إبراهيم عبد القادر المازني - في يوم ماطر..

كانت السماء مطبقة على الأرض، والمطر يسح حثيثاً متداركاًنه يكاد من شدته يقشر القطران، والماء يسيل على جانبي الطريق ويتدافع ويرتفع له مثل الموج، وكان أمام نافذتي بوابة عريضة وقفت على عتبتها فتاة تتقي المطر في ظُلتها. وكانت ترتدي ثوباً مشرقاً بين الحمرة والبياض كأنما استعارت صبغته المزدوجة من الشمس الغاربة والقمر الطالع. وكانت فيه كأنها مِقطَعٌ أو مثال فصل الثوب على قده لعرضه على العيون، فمحاسنها كلها مجلوّة، وخطوط قوامها اللين مرسومة، وقد أجتمع طرفان منه على سرتها وانعقد على صفة وردة كبيرة، وتدلت على مدار خصرها الهضيم ذلاذل تكاد تمس قدميها الدقيقتين؛ أما صدرها فأطاف به شيء لا أدري ما صفته كان ثديها الناهدان يبدوان من تحته كأنهما في كأسين، أو كأنهما موجتان متناوجتان حجزتا وحيل بينهما وبين التسرب والانسياب. ولم يكن أفتن من منظرها وهي واقفة ترقب انقطاع المطر، وكان معي في البيت صاحب يحمل مظلة جميلة غالية، لا تفارق يده في صيف شتاء، ولا ليل ولا نهار، فكأنها قطعة منه، أو امتداد لذراعها، فغافلته وحملتها، ومضيت بها إلى هذه الفتاة ووضعتها في يمينها، وارتددت عنها بلا كلام. فلما أفاقت من دهشتها كنت قد غبت عن عينها. وآن لصاحبي أن يخرج، فنظر فلم يجد المظلة، فتلفت هنا وهنا ثم سأل فقلت: (أترى هذه البوابة؟ كانت هنا فتاة جميلة تخشى على نفسها وعلى ثيابها من المطر فلم يسعني إلا أنجدها. . .). فسأل: (أعطيتها المـ....

قلت: (ألم أقل لك إنك ذكي؟ بل أنت أيضاً ذو مروءة ونجدة وشهامة).

قال: (ولكن مظلتي؟ كيف أخرج الآن. . . . وفي هذا المطر أيضاً؟).

قلت: (إنها بلا شك تشكر لك هذا الصنيع الجميل، فأنت سعيد بذلك، فليتني كنت صاحبها - أعني المظلة!).

قال: (ولكن ماذا أصنع؟ كيف أخرج؟ إن هذا شيء. .). قلت: (يا صاحبي. إن الإيثار حميد، ولأثرة ذميمة).

فقال: (تعطي مظلتي لفتاة؟ أما إن هذا لغريب!).

قلت: (يا صاحبي. لو رأيتها لما قلت (فتاة) بهذه اللهجة التي أنكرها ولا أرضى عنها. إنها فتاة رائعة. وإني لرجل متزن الأعصاب في العادة، ولكني أرجو أن تثق أنها فتنتني. وإني لآسف على حرمانك هذه المظلة الثمينة - أو التي كانت ثمينة منذ أربع سنوات - ولتكن عليك أن تتعزى بأن التي تحملها الآن أجمل فتاة على ظهر هذه الأرض، وأنك أنت سبب سعادتها في هذه اللحظة، وأن اسمك سيخلد في التاريخ، وأنى لو كنت شاعراً لقلت أبياتاً أخلد فيها صنيعك الحسن هذا، وإن أبنائي سيحفون بي كل ليلة ويطلبون أن أقص عليهم كيف فقد صاحبي العظيم مظلته الغالية. . .).

ولم أتم خطبتي لأنه خرج مغضباً، فأمسكت وحمدت الله!

وحمل إلى البريد رسالة غريبة هذا نصها بعد الديباجة المألوفة: (إن ما أقرأه لك يحملني على الثقة بأنك لن تخيب رجائي فيك. فهل لك أن تقابلني أمام باب (جروبي) الساعة السابعة من مساء اليوم؟ ولا أجرؤ أن أبدو لك حتى تبدو لي، فإذا صدق ظني فيك فلعلك تتفضل بأن تضع في عروتك زهرة من زهور (الأرواله) البيضاء، لأعرفك بها، وزيادة في الحيطة أرجو أن تقول لي (لا مطر غداً) فأقول لك (لم ولماذا وكيف يكون ذلك) فلا تنس).

ولم يكن على الرسالة توقيع، فلم أشك في أنها فتاة مصرية لم تألف أن تدخل (جروبي) وتجلس في حديقته، ولكنها تسمع باسمه فهي تقف عند بابه، فما يعقل أن يكون كل هذا الحرص والحذر من رجل، واطمأنت نفسي بعد أن خلصت إلى هذه النتيجة، وشكرت الحظ الذي أبعد عني صاحبي قبل أن تردني هذه الرسالة، بدقائق، ولو أنه كان معي لأطلعته عليها بلا أدنى ريب، ولكان المحقق أن يسبقني إلى باب (جروبي) فيطردني بوجوده، عنه. واشتريت الزهرة المطلوبة، ووضعتها في العروة، وأخرجت منديلاً وظلت أرفع يدي به وهو منشور إلى أنفي لأحجب هذه الزهرة عن العيون، فقد كانت كبيرة وأنا أخجل أن أضع على صدري زهراً ولو كان في حجم الحمصة، ووقفت بباب جروبي أتأمل الداخلين والداخلات، والخارجين والخارجات، وأشاور نفسي وأسألها كيف أقدم على خطاب من لا أعرف؟

ولم يكن ثم بد من الإقدام، فما اشتريت الزهرة البيضاء الكبيرة وغرستها فوق حبة قلبي لأعرض نفسي على الأنظار، فتوكلت على الله، على أنى - كما لا أحتاج أن أقول - أهملت العجائز وتركتهن يرحن ويجئن كما يشأن دون أن أكلف نفسي حتى النظر إليهن، وأقبلت فتاة رشيقة تتلفت كالمترددة فتمنيت أن تكون هي ودنوت منها وقلت:

(معذرة. واغتفري لي تطفلي، لا مطر غداً!).

فنظرت إلى باسمة وقالت:

(باردون؟).

فقلت لنفسي: (ليست بها. وقد غلطت والله يا ولد، فاخرج من هذا المأزق بسرعة) فتبالهت وسألتها بغير العربية:

(إنما كنت أسأل هل هذا جروبي؟).

فقالت وهي تبتسم: (طبعاً. . . الاسم مكتوب. . .)

فبلعت ريقي وشكرتها وارتددت عنها.

وأقبلت أُخرى أعذب منها - بلا شك - وأظرف على التحقيق، وأولى بأن ترؤف بي إذا غلطت فيها، وكانت تتأمل إعلانات وصوراً لشركة بواخر هناك، فدعوت الله أن يجعلها من نصيبي، وأقبلت بلا تمهيد:

(مطر غداً)

فقالت بعربية محطمة، استحى أن أثبتها بنصها: (شيء غريب! متأكد؟)

قلت: (ثقي بي. أني نشرة جوية متنقلة. . . مرصد إنساني متجول. . .)

قالت: (ظاهر. . أشكرك. . .)

قلت: (هذا واجبي. . . فلا أستحق شكراً)

قالت: (إنك تؤديه بذمة. . لقد رأيتك الآن تخاطب سيدة هناك. . . وهذه أخرى آتية، فاسمح لي ألا أحول بينك وبين عملك)

قلت: (لم يكذب ظني)

قالت: (كيف؟)

قلت: (كنت موقناً أنك أظرف من تلك التي هزئت وأخجلتني)

فسألتني: (هل أنت على موعد مع مجهولة؟) قلت: (أصبت. . .)

قالت: (مسكين!. . لعلها هذه) وأشارت فالتفت فإذا فتاتي - أعني الفتاة التي تفضلت عليها بمظلة صاحبي، فقلت:

(اخفيني عنها لحظة حتى تمر. . . تظاهري بأنك صديقتي دقيقة واحدة. . أرجو)

فضحكت وقالت: (لماذا تخشاها؟ هل خنت لها عهداً؟ لا بأس. تعال)

ووضعت ذراعها في ذراعي وهممنا بأن نسير، وإذا بفتاتي تصيح ورائي:

(من فضلك. . . من فضلك. . . ألا تذكرني. . إني مدينة لك بالشكر، لقد تركتني فجأة كما ظهرت لي فجأة، فلم أدر أين اختفيت، فهل تسمح لي باسمك وعنوانك لأعيد إليك المظلة؟)

فقلت: (هذا شيء تافه. . . لا تفكري فيه)

قالت (ولكني لا أستطيع أن أبقيها عندي وأحرمك)

قلت: (ثقي أنك لا تحرميني شيئاً فأنها ليست لي، بل لصاحب)

قالت: (ما أرقه!)

قلت: (إنه على نقيض ذلك. . أبعد ما يكون عن الرقة)

قالت: (هذا أدعى لردها إليه)

قلت: (لقد انتهى الأمر. سرقت مظلته وأعطيتك إياها، وعرف ما كان، وغضب وشال نفسه وحطها، ولم يبق هناك شيء آخر يمكنه أن يصنعه، فلا تكترثي له ولا تفكري فيه)

قالت بعطف: (مسكين!)

قلت: (لقد كنت أنا المسكين، وكانت هذه المظلة تفقأ عيني كلما رأيتها، فالآن أمنت، وفي وسمي أن ألقاه وأنا مطمئن، من غير أن يؤذي بصري منظر المظلة)

قالت وهي تضحك: (على كل حال لابد من ردها إليه ولك وله الشكر)

فكتبت لها الاسم والعنوان، ولم يفتني أن أحذرها من مقابلته، ولم يبق بعد ذلك ما يقال، فهممت بتوديعها وإذا برجل همٍ هرم يدنو مني وينظر إلى الزهرة التي على صدري ثم يقول وهو يفرك كفيه:

(هل سمعتك تقول لا مطر غداً!)

فحدقت فيه متردداً، ثم رفعت يدي إلى الزهرة فأخرجتها من العروة ورميتها على الأرض، فلم ينهزم وقال:

(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟). فكاد عقلي يطير، فتناولت ذراعي الفتاتين وأوليت الرجل ظهري ومضيت بهما عنه، وهما ذاهلتان تنظران إلي ولا تفهمان، غير أن هذا لم يمنع الرجل أن يمشي ورائي وهو يصيح:

(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟)

فقلت لفتاتي: (لم يبق إلا أن نجري، فهل تقدران على ذلك؟)

وجرينا مسافة ونحن نضحك، فلما أمنا أن يدركنا وقفنا وقصصت عليهما الخبر، فسألتني فتاة المظلة:

(ولكن ماذا يريد منك؟)

قلت: (لا أعرف، ولا أحب أن أعرف. .)

قالت: (ألا يحسن أن تتبين؟)

قلت: (أتبين؟ أليس حسبي ما منيت به من خيبة الأمل. ومع ذلك قد عوضني الله خيراً. . . هيا بنا لنستريح. . .)

إبراهيم عبد القادر المازني


مجلة الرسالة - العدد 74
بتاريخ: 03 - 12 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى