رياض الأسدي - إلى هيراتا.. قصة قصيرة

يهتم السائرون على شكل قوافل غير منتظمة كشعب مهزوم في متابعة النقوش الحجرية الغريبة على طول الطريق شبه الجبلية الوعرة المؤدية إلى منطقة (عمق الوحشة) أو (المحجة السوداء) كما يود أن يدعوها كثير منهم، ثم (هيراتا) الاسم الأشد شهرة الذي بقي حتى النهاية. كل أولئك الهائمين على وجوههم المتربين حتى تغيرت ملامحه، متشعثي الرؤوس ومهلهلي الثياب، يرومون الوصول إلى نقطة واحدة على خارطة وهمية في أذهانهم هي هيراتا – من الصعب معرفة دوافع ذلك الآن- وهم وجدوا ما يكفي من الغربة المضافة أثناء المسير الشاق والمضني ليل نهار على تلك الطرق المتوحشة. حسنا كان الأطفال والشيوخ والمرضى من السائرين من أكثر المتعبين خسارة. أما الرجال فقد كانت أعدادهم تتناقص طوال الوقت.



كان ثمة أسماء كثيرة لهذه الطريق من قبل يمكننا معرفتها من خلال مراجعة الطابق الرابع في مكتبة المتحف البريطاني. لكن ثمة كتب سرية عديدة أخر لدى بعض رجال الدين الشيعة القابعين في سراديب النجف تشير إلى وصف الحالة أيضا. أما أولئك المهتمين بما سيجري في المستقبل فقد اختفوا تماما عن المشهد ولم يعد ثمة من يتحدث بشكل تفصيلي عما سيجري وما هو جار الآن لهذه القوافل البائسة. من العسير على أية حال وضع تفاسير مقنعة حول ذلك إلى حدّ بعيد في الوقت الحاضر وربما يوجد من يفعل ذلك في المستقبل – آآآآه عذرا هذه الكلمة لم تعد مستعملة لدى شعب القافلة السائرة.



يمكننا في هذه الساعة ملاحظة عملية السير فقط. أعذرونا. كانوا في وضع يشبه حالات السبي القديمة. ليس دقيقا تماما بيد أنها الأقرب لرسم الصورة – آآآآآآه عذرا الرسم كان مجرما عند القوافل السائرة. ثمة أشياء كثيرة اختفت.. عذرا مرة أخرى. لكن الجيش المنتصر لا يظهر إلا من السماء فقط، رغم ذلك فقد عرف عن السائرين ما يكفي من خلال المراقبة الجوية، ومن خلال تعدد التسميات لطرقهم؛ لكنها تبقى الطريق الوحيدة المؤدية إلى (هيراتا): هذا ما ثبت لدى عموم الإنصات الجوي، وهي عملية مبهمة تشبه الطرق بقوة وسط حجر صوان تكشف عن الأرواح الجاثمة وراء عطش القادم غالبا.



سجل الإنصات الجوي: من البله التخلي تماما عن كل ما سيحدث لنا في هذه المسيرة الشاقة والغريبة- وما البله قل لي؟ هه؟ البله القديم أم البله الحالي؟ نحن السائرون على تلك الأرض التي تشبه (المحجّة السوداء) بالنسبة لنا، لا علاقة لنا بما حدث لنا، أليس كذلك؟ هيراتا، هذه اللعنة التي وضعنا في جوفها عنوة، في هذه الطرق الفارغة، وهي من أكثر الأشياء التي نبحث عنها قتامه،أوووووووووووووو لا معنى أن نكثر البحث عن أسماء مهما كانت ألا ترى نحن سائرون على طريق واحدة وسنصل إلى نقطة واحدة متفق عليها، ها؟ أيها العجل الجنوبي المذهب ( حضر سمو الأمير الصغير، دلوع، الذي بلغ ستة عشر عاما في السبت الماضي، إلى سباق "صفوة الهجن" الذي يقام سنويا، وهو يشعر بنوع من عمق الوحشة المتصاعدة، كما صرّح بذلك سرا لأحد المقربين إليه، وبعد أن زار مركز العناية بلقطاء الأكابر قبل ساعة واحدة من حضور السباق) ثمة متابعات طويلة على جانبي الطرق غير المعبدة والملتوية مثل حيات متطامنة على أية حال وقد سجلت جميعا على نحو واضح، ومن الصعب معرفة أهمية ذلك الآن. فبدت الرؤية غير مجدية ولا معنى لها: لا يمكن اكتشاف الصور الأخاذة للمكان إلا من لدن طيارين محترفين يجوبون سماء المنطقة بمروحياتهم السود الحائمة فوق رؤوس القوافل السائرة. ولا شيء سوى تلك النقوش تقريبا طوال الرحلة المضنية (تمّ التحضير على نحو ملفت للسباق الدولي وسط كشافات ضوئية كبرى تحول الليل إلى نهار كما اعتمدت سيارات دفع رباعي لمتابعة التصوير عن قرب).



من الصعب على القوافل البشرية السائرة، تلك، صفوة ما تبقى، المتهالكة، أن تغضّ الطرف عما يتناثر في طريقها من لقى أو صخور غريبة تحمل منحوتات ظاهرة يمكن تحسسها بسهولة براحة اليد وأنت تدقق فيها( تحسس الأمير وهو يتابع ركض الهجن الرشيق تميمة حملها من مربيته الهندية الأصل التي تجمل جنسية بريطانية دون أن يدرك سبب ذلك) بعضهم حمل تلك الأحجار في ما تبقى من جيوب لديه، وآخرون قرروا - كما هي عاداتهم قبل المسير - ربطها على ظهورهم بحبال سميكة وفي عملية شاقة ومربكة لا تحتمل كثيرا من المعنى، في حين طفق قليل من السائرين المتوانين الذين يتعثرون غالبا بأطراف أثوابهم المهلهلة وهم في ذيل القافلة دائما، إلى وضعها على صدورهم بواسطة خيوط محكمة كتمائم تقيهم شرّ ما يكون( قتلت المربية سريا في شقتها الخاصة بعد حرمانه منها ثم صُرف لعائلتها تعويضا مجزيا) كان يمكن مشاهدة تلك المرأة – نفسها!- وهي ترتدي ساريا أسود في مقدمة مجموعة من السائرين وحدهم. دخل احدهم ذات يوم إلى غرفة بالتوك (أبن سمينة) وطلب المايك لكنه لم يحصل عليه بسبب السؤ الذي يمارسه صاحب الغرفة ضد مريديه.

- لماذا تقفز على المايك شعبور؟

- ثمة مشكلة خطيرة أبن سمينه.

- نحن نناقش موضوعا سياسيا اخطر من عبثك معنا.

- هيراتا أهم!

- هيراتا!

- هيراتا هيراتا!!

لكنهم من اجل اتخاذ ما يكفي من حصانة بالتوكيه وضعوا أمام أسمه طماطم حمراء حيث بقي يستمع إلى الهراء وهو يصرخ: هيراتا هيراتا.. ولا تزال (هيراتا) بعيدة والطريق ممتلئة باللقى البيض والسود والحمراء والخيارات كثيرة لمن أراد الحمل. كانت معظم الكتابات على الحجر مجرد أسماء لأشخاص غابوا في تلافيف الماضي وأرادوا أن يذكرهم العالم على نحو ما، ولم يدر بخلدهم أبدا أنهم سيحظون بكل هذه العناية من أناس أخر الزمان السائرين إلى هيراتا. أحيانا كان يوجد ثمة استدراكات (يقام اليوم على شرف صاحب السمو الأمير الصغير racing صفوة الهجن السنوي الدولي حيث يمكن متابعة سباق الهجن وهي تسير بالريموت كونترول) كتبت بخط أصغر تحت بعض الأسماء هنا وهناك، في عملية خجولة لا ترقى إلى العناية الفائقة بحفر تلك الأسماء، إذ تذكر عرضا موجزا لحوادث شخصية بحتة مرّ بها صاحب الاسم، أو حوادث عرضية ولا معنى لها تقريبا لفقد حيوانات جرّ عزيزة أو موت كلاب رعي هرمة، أو نفوق عدد من الإبل في آن واحد. أما تلك الحوادث شبه المتكررة التي ذكرت بها منطقة هيراتا فقد كانت مثار الحديث وهي عن أناس تاهوا في الصحراء في يوم ما ثم ناموا فوجدوا أنفسهم وسط أهليهم: كانت تلك الحادثة تنسخ من حجر لآخر حتى ليظن المتابع المدقق لتلك الأحجار ثمة الآلاف من السائرين نحو هيراتا قد مروا بالظروف نفسها!( شعبور لصاحبها متعب بن همام تتقدم في وقت قياسي 2,58,6 من الثانية في سباق المرحلة الرابعة من صفوة الهجن)

- كيف يمكن أن يحدث ذلك لعشرات الآلاف من السائرين قبلنا؟!

- هذا ما تفعله الجن عادة.

- وهل تؤمن بذلك؟

- طبعا!

كانت المروحيات السود تظهر من حين لآخر وهي تلقي بكميات من المياه المعدنية والغذاء المسلفن الذي يعطى للجيش عادة، وسط تعليمات قاسية بلغة غير مفهومة ربما تكون حول ضرورة الإسراع بالسير إلى هيراتا فقد كانت العبارات مكررة دائما: جويييم ازز يهد gooo on ولم تكن غير تلك الكلمة الأخيرة واضحة. أنت نفسك ما كنت تحسب أن يحدث مثل هذا الأمر سريعا بهذه الطريقة التي تشبه أفلام المستقبل ذات الأطر الدينية، لكنك موهوم دائما بالزمن وتحتاج إلى المزيد من الوقت والتجربة لأدراك ذلك. وقد تكون حوادث محددة لمعارك بين أسر معينة أو قبائل؛ هذه المعلومات التي تتكرر لابدّ لها من تفسير مقنع؟ (الريع كله يعود إلى ملجأ أبناء الأمراء طبعا) كلّ شيء يذكر باختصار وبتفصيل ممل. وجد المؤرخون والآثاريون صعوبات جمة في تحديد الزمن الذي كتبت به هذه الحوادث: لا أسماء لملوك ولا لأمراء ولا لتجار ولا لسياسيين، وليس ثمة غير أسماء الناس فقط ( قصيد من الشعر النبطي للشاعر محمد الملهوف بمناسبة فوز الهجن الريدانيه بالمرحلة الثانية من سباق صفوة الهجن)

- ماذا نفعل بأحجار لا تنطق؟

- ليس الأمر كما تتوقع.

- تركنا هذه العادة منذ زمن طويل.

- ربما.

- ربما تكون سلوتنا للوصول إلى هيراتا.

- أين تقع هذه المدينة هيراتا؟!

- هل هي مدينة فعلا؟

- من يدري؟

- لنسر وسنرى.

- دائما نحن كذلك.

- من نحن؟؟

- سباق الهجن مرسوم هنا..

كانت الإشارات التي تتمظهر قبل الوصول إلى هيراتا بعدة كيلوات تبدو على شكل صخور متكاملة على هيئة قباب منقوصة أو أهلة منكوشة وحتى رؤوس مدمرة لمحاربين قدماء. كانت الأشياء أكثر حدة لكن الرهبة لم تعد موجودة على أية حال. وأشار احد خبراء اللغات القديمة وهو يلقي اكبر كمية من المياه المعدنية على فروة رأسه: ليس الوضع بهذه البساطة كما يظن بعضنا. نحن نتجه مباشرة إلى هيراتا وهذه المنحوتات الجديدة والكبيرة من الصخور دليل ذلك حتما. لو تأملتم قليلا فستجدون علاقة ما بين اللقى والمنحوتات الكبيرة، ولكن من أين لكم هذه القدرات وأنتم لم تتعلموا لغة قديمة واحدة، وأية حيرة هذه التي تجتاح الجميع في حلّ رموز الكتابات القديمة؟ ما أبشع مهمتي وما أصعب دوري معكم. يا لكم من قوافل سائرة إلى المجهول وهي تحمل ما يكفي من الأحجار – فقط- التي لا نستطيع فكّ رموزها؟ أليست هذه واحدة من بلادة ما أرى الآن؟

- يا لأفعال الطبيعة!

- ماذا؟

- ألم تشاهد هذه؟!

- ماذا!!

- هذا من فعل قبيلة من الجن.

- تقول هذا ونحن في هذا العصر؟

- أي عصر!

- عصرنا!

- لا عصر لنا.

- كيف؟

- هيراتا.. قادمة.

- أهي عصرنا؟

- ربما.

- شكرا!

من وادي حوران وحتى الحافات الجنوبية لنهر الفرات، ومن عمق الصحراء إلى حافات الشعاب الجبلية المعقدة والمجهولة في الشرق: هنا حجر بن حبيب الأدومي المعروف بشنق بن عنق في أسافل الفرات أو هرمس بالقرب من بحر النجف: أخبركم بكل ما أوتي لي من علم كبحر غامر إن ما حدث لي مع أبناء عمومتي في "جرها" وبما عرف بيننا بالحجارة البيضاء هو محض سؤ تفاهم أبله سالت بسببه دماء كثيرة وترملت نساء وتيتم أطفال لا ذنب لهم، اكتب هذه السطور لتكون درسا لمن لا درس له بعد. لم يحدث أي صلح بيننا.

لم تكن هيراتا إلا معسكرا لما تبقى من أجساد منهكة لاحتجاز من يشك في إمكانية قيامهم بأعمال مناوئة في الحرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى