وائل عبد الفتاح - إبراهيم منصور يضحك في جنازته... سيرة زعيم ستينات بلا أتباع.. ولا جمهور

ماذا يفعل ابراهيم منصور الآن؟!
ـ 1 ـ
كان سيضحك إذا مشى في جنازته.
هكذا تخيلنا.. لكننا جميعاً لم نضحك.
غلبنا الحزن كما لو كان الميت شخصاً آخر غير ابراهيم منصور.
تراهنا أنه كان سيقوم ليسكت المقرئ صاحب الصوت القبيح. أو يوقف كل من يعيد كلاماً مكرراً يصلح مع كل جنازة وفي أي قاعة مناسبات.
ـ 2 ـ
قلبت الدنيا على شريط كاسيت كان يحكي فيه عن حياته. يومها كان يريد أن يتكلم. لم تكن هناك خطة. حكاية من هنا يقطعها خلاف حول شخص أو فكرة أو موقف في السياسة أو الادب. لا إيقاع.. ولا أضواء باهرة. السجائر وانتظار صفارة من البراد تعلن أن على واحد منا أن يتحرك لينهي إعداد الشاي.. تحولت أكواب الشاي الى بيرة ووعد بما هو أفخم.. واستمرت الحكايات توعد بسيرة حياة قلقة.. لكنها لم تكتمل مثل كل شيء في حياة ابراهيم منصور.
ـ 3 ـ
لم أجد غير الصور التي التقطها محمد جمعة في تلك الليلة التي لم نشعر فيها بفارق العمر.. كنت أنا (38 سنة) ومحمد (26 سنة) وماجي ميشيل (23 سنة) ومحمد هاشم (يلعب في أول الاربعينات).. و"عم ابراهيم.." (.. وقتها كان عمره بالضبط 65 سنة) لم نشعر بمسافة الزمن ولا بأبوة زاعقة أو صراع اجيال.. محمد كان يبحث من دون فلاش خارجي وعبر إضاءة البيت عن ملامح ابراهيم المحفورة بين كتلة شعر بيضاء تغطي رأسه ووجهه. يشبه الراهب لكنه ليس راهباً. انه يريد امتصاص الحياة الى آخر قطرة. يساري متمرد على كل التعاليم لكنه يمارس حياة خفيفة مثل الصوفيين، جسده النحيف يشبه نساك الديانات الأرضية الذين يرون أن الاستمتاع بالحياة هو أساس التديّن. يبدو معتنياً بكل التفاصيل على الرغم من أن الحقيقة غير ذلك.. لم يغير أشياء كثيرة في حياته بداية من البيت الذى يعيش فيه منذ طفولته.. وهو بيت عائلة تحيطه غالباً تغيرات ألمت بحياة الأشقاء وأجيالهم الجديدة.. بيته كما هو لم يتغير.. لكنه أنيق.. فى مدخله معرض العصي الأنيقة والمرايا التي تذكر بزمن قديم.. ومن حجرة الموسيقى.. تتسرب أغنية قديمة لكنك تشعر بأنك تسمعها لأول مرة.. الأثاث قديم.. وجهاز التليفون يلفّ مع ابراهيم في كل مكان.. والكتب وكتالوجات المعارض ولوحات الفنانين تحتل موقعاً أساسياً من المشهد الذي يتحرك فيه ابراهيم بلطف وهو يرتدى تيشيرت وشورت.
يحب المقاهي أكثر من البيوت ذات الرائحة العائلية. ويبحث عن أصدقاء مختارين من أجيال مختلفة. يحكون له ويعتبرون بيته محطة انفلات كامل لا انضباط.
كان يبحث عن نفسه في الاختيار المتجدد لحياة غير متطلعة الا للحياة. لا يعرف ولا يحب استثمار مواهبه. ويبحث عن جنة حقيقية على الأرض.
وهذا تقريباً ماقاله ليوسف رخا في بورتريه نشرته "الأهرام ويكلي": "أعيش لأحيا.. فقط" هذه وظيفته الوحيدة التي تعني ببساطة ان "لا ترغم علي أن تعمل أو تكون لك وظيفة. وإذا فعلت فذلك لأنك تستمتع بأن تقوم بذلك. وغير ذلك.. فاقرأ، أو أذهب الي السينما، أو المسرح أو استمع الي الموسيقي. أو أذهب لتقابل أصدقاءك. أو تحدث. إنها أفضل ما في الحياة. أن يكون لديك عدد هائل من الأصدقاء المقربين. وإذا كان لديك كل هؤلاء الأصدقاء الذين تعيش معهم فما الحاجة إذن لأن تكتب".
ويبدو ان ابراهيم منصور في الحوار نفسها كان يرد على معركة تتكرر مع زملاء من جيلنا في أوساط الأدب والصحافة يستفزهم إعجابنا بابراهيم منصور.. أحدهم أحمر وجهه وظل يصرخ طوال ليلة كاملة على المقهى: ".. ما قيمة ابراهيم منصور مقارنة بآخرين لهم الآن 40 كتاباً..".. لم يفهم كلامنا.. وظل يشتمنا: ".. أنتم ولاد كلب.. بتحبوا أي حد كسلان وما بيعملش حاجة..".. لم يفهم أننا نحب طريقة ابراهيم في الحياة.. حريته.. روحه القوية القادرة على تكسير القيود والكليشيات.. نحبه ولا نقف بجوار جبل إنجازاته.. لم يقتنع بأن الكم لا يمثل قيمة في حد ذاته.. ولا بأن ما يملكه الشخص أو ما أنجزه ليس علامة على النجاح.. بل علامة على تحكم غريزة التملك القاتلة.. يومها كانت المناقشة فارقة في علاقتنا.. لأن الزميل لم يفهم انه لا مانع من أن يكون لك إنجاز.. لكن قبل كل شيء لا بد أن تكون موجوداً.. تستمع بالحياة وتحقق لك وجوداً مستقلاً.. حراً.. هذا ربما سر الاعجاب بالروح التي يمنحها ابراهيم لمن يحبه.. ويكتشف أن بداخله شيئاً (موهبة ربما..).
ابراهيم منصور كان مطارداً بسؤال الانجاز لماذا لم تنشر.. (له كتاب واحد بعنوان "الازدواج الثقافي وأزمة المعارضة المصرية" عبارة عن حوارات مع شخصيات سياسية)... وكانت إجابته في حوار الويكلي: "الناس تكتب لأسباب مختلفة. وتختلف الأسباب حسب الدستور الخاص بكل شخص وبالظروف. بعض الناس ـ وأنا لست منهم ـ يعيش ليكتب. وهؤلاء هم الذين لديهم إنتاج. يحققون شيئاً. ولكن بالنسبة لي كان الهدف الأساسي هو أن أعيش. أتعرف، الإنسان لم يخلق ليكتب. وهذا هو ما وددت أن أكونه. أن أكون مستريحاً. ولكن ليس بالمعنى المادي للكلمة. ولكن بمعني أن أكون سعيداً في الحياة التي هي لدي. بالنسبة لكثيرين، الكتابة قد تكون بديلا من الحياة. ولكن إذا كنت سعيداً بالحياة ذاتها، فلماذا الكتابة إذن؟!".
الى أي حد بدا وجود ابراهيم منصور في حد ذاته هو طاقة غير مرئية تشير الى شيء كبير جداً؟!
هذا الشيء يسمونه تسمية اعتبرها مختزلة جداً وهي : ضمير الحركة الثقافية. بمعنى ان كل القيم والمعاني التي تتفق عليها تتجسد في شخصيته.. سمعت ليلة الحوار الضائع مرة اخرى حكايته عن لويس عوض.. عندما التقاه فجأة في احدى طرقات مؤسسة "الأهرام".. وفوجئ به يقول له: ".. والله كانوا 7 شرائط بس.." وعرف يومها أن الدكتور لويس كان يقصد الشرائط التي سجلها لجيهان السادات ليشرح فيها قصائد الشاعر تشيلي.. في اطار اعدادها للحصول على الماجستير.. حكى ابراهيم الحكاية أيضاً لمحمود الورداني في حوار نشرته "أخبار الادب".. وفى الوقت نفسه رأى أن: ".. لويس عوض من بين القليلين جداً الذين احتفظوا بأنفسهم الى حد كبير.. .وربما كان هذا راجعاً الى انه كان مسنودا من محمد حسنين هيكل في الأهرام.. وفى معظم الأحيان كان لويس عوض قادراً على أن يقول رأيه والا ينافق..".
وهو هنا ليس "ضميراً" بالمعنى الكلاسيكي. فهو يتحرر من قواعد جاهزة للحكم.. ولديها مؤشرات تخصه وحده يرى بها المشهد من عدة زوايا يتحرر من الولاءات المغلقة (الحزبية أو السياسية..) لصالح شيء واحد هو الخروج عن السلطة (كان ممكن أن تصدمك حماسته بتجربة حزب الله في لبنان.. وهو اليساري المتطرف في يساريته..).. وفي حوار الورداني وصف ابراهيم منصورالعلاقة بين المثقف والسلطة وصفاً طريفاً جداً: ".. لا تسلم ذقنك للسلطة لأن صاحب السلطان كراكب الأسد..".
ـ 4 ـ
ولد ابراهيم منصور عام 1937. عائلته من البرجوازية المستورة. أبوه أنهى حياته موظفاً كبيراً في وزارة التعليم. قطع رحلة حياته من مدينة المنصورة الى شبرا ومنها الى المعادي. كل مرحلة هي علامة على خطوة في طريق الصعود. والمكتبة كانت عامل اختلافه الحقيقي عن أقرانه. الاختلاف كان ملحوظاً أكثر في موقفه المحايد من ذوبان ابراهيم في تنظيمات اليسار تحت الأرض.. وعندما اعتقل في حملة 1959 لم يكن في البيت غير خوف الأم واعادة لحكاية الضابط الذى جاء يبحث عن المشاغب السياسي الهارب.. وأقنعته الأم أنه خارج المنزل.. بينما هو ينام تحت سرير شقيقته الصغرى.
من هذه الأيام اكتشفت العائلة أنه "خائن" لأحلام الطبقة الوسطى و"متمرد" بفوضوية على المؤسسات التقليدية في التعليم والوظيفة والعائلة. ذهب الى كلية الآداب بالصدفة. كان طابور كلية الحقوق طويلاً. (تحت الحاح رغبة الأب عاد الى الحقوق وتخرج عام 1958). لم يكن موظفاً أبداً. عمل مراسلاً صحفياً (السفير اللبنانية) وكاتباً (الوطن الكويتية).. ومترجماً في صحف ومجلات.. اختار أن يعيش "على هواه" يقرأ ويستمتع بالموسيقى.. والسينما.. وجلسات الاصدقاء.. أحياناً يفكر في مشاريع (أبواب خارج نمط الصحافة التقليدية في مجلات.. أو سلسلة كتب..).. هو أيضاً مستشار.. ومرجعية... وشريك في أي عمل منفلت خارج القوالب المستهلكة.. يكلمك في الصباح ليحرضك على اتخاذ موقف ضد فعل فاضح من السلطة السياسية أو الثقافية.. صوته واثق متحمس.. وفي الليل يكون الأول في السهرات اللطيفة.. السياسة ليست بديلاً من الاستمتاع.. والمتعة ليست ضد أن تكون صاحب موقف. كان من السهل أن يصبح ابراهيم منصور من أصحاب الكهنوت في الوسط الثقافي الذين يعرفون كل شيء ويضعون له عادة مقدسة: هكذا تشرب القهوة.. وهذه هي الكتب التي تقرأها. وهذا هو الموقف الملائم. هكذا ينام المثقفون مع العشيقات المثقفات وهكذا يتزوجون من قريبات. عادات مقدسة من الكتابة والتفكير حتى الحب والبيرة. وفيها جميعا يتمتعون بممارسة ازدواجية مبهرة لا تزعجهم أبداً. بل ويعتبرونها : علامة على المثقف.. لكن ابراهيم كان يفلت ويخرج.. وتجده حيث تقوده بوصلة خاصة يكتشف فيها الموهبة.. ويسير فيها خارج الكهنوت. لا شيء سوى طاقة هائلة تنحاز لموقع الرافض للسلطة في كل أشكالها.. والمنجذب للتمرد.. والكاره للألعاب الصغيرة.. هذا كان عالمه "المثالي". لديه قدرة على مطاردة المتع اينما كانت لكنها مطاردة ارستقراطية وليس على طريقة حانوتيةالأرياف. يتخذ موقعه في قيادة الانقلابات الثقافية.. كتب قصة وحيدة (اسمها: اليوم 24 ساعة.. هناك قصة أخرى غير مشهورة) لكنه صار مبشراً وداعية لجيل الستينات في الأدب كما ظهر في المجلة الشهيرة: "غاليرى 68".. لم يحتل موقعاً حزبياً لكنه ترجم أحد أهم الدراسات المنشورة عن اتفاقية كامب ديفيد.
ـ 5 ـ
فى نيسان 2002 أعلنت مجموعة من المثقفين: الاضراب عن الطعام.. والاعتصام حتى تقرر الحكومة طرد السفير الإسرائيلي.. وإغلاق السفارة التي تطل من الدور الرابع عشر على نيل القاهرة.
بدأ الإضراب فكرة مجنونة من ابراهيم منصور. والعجيب أنه أول من أصرّ على فكرة الإضراب عن الطعام واختيار هذه الطريقة في التعبير عن الاحتجاج على الرغم من أنه الأكبر سناً.
العمر لم تغلبه الحماسة التي أصابت عدواها آخرين.. وهى طريقة ينفذ بها عادة أفكاره التي تقترب أحياناً من حدود الفورات الانفعالية.. يحكون عنه طرائف من هذا النوع أشهرها طبعاً ما حدث عشية توقيع كامب ديفيد عندما دخل على المثقفين الملتفين حول الطاولات في مقهى ريش الشهير يطالبهم بالخروج في مظاهرة احتجاج على تصرفات الرئيس... وجمع تبرعات رمزية لشراء قماش اللافتات.. وكتب الشعارات في المقهى نفسه.. وسرعان ما تسرب رجال المباحث الى المكان وخرج الجميع من باب المقهى الى سيارات الشرطة المنتظرة بالخارج.. هو أقرب الى تصرفات الزعيم كما عرفته الستينات.. لكنه يختلف عن الزعماء من هذا النوع بأنه.. أميل الى الثقافة.. وأكثر لطفاً.. ولا يعتني كثيراً بالتوازنات والحسابات المعقدة لوجود الزعيم في الساحة السياسية.. والأهم أنه بلا أتباع ولا جماهير.. فقط أصدقاء ومحبون تثيرهم حماسته.. وتغيظهم عصبيته الى حد الغضب.
وها هم يسيرون في جنازته يبحثون عنه ليحرك طاقة السخرية ويفلتوا بالجنازة من إيقاع الموتى العاديين!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى