بانياسيس - ربيع ميسان - قصة قصيرة

يونس .. يتحدث بعصبيته المعتادة ؛ اسود نحيل لكن جلده متقشف ورمادي من قسوة عمله في مصنع الرخام:
- انا عملت في مصنع الرخام منذ عشرين عاما...
صمت كعادته فهو لا يكمل جملته أبدا.. الرجال الباقون يحدقون فيه في انتظار اكمال جملته لكنه يخفي عينيه تحت مظلة قبعته ومعطفه الجلدي الأسود وينظر بخط مستقيم الى الأمام وشفتاه الغليظتان مزمومتان كما لو كان يقبل الفراغ.
بعد انتظار لأربعين ثانية اكتشف الجميع أن يونس اكمل جملته بالفعل حيث لا يفهم منها سوى أنه قضى عشرين عاما في مصنع الرخام..رغم أنهم جميعهم يدركون هذه المعلومة مسبقا ... حينها ترهلت بطونهم وكأنما اكتشفوا أن عليهم بداية حوار جديد ، أقبل موسى بدراجته البخارية ؛ موسى ضخم الجثة ، له ترقوة ضخمة ذات فرشات جلد عديدة مطوية...خلع نظارة القيادة وظل واقفا بدراجته النارية قربهم وهو يستمع لأحاديثهم...
- متى ستعود لنيجيريا يا موسى؟
- طليقتي المصرية اللعينة تحاصرني..
أجاب سؤال ريزا...
في عرب المعادي يجتمع الخمسة ويزيدون او ينقصون واحدا بعض المرات...ريزا الشاب القصير انثوي التقاطيع من سيريلانكا...والذي لا زالت نظراته مكتئبة منذ أن خانته الفتاة الهندية التي كانت تعيش معه فشرب زجاجة كلوريكس كاملة مفضلا الانتحار ؛ لكنه لم يمت بل عانى واصدقاءه من عمليات غسيل المعدة والاسهال والقيء ليومين او ثلاثة ؛ يونس من أفريقيا الوسطة وموسى من نيجيريا وبكاري من السنغال .. كلهم تخرجوا من الأزهر بشهادة مرضى نفسيين ، جراء الكبت والتحرشات الجنسية حيث لا توجد هناك رائحة انثى. بكاري امتهن الدجل والشعوذة رغم غبائه لكن النسوة كلهن كن يخرجن من غرفة الكشف عن ماضيهن وحاضرهن ومستقبلهن وهن مذعورات من القصص التي كان يسردها عليهن عن حياتهن الماضية بل قبل يوم واحد أو حتى ساعة قبل حضورهن إليه. كان يعرف كيف يقرأ المرأة بشكل عجيب ، وأغلب النسوة كما أسر لي يمارسن الخيانة مع عشاقهن سواء كن متزوجات أم غير متزوجات. المرأة المخادعة هي تلك التي تبدو بائسة ومنهزمة ؛ إنها أخطر الانواع. وأقلهن خطرا الضحوك اللعوب. لقد تخصص فيهن. أما موسى فقد تزوج مصرية ثم طلقها فرفعت عليه قضايا تبديد وظلت تطارده بالبلاغات وتبث في قلبه الرعب لابتزاز ماله...
جاء صوتها حادا وهي أربعينية ترتدي عباءة قصيرة بالية وتربط شعرها بقبعة بها زهور ملونة من القماش:
- موووووسى...
ندرك حينها ما سيعتري جسده من رعشة خوف تظهر في طيات ترقوته المنتفخة. يهرع اليها ويظلا يتهامسان ونراه يخرج كل ما في جيوبه ويطرحه في عباءتها فتأخذها وترحل ليتنفس الصعداء . الطقوس المعهودة التي تنتهي بتدخينه لسجارة بنهم.
- أهل الحي يعتقدونني متدينا لأنني أزهري...
يقول ذلك ثم يدهس عقب سجارته ويعتلي دراجته ويغادر دون أن يفارقه القلق.
يونس يظل في نظرته المستقيمة وشفتاه الغليظتان مزمومتان الى الامام.
ريزا يعاني من وسواس خيانة الحبيبات فيظل منكسرا. يدخن وهو يرتجف من برد ساحة مقهى عرب المعادي.
قال بكاري أنه يرى حسين الصومالي هذه الأيام يجلس وحيدا في القهوة .. يطلب كوب شاي كشري ويظل يتأمله حتى لا يضطر لطلب شاي آخر .. النادل المصري الذي يلعب دور شارلوك هولمز وهو يتعقب الاكواب الفارغة فيخطفها ويقول بصيغة ذات مغزى:
-تأمر بحاجة تانية يا فندم.
مع ذلك كان يتساهل مع حسين الصومالي ؛ حسين كغالبية الصوماليين ؛ اسود وطويل ونحيل وكأغلب الصوماليين لديه مؤخرى منتفخة لا تتناسب مع ضعف بنيته وطوله الفارع. لحيته تمتد من اسفل نظارته وحتى بداية صدره.
-سأذهب إليه..
قال بكارى وعجل بالجلوس أمامه.
علم من حسين أنه تخرج من الأزهر وأنه لم يعد مستحقا للبقاء في داخلية الطلبة وهو لم يجد عملا فالقاهرة تعاني من ضعف الفرص للمصريين ناهيك عن الأجانب.
نقل بكاري الأمر الى الشباب ؛ سانكا أيضا نيجيريا من الهوسا ؛ سمين وملظلظ الخدين ومبتسم دائما عيناه بلا رموش ولا تعلوهما حواجب.. كان يرى أن الشباب لن يتحملوا وجود الشيخ حسين معهم وهم يتعاقرون الخمر ويجلبون العاهرات الى الشقة. وجود شيخ حسين لن يريحه ولن يريحهم.
قال ريزا:
- دعونا نكن صريحين معه...سنبين له وضعنا بكل صدق..وهو عليه ان يقبل بوجوده مع فاسقين مثل سانكا..
اعترض سانكا فهو لا يعتبر مضاجعة السمراوات من بني جنسيته فسوقا..انه لا يدفع لهن ...الباقون هم من يدفعون مالا لمصريات...
- عيب عندنا أن نمارس الجنس بالمال... الحب هو الأساس...الحب والرضى الكامل بين الطرفين...
طرح بكاري الوضع برمته على شيخ حسين الذي لم يجد بدا من القبول متعهدا بألا يتدخل في سلوك الشباب...سينزوي في غرفة وحده ليؤدي فروض طاعته للإله.
وقد سعد الشباب بقبوله. وهكذا انفرجت أساريرهن جميعا.
-الغربة صعبة...
قال سانكا ؛ بابتسامته الطفولية وخداه يختلجان.
- أنا محترف في ماكينات صقل الرخام...
قال يونس وصمت فصمت الباقون وهم يحدقون فيه منتظرين اكمال الجملة.
***
الشقة الشبابية كبيرة في أحد أحياء عرب المعادي الشعبية ، جيرانهم المصريون كانوا مستاءين من دخول الفتيات الافريقيات اليهم بشكل متكرر ، لكن سانكا كان يخبرهم بحقيقة الفتيات:
- هذه زوجة يونس جاءت من أفريقيا الوسطى يا شيخ جلال.
فيقول شيخ جلال:
-طيب والسمراء التي قبلها.
-تلك زوجة موسى..
-ولكن موسى متزوج ومطلق.
- تنتفخ خدود سانكا وتتسع عيناه الخاليتان من الرموش والحواجب ويهمس بأسلوب يوحي بالخطر:
- يا شيخ جلال..رغم أن هذا سر لكني مضطر لإخبارك يا شيخ جلال...
شيخ جلال المصري ستيني نحيل كان يعمل في هيئة النقل العام له محل حلواني وقد تقاعد فخصص عمره المتبقي لمراقبة الأذان ومراقبة الجيران. وكان ممتعضا من هؤلاء الأفارقة السود الذين يمارسون السحر. قال بقرف:
- ها ..ما هو السر..
همس سانكا:
- زوجة يونس تعمل خادمة عند السفير الإسرائيلي يا شيخ جلال...
لم ينتظر شيخ جلال وفر هاربا . كان سانكا يدرك أن كلمة اسرائيلي تثير شياطين أي مصري حتى لو كان قوادا. لم يفهم سر ذلك البغض والحقد الذي يكنه الشعب المصري للآسرائيليين على هذا النحو الذي يكاد يكون مرضيا. لكنه يعلم أنه مفتاح يمكن استخدامه بشكل ذكي عند الخطر.
كان يريد أن يخبر الشيخ جلال بأن زوجة يونس لا تستطيع البقاء مع زوجها لأسباب أمنية...وهكذا فهي تراسله عبر اخواتها وصديقاتها ليلتقيا في مكان محدد. لكن شيخ جلال لم يعطه هذه الفرصة.لقد غادر مضطربا وغاضبا ، فالحكومة -كما يعتقد اغلب العامة هناك- تحمي السفارة الاسرائيلية أكثر من حمايتها لمساجد الله. كانت هذه مقارنة دائمة تعكس الفجوة في صراع كرسه التراث الديني بأكمله وعززته سياسات الحكومات البراغماتية والإعلام الذي يبث خطاب الكراهية لأقصى درجة مخالفا سياسة الدولة.
كانت بطة وهي مومس ثلاثينية مكتنزة الجسد وشديدة بياض البشرة تخلع ملابسها وهي تدلف إلى الشقة قبل حتى أن تغلق الباب ، ترتدي عباءة سوداء وتحتها لا شيء فهي جاهزة دائما للعمل . كان الشباب يتسامرون ؛ سانكا وبكاري وريزا وموسى ويونس وهم يجرعون زجاجات البيرة وضحكات بطة تجلجل في الشقة ، يونس لم يكن يشرب معهم ولا حتى يضحك فهو منذهل دائما بخبرته الطويلة في مصنع الرخام. فجأة كان الصمت يلف المكان حين يتبادل الجميع الدخول والخروج من الغرفة مع بطة.....
داخل غرفته ؛ شعر الشيخ حسين الصومالي بالاختناق ..لم يسمع شيئا في الخارج ، فاعتقد أنهم غادروا جميعا إلى القهوة كعادتهم مساء ، حينها حمل سجادته المهترئة من كثرة الصلاة وقيام الليل وخرج ليكمل باقي نفله في الصالة الرحيبة.
لم يلحظ اشباح الشباب في الجزء المنزوي من الصالة فافترش سجادته وأخذ يصلي بصوت خفيض. كان ممتنا لهؤلاء الشباب رغم فسوقهم.
وحين جلجلت ضحكة بطة الرنانة وهي تخرج من الغرفة عارية يتبعها يونس ؛ اضطرم قلب شيخ حسين ، كان واقفا يرتل ولكن قلبه كان يذوب مع ضحكات بطة الداعرة. ارتدت بطة عباءتها... ومرت من أمامه متجهة الى الباب لتغادر بعد أن حصلت على بضعة جنيهات... شدت عباءتها وغطت نصف وجهها الأعلى بطرحتها وهمت بالخروج حينها سمعت طرطقات أصابع عنيفة ... التفتت خلفها فوجدت عينا شيخ حسين مثبتة عليها وهو يطرقع بأصابعه لتنتظره ريثما ينهي صلاته....
لاحظ الشباب ذلك واعتراهم الخوف من أن يتحول شيخ حسين إلى واعظ لهذه المومس التي لن ترغب في الاستماع الى تخاريفه المسائية.
بطة نفسها أحست بالقلق حتى أنها ظلت واجمة في نفس وقفتها الى أن انتهى شيخ حسين من صلاته ثم نظر اليها بعينين متسعتين غاضبتين...ارتعشت شفتاها من الرعب وتذكرت أخبار التلفزيون وتفجيرات المجاهدين في الصومال. كانت تخشى الموت... نهض شيخ حسين بحنق وبعصبية بالغة اتجه نحوها...
صاح سانكا:
- شيخ حسين.. لقد تعاهدنا على ألا تتدخل في سلوكنا....
إلا أن شيخ حسين تجاهله وأمسك بمعصم بطة وجرها إلى الغرفة...
كانت قبضته الفولاذية تؤلم معصمها وكان رعبها يحطم أي قدرة محتملة لها على المقاومة ... ولم تجد نفسها إلا وشيخ حسين يلقي بها على السرير ويغلق باب الغرفة عليهما.
يونس نسى خبرته في صناعة الرخام ونهض بفزع وغمغم:
- شيخ ... شيخ حسين...
ريزا وسانكا تجمدا وهما واقفين... موسى وبكاري ظلا جالسين كالأصنام...
مرت ثلاث أرباع الساعة ثم نصف ساعة ...
وسمع الجميع تأوهات بطة... وبعد ساعة تحولت تأوهاتها إلى أنين وبعد نصف ساعة أخرى كان صراخها يجلجل في الفراغ.
ثم هدأ كل شيء.
نصف ساعة أخرى وسمعوا ضحكات بطة ثم رأوها تخرج والعرق يتصبب من جسدها ؛ لفت عباءتها .. قال شيخ حسين:
- ألن تغتسلي...
قالت بعينين خائرتين:
- اغتسل ايه . انا اتهديت.. سأذهب لأنام فقط يا شيخ حسين..
اغلقت الباب وراءها ، وظل الصمت يخيم على الجميع.
خرج شيخ حسين واتجه الى الحمام..ثم خرج وجلس الى جوارهم في جزء الصالة المنزوي المعتم.
قال سانكا وقد فارقته ابتسامته:
- هل تشعر بالذنب؟
هز شيخ حسين رأسه نفيا ثم رفت على شفتيه ابتسامة:
- لقد كان شيئا رائعا...
قال سانكا:
- المتدينون غالبا ما يشعرون بالذنب بعد عصيانهم لأوامر الله.
- لا تخش شيئا لست مجنونا يا سانكا... لكن ما أدركته الآن هو أن الزواج شيء ضروري....
قال بكاري:
- اذن فليس أمامك سوى العودة إلى الصومال ..
قال ريزا:
- الحرب والقتال والدماء... فلتغادر الى دولة أخرى.
- المصريون لا يقبلون تزويج الأفارقة السود...والأفريقيات هنا لا يرغبن في الزواج لأنه يعرقل طموحاتهن.. تزوجتني حسنية بائعة الخضار لأنها كانت تعتقد أنني أملك مالا...ثم لفظتني وأخذت تبتزني...
لم ينظر اليهم شيخ حسين ؛ كان ظل الابتسامة لا زال يرتسم على شفتيه.
حينها قال سانكا:
- شيخ جلال ليس لديه سوى ثلاث بنات ومحل حلويات تديره ابنته الكبرى عندما يكون غائبا اذهب اليه واخطب إحدى بناته.
- لا أملك شيئا يا سانكا لأقدمه مهرا...
قال سانكا:
- بل تملك .. قل له انك لا تملك سوى كتاب الله وسنة رسوله... دعنا نرىإن كان متدينا حقا أم عنصريا كالآخرين ...
- هذه حماقة لكنني سأجازف...ربما غدا...
قال سانكا بإصرار:
- بل الآن يا شيخ حسين...
قبل أن يكمل جملته اختفى شيخ حسين من أمامهم...
-يا شيخ جلال...
- شيخ حسين ... لماذا تعيش مع هؤلاء الفاسقين يا بني.. يبدو من وضاءة وجهك أنك رجل ملتزم...
- هم شباب طيب يا عم.. وسينصلح حالهم يوما ما ...
تردد قليلا ثم أضاف:
- ياشيخ جلال... جئت أخطب أي واحدة من بناتك الثلاث رغم أنني لا أملك سوى كتاب الله وسنة رسوله...
نظر اليه شيخ جلال متأملا وجهه النحيل وعينيه الحادتين كأغلب الصوماليين. ثم صاح:
- يا فدوة...فدوة...
جاء صوت انثوي من الداخل.. فاضاف بصوت آمر:
- تعالي ومعك أختيك...
مضت ثوان وأقبلت الصبيات وهن يخفين وجوههن.
- اكشفن وجوهكن .. هيا...الآن يا شيخ حسين..لقد رأيت البنات فأختر أي واحدة منهن...
تأمل شيخ حسين الصبيات .. كن جميلات جدا ؛ لكنه رأى بريقا في عيني الوسطى..حينها أشار باستحياء اليها...
تعالي الى زوجك يا بنت...سأنادي على شيخ بدوي المأزون...
خرج وترك الفتيات مع شيخ حسين.. عادت الفتاتان وبقيت الوسطى فغمغم شيخ حسين بخجل:
- بسم الله.. ما اسمك؟
غطت ابتسامة خجلى بثوبها وقالت بصوت خفيض:
- ميسان ..
****
بكاري تزوج هو الآخر من فتاة مصرية وعاد بها إلى السنغال وادعى أنها من سلالة الرسول وهكذا أخذ يتلقى التقدمات والهدايا من أهل منطقته فامتلأت مخازنه وحظائره بالحنطة والشعير والدجاج والخراف ...
موسى تم القبض عليه بتهمة كازبة الصقتها فيه طليقته وحكم عليه بعشر سنوات سجن. ريزا استطاع اقناع تجار مصريين بجلب مكسرات لهم من سيريلانكا ثم أخذ أموالهم وفر إلى الهند بحثا عن هندية أخرى لا تخونه. يونس ظل يحسب أيام خبرته في مصنع الرخام...سانكا وجد ميتا في الصباح وتم دفنه دون أن يعلموا له أهلا او عائلة. شيخ حسين أختفى من القهوة واصبح متنقلا فقط بين منزل زوجته الصبية وإدارة محل الحلواني ثم المسجد هو وحماه.
أما أنا .... فبقيت جالسا في قهوة عرب المعادي ... وحيدا انتظر لقاء مهاجرين ضائعين آخرين في مدن القاهرة والجيزة .. علني أجد قصصا لأرويها لكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى