محمد أبو المعاطي أبو النجا - في هذا الصباح..

في هذه المرة، في هذا الصباح، كانت تفاصيل المكان تصل إلى عيني في وضوح بالغ، وفي دقة متناهية، مئات المرات في كل صباح كنت أعبر هذه الصالة الممتدة إلى مكتبي دون أن يسترعي انتباهي سوى استطالتها، وانكسار درجة الضوء فيها، والصمت الممتد في جنباتها، في هذه المرة ألاحظ تداخل ألوان البلاطات في الصالة كأنها لم تغسل قبل اليوم، موسيقى ناعمة مجهولة المصدر تمتد عبر الصالة تعمق الشعور بالصمت والهدوء، حتى المحررون في حجرتهم الفسيحة التي أدخل منها إلى حجرتي يردون تحية الصباح بابتسامة رائعة، قمصانهم زاهية، وكذلك ابتساماتهم، لا أستطيع أن أقول ذلك عن ابتسامة سلوى، فابتسامتها كانت دائما رائعة وصافية وساحرة، في هذا الصباح كانت تتحدث إلى زميل أعطاني ظهره، ولم يلبث أن التفت إلى ناحيتي ليرد تحيتي، هل أبصر في ابتسامة "سلوى" التي ردت بها.. على إيماءاتي الصامتة ما جعله يقطع بأنه أنا من تحييه سلوى بتلك الابتسامة، وهل حقا يدرك الجميع السر الذي أظن أنني أنجح في إخفائه؟ والذي يقول لي عنه محمد الراوي :

- يا أهبل.. لماذا تحاول أن تنكر أجمل شيء يحدث لك ويحدث منك؟

محمد الراوي في هذا الصباح كان يجلس على مكتبه في أقصى ركن من حجرة المحررين الفسيحة منكبا على أوراق يكتب فيها، أحيانا كنت أشعر أن محمد الراوي هو الوجه الآخر "لسلوى"، محمد الراوي الأصغر مني في الخمسين من عمره ولكنه يبدو دائما كأخ في الثلاثين، له وجه إنسان لم يكذب قط وربما لا يقدر على الكذب، أما كيف استطاع بالرغم من ذلك أن يعيش في زماننا، وأن تكون له هذه الأهمية في عمله؟ فليس عندي إجابة شافية لمثل هذا السؤال، أحيانا أقول ربما لأنه لا يجيد شيئا سوى هذا العمل يعطيه كل طاقته الجبارة، وكأنه حبه الوحيد في هذه الدنيا، وأصبح الجميع هنا يحتملون صدقه الأليم، لأنهم يدركون أهمية الدور الذي يقوم به في العمل، والعبء الذي يحمله أحيانا عن الجميع، بينما أكثرهم يتسكعون حوله ويختبئون وراء أكاذيبهم الصغيرة مطمئنين إلى أن صدقه القاسي ينوب عنهم في المواجهات الأليمة مع الرئاسات في المركز !.

توقفت قليلا معهم في هذا الصباح - وكانت تلك طريقتي في الاقتراب من جميعهم في بعض الأوقات - أسأل عن "الفاكسات" التي جاءت هذا الصباح، وأشاركهم الشكوى التقليدية للعاملين في هذا المكتب الفرعي من إهمال المكتب الرئيسي لما نبعت به إليه من تساؤلات وآراء ومقترحات نراها ضرورية لسرعة الإنجاز وللارتقاء بالعمل، وهم في المركز يلوموننا إلى حد التقريع من يجرؤ على لومهم على التأخر في الرد ؟

محمد الراوي هو الذي كان ينجح أحيانا في تقريعهم بأسلوب غير مباشر حين يرد على تساؤلاتهم التي كان يراها أحيانا غير ذات موضوع، أو حين يوضح لهم أنه قد سبقت لنا الإجابة عن مثل هذه التساؤلات من خلال موضوعات أخرى !.

وفي الواقع أن العلاقة الملتبسة أحيانا بين المركز والأطراف كانت هي اللحن المميز لثرثرة العاملين هنا في الفرع في بداية النهار وأحيانا في نهايته، وكانت هي التي تجمع بين كل العاملين في الفرع بالرغم من الفروق والمسافات التي تفصل بين أمزجتهم ومستوياتهم، فهم جميعا يدركون أنهم في سلة واحدة ربطها بالمركز حبل سرى وحيد يرى البعض أنه أنا باعتباري رئيس الفرع الأكبر سنا، ويرى البعض أنه محمد الراوي باعتباره الوحيد الذي يمارس عمله بنوع من العشق لا مثيل له، وباعتبار صدقه القاسي تعويذة الفرع الحارسة لنا جميعا من كل سوء فكلامه مصدق عند المركز وفي الفرع على السواء، والبعض يراه "سلوى" لأن جمالها هو الوجه الآخر لصدق "الراوي"، يقع الجميع في أسره، وقد كنت أنا - برغم تشبثي بالإنكار - في مقدمة الأسرى، لكن من تحب "سلوى" ؟ كان ذلك هو اللغز الأكبر...! فلا أحد يجرؤ على القطع، ولا أحد يخلو من التمني! وكان ذلك كله جزءا من سحر "سلوى" ومن عبقريتها! البعض يقول : هي لا تحب بسوى زوجها وطفليها ! وأنتم تعيشون في الوهم، وتجرون وراء السراب! والبعض يقول: هي تستحق الراوي ولكن الأحمق - لأسباب ينبغي الكشف عنها - لا يحب سوى عمله!

أما الراوي فقد كان الوحيد الذي يقول لي: يا أحمق البنت تحبك أنت !

وكنت أقول له: لأول مرة اكتشفت أن ما نقوله عن صدقك هو مجرد سخافة وبلاهة !

فيقول لي: يا جبان البنت تحبك !
- إنها في سن ابنتي
- أنت جبان وغبي فالحب لا يعترف بهذه الفروق !
- أعرف أنك تعتقد بصدق ما تقول، ولكن صدقك يمكن أن يقود إلى كارثة !
- الكارثة الحقيقية تتعلق بفقدانك الشجاعة !

كنت أحس بصدقه الأليم الضاري يخترقني، كم أتمنى أن يصدق صدقه معي، بيني وبين نفسي كنت أحيانا ألتمس دلائل صدقه في سلوكها معي !

وجهها مثل وجه "الراوي" لا يعرف الكذب، وفي كل مرة كنت أراها وحدي، كنت أبصر في وجهها دعوة للحوار والمكاشفة، ولكن الأمور كانت تمضي وكأنني بالفعل لا أقوى على مواجهة ما بعد الحوار والمكاشفة، وكان هذا هو اللحن المميز الآخر للعاملين في الفرع حب يخشى المواجهة لأنه يخشى ما وراءها... وعمل لا يحقق كل غاياته لأنه معلق بحبل في أيد نائبه تشده حين تريد، وتتركه يضيع حين لا تريد ولا أحد يعرف بالتحديد ماذا يريدون وماذا لا يريدون ؟ !

المواجهة


في هذه المرة وفي هذا الصباح، وبعد أن يئست تماما من أن يرفع محمد الراوي رأسه عن الأوراق التي يكتب فيها وينضم إلينا مررت على مكتبه وأنا في الطريق إلى مكتبي وقلت له : محمد يا ليت بعد أن تنتهي مما في يدك أن تمر علي قليلا !

في هذه المرة في هذا الصباح ملأني شعور قوى بأن الأمر كله أصبح يحتاج إلى مواجهة حاسمة، ليس فقط بين المركز والأطراف بل بيننا وبين أنفسنا أولا، سأقول لمحمد الراوي حين انفرد به بعد لحظات، - سأعترف لسلوى بحبي لها، وسأتحمل كل النتائج، أن أفيق إلى الأبد من أوهامي السخيفة أو أن أصعد معها إلى السماء السابعة، ولكن قبل أن اعترف لسلوى أريدك أن تعترف لي: لماذا وأنت تحب عملك كل هذا الحب لماذا لا تعمل مرة واحدة ما تحب؟ بل كن صادقا وشجاعا مرة أخرى وقل لنا ماذا تحب غير عملك بحق السماء؟

حين دخل محمد الراوي حجرته بدا وجهه أكثر من أي مرة سابقة بالغ الرونق بالغ الصفاء، على شفتيه ابتسامة نورانية لدرجة أنني تحيرت قليلا قبل أن أبدأ مواجهتي معه، في لحظة الصمت هذه، اخترقت رأسي كرصاصة فكرة لا أدري من أين جاءت فكرة ثلجية باردة تقول: إن محمد الراوي الواقف أمامي الآن بكل هذا البهاء والرونق كان قد مات من شهور في ظروف غريبة وربما غير عادية، قرأت نعيه بعيني في الأهرام وسمعت عن الظروف الغريبة من بعض الأصدقاء وتلقيت فيه العزاء، وبكيت بدموعي عليه !

وبدا وكأنه يقرأ خواطري، وكأنه يرجوني ألا أصدقها وألا أصارحه بها.

وجدتني أصرخ فيه وقبل أن يفتح فمه بكلمة:

- محمد طوال عمري أعرف أنك مجنون... صادق لكنك مجنون، تعمل طوال الوقت كساعة لكنك مجنون، تعرف دخائل القلوب وربما هذا سر جنونك! وسر هروبك في العمل قل يا محمد إنك أنت الذي أطلقت منذ شهور إشاعة موتك، وأن هذا كان جزءا من جنونك! ؟

لأنه لو كان موتك حقيقة، فليس لهذا سوى معنى واحد!

أن هذا الصباح الجميل كان مجرد حلم، وأن لحظة المواجهة والمكاشفة ستبقى مجرد أمنية لا تتحقق حتى في الأحلام !

رأيت في عينيه ألما شديدا حرت في تفسيره، كأنه يقول:
- أنت الذي تقتلني هذه المرة أيضا !!
وكنت وأنا أعي أنني أتسلل خارجا من الحلم أرى صديقي الذي كان واقفا أمامي في قمة الرونق والبهاء يتلاشى كما يتلاشى الضوء، ويغمرني شعور عميق بالذنب والأسى على فنائه وفناء هذا العالم الذي أضاء في خاطري في هذا الصباح ثم أخذ يتلاشى وأتلاشى معه !

اليقظة


حين جلست في فراشي، وأنا أتصبب عرقا، وقلبي يدق بعنف، لم أكن أدري هل ما أكتشفه الآن وأنا جالس في السرير هو حياتي أم موتي ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى