ؛ وغنجها ودلالها ولؤمها معه ؛ تزوجها عطاف ولكنها لم تنجب فشعر بأن ذلك قد خفف عنه شعوره بالخيبة حينما اختارت رجلا غيره. التقى بعدها بالمرحومة سعدية. وتزوجا من أجل الزواج فقط ثم توادا وتراحما بعد أن طعنا في السن...وحينها وككل شيء فارقته بسلام. نصف عينيها المغمضتان نصف إغماضة ووجها الذي استدار وجلده الذي انشد فاختفت تجاعيده وكأنها عادت لشبابها لحظة الموت لا زالت هذه الصورة ملتصقة بعدستي عينيه لم تفارقه للحظة. وحين يلقاها في الحلم كان يصحوا منزعجا ومكتئبا. لم يكن مشتاقا لها بل حزينا فقط لاختفائها غير المبرر هذا. وكان حضورها في أحلامه يذكره بفنائه وهو يرفض هذا التصور بحسم.
قالت الصغيرة:
- ما هذا يا جدو؟
أشارت الى صندوق خيال الظل فوق دولابه الخشبي قديم الطراز. دولاب من عهد ذلك الزمان حيث الخشب المتين وليس كخشب اليوم المحشو بنجارة بائسة ومضغوطة.
- هذا صندوق الظل.
أجابها بحزن.
انتقل اليها حزن صوته فطأطأت رأسها وهمهمت بحزن مماثل:
- ماذا بداخله.
نهض بصعوبة ، وحمل قدميه الى الدولاب. كانت قدماه ترتجفان ، وكان مشتاقا لظل النيمة. مد ذراعيه وتناول الصندوق ، وحينها غمرته سعادة بالغة فابتسم. انتقلت سعادته لثغر الطفلة التي ابتهجت وحدجته بنظرة متلهفة.
جلس قبالتها على السرير ، قلب الصندوق على ظهره وقال :
- كانت هنا ظلال ... لن تفهمي شيئا ولا أملك دمى لأحرك ظلالها حتى أقرب لك الصورة...
قربت الطفلة رأسها من الصندوق وقالت:
- ظلال لطيفة..
همس لنفسه:
- ومن يحتاج ليشرح للأطفال شيئا مع خيالهم الجامح أكثر من خيال مدمني البنقو...
قهقهت الطفلة بسعادة ، فقال:
- هل ترين ظل الأمير؟
هزت رأسها بصمت.
- وهل ترين الخاطبة أم الخير؟
هزت رأسها مرة أخرى.
والعروس الحسناء..والرجل الشرير الذي كان يكره الأمير ، ووالدة الأمير التي كانت ترفض زواجه من فتاة من العامة.
كان الناس يتحلقون وهم يشاهدونه وهو يحرك تلك الدمى لتحكي ظلالها قصصها البسيطة الساذجة. كانوا سعداء...ورغم أنه لم يفهم يوما مصدر سعادته ولا سعادتهم حينما يشاهدون مسرح خيال الظل إلا أنه لم يبحث عن إجابة. ليس من المهم أن...
قاطعته الصغيرة:
- إنهم هناك .. هناك في الأعلى.. انهم يبتسمون...
أشارت بسبباتها الى السقف وهي تبتسم ، فرفع رأسه ورأى أعينهم واسعة فبادلهم الابتسام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى