نبيل عمر - أزمة التاء المربوطة..

كأننا يوم الحشر، وقفت على قدم ونصف القدم داخل أتوبيس ٩ القادم من جامعة القاهرة إلى ميدان باب الحديد، أتوبيس مزدوج مكون من عربتين بينهما مفصل حلزوني كالذي يفصل بين عربات القطار، الفارق أن مفصل الأتوبيس يلتوي مع التفاف عربة القيادة يميناً ويسارا..
أسندت ظهري على جدار المفصل المطاطي السميك، وأخرجت ورقة وقلما من شنطتي، ورحت أكتب خواطر ألحت على عقلي بشراسة..

اهتز مع اهتزاز الأتوبيس في سيره وتوقفه، ولا أتوقف عن الكتابة بنهم وسرعة، كنت منفصلا انفصالا تاما عما يحيط بي من أصوات وأشياء وبشر، كأنني في كبسولة فضائية محلقة في فراغ لا نهائي..

هبطت في نهاية الخط، جلست على مقهى مواجه أسفل عمارة الأطباء بالميدان، منكبا على الأوراق، حالة هوس تلبستنى حتى انتهيت من الكتابة لاهثا، وأخذت طريقي إلى شبرا.

كانت هذه أول قصة قصيرة اكتبها في حياتي، لا أعرف من أين أتت أو كيف جرت، وقتها كنت مهموما بسؤال سطا على كل حواسي وعقلي: لماذا نحن متخلفون إلى هذه الدرجة؟، كيف يكون أجدادنا أول من صنعوا حضارة أشعت على الدنيا نورا ومعرفة ونحن نعيش شحاذين على ما يسقط من فتات اللعصر الحديثة، «قمة المأساة أن يكون جدك عظيما وانت لا شئ على الإطلاق».

كنت أحدق في وجوه الناس في الشوارع ومحطات الأتوبيس والمساجد وعلى المقاهي وفي مدرجات الملاعب، ألا تدركون ما نحن فيه؟، ما هذه السلبية التي أنتم عليها؟ كان يغيظني إلى حد الجنون هذا التواكل والكسل والتراخي، ما سر هذه التبريرات الي يرفعها الناس في كل مأزق يقعون فيه أو مصيبة تحيط بهم أو أزمة تحل عليهم..

ـ بختنا وحش.

ـ معلش يا زهر.

ـ قدرنا كده.

ـ كل شئ قسمة ونصيب.

كما لو أن الله خلقنا بلا إرادة ولا عقل.. أذن كيف كلفنا بالعمل والاختيار؟

لماذا العالم المتقدم حظه مختلف وقسمته أعدل ونصيبه أوفر وزهره «ملعلع»، وقدره واقف إلى جانبه يسانده؟

لم لا نأتي بهذا «المجهول» المخيف الذي نحمله أسباب مصائبنا وتخلفنا وفشلنا وعوارنا ثم نحاكمه على ما يفعله فينا وبنا؟

وكتبت القصة على لسان هذا المجهول، شماعة التبريرات الجاهزة، فدافع عن نفسه وكشف زيف ما يروج له الناس، فأمسك به الناس بغلظة وشنقوه، وعاد كل منهم إلى بيته مطمئنا راضيا، ولم لا وقد تخلص من الكاذب الذي حاول أن يوهمهم بأنهم هم المسئولون عن فشلهم وخيبتهم وقلة حيلتهم وتخلفهم وقنوعهم بالمقسوم القليل والتعايش مع الهم والتأقلم مع الحد الأدني للحياة.

كنا في بداية عام دراسي جديد وحولت أوراقي من كلية الطب إلى كلية التجارة.. أين أنشر هذه القصة؟

وقتها أعلنت كلية الأداب عن جمعية أدبية، يشرف عليها الدكتور طه وادي أستاذ الأدب الحديث، ذهبت إليه في مكتبه وأعطيته القصة، وعدت بعد أسبوعين إلى اجتماع الجمعية، كان الدكتور طه على المنصة وبجواره الدكتور عبد المنعم تليمة، قرأت القصة على الملأ، سمعت كلاما مُشجعا ومحفزا.

قال الدكتور طه: ولكن لا يجوز لكاتب أن يجهل بعض أدواته، ثمة أربعة أخطاء نحوية في القصة..هل هناك محاسب لا يجيد التعامل مع الأرقام أو نجار لا يفهم في الأخشاب.

خرجت مغموما، بالرغم من الكلام الجميل الذي سمعته عن الفكرة والصياغة وتراكيب العبارات، واتجهت من فوري إلى سُوَر الأزبكية اشتريت كتبا مدرسية في النحو والصرف، وكتبا متخصصا لأساتذة جامعيين، وعكفت عليها شهورا طويلة..

أجدت النحو والصرف سمعا ودرسا إلا قليلا..

كنت قد كتبت تحقيقا صحفيا في أوائل الثمانينيّات بعنوان « الجماعات الإسلامية ومأزق التطرّف السياسي»، وسلمته إلى الأستاذ هبه عنايت مدير تحرير مجلة الوادي، وعدت إليه بعد يومين، فإذا به يعيد لي أوراقي قائلا: راجع عليه مرة ثانية.

هزتني عبارته من جذوري، يا نهار أسود، هل ممكن أن أخطأ في الصياغة والنحو والصرف؟

هل كان وهما ما ظننته في نفسي؟

كورت الأوراق في شنطتي، وقمت منطورا من أمامه، ولساني يلهج باعتذارات: أعدك يا أستاذ هبه بأنها لن تتكرر أبدا.

ضحك هبة عنايت: بسيطة..لكن خذ بالك جيدا.

عدت إلى بيتي، تحفزت، أشرعت قلمي لأُعيد الكتابة لم اعثر في التحقيق الصحفي في سبع صفحات فولسكال على أية أخطاء لغوية أو تعبيرية، ثلاث ساعات أفتش عنها في السطور وبين السطور دون جدوي..أين اختفت هذه الملعونة؟ من الفجر كنت في مكتب هبه عنايت.. انتظرته ساعة وبعض الساعة، وقبل أن يجلس على مكتبه، هرعت إليه: لم استطع إعادة الكتابة أفضل من ذلك، من فضلك أين الخطأ فيه؟

جلس على مقعده ونظر إلىّ متأملا، ثم قال بهدوء: ولا نقطتين على التاء المربوطة، طالما تعرف تكتب..لا تدع احد يكتب لك النقطتين.

وسألني: هل تعرف الفرق بين التاء المربوطة والهاء؟

هززت رأسي: بالتأكيد.

ـ طيب ..أقعد هناك وضع النقطتين على كل تاء مربوطة،ولم يحدث أن نسيت النقطتين ولا الهمزات من لحظتها.

لكن لم أتخلص بسهولة من غواية الافتنان بالتعبيرات الفنية عالية البلاغة..

وكنت اكتب تحقيقا على مكتبي في روزاليوسف بعد واقعة هبة عنايت بسنوات، كنّا في نهاية الشتاء، الجو نصف بارد، ولا غادر مكاتبنا قبل التاسعة أو العاشرة مساء، فجأة دخل الأستاذ صلاح حافظ محييا، وما أدراك ما صلاح حافظ، هو أستاذ الأساتذة، «كتيب» من طراز رفيع نادر، يمكن أن يصيغ مقالا في علم الفيزياء تحفة ادبية في غاية الجاذبية، ملك الرشاقة في الأساليب، قادر على بث الحيوية والجدة في الكلمات والعبارات، كتب القصة القصيرة والمسرحية والرواية وسيناريوهات السينما والمسلسلات، وهو صانع صحف عبقري، فإذا كان بين البشر من يحول التراب إلى ذهب، فصلاح حافظ يحول الصحف الميتة إلى كيانات تعج بالحياة والصخب، ساحر كتابة وساحر صحافة، لكن الدنيا في بلادنا لها قوانين مقلوبة وشلل حاكمة..ربما انحيازه للناس ضد السلطة وانحيازه للصحافة ضد الإيدلوجية هما اللذين عرقلا حظه.

قال لي الأستاذ صلاح: ماذا تفعل؟

قمت واقفا: اكتب تحقيقا عن تلوث نهر النيل.

قال: سأمر على رئيس تحريرك وأعود إليك.

عاد الأستاذ بعد ساعة وسألني: هل انتهيت؟

قلت بخجل: لم اكتب إلا بضعة اسطر في المقدمة ولم أتزحزح عنهم منذ ساعتين.

أمسك بالأوراق أمامي، وقرأ وفي عيناه لمعتها المعروف بها، وقال ضاحكا: هايل كتابة رائعة، جمل في غاية الفخامة، لكنك لن تكتب أكثر من هذا لو قعدت سنتين وليس ساعتين.

تغيرت ملامح ودعي ودخلت في بعضها..وحلت عليها الكأبة..

قال الأستاذ: فعلا السطور رائعة.. لكن واضح أنك تحب نفسك أكثر من حبك لموضوعك، أنت تستعرض مهاراتك الفنية، أكتب ببساطة، وجمال الكتابة يأتي تلقائيا. ثم تركني ومضي..

جلست إلى مكتبي وأنهيت عملي في أقل من ساعتين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى