فارس سعد الدين السردار - بيت موصلي.. قصة قصيرة

إنشطر الزير، وتدحرجت (الطاسة) النحاسية بنقوشها القرآنية لتضرب الأرض الرخامية. بينما جرفت موجة الماء دفعة واحدة شتلات الشبو والقرنفل التي انتهى من غرسها تواً. تذكر وهو يحاول أن يعتدل بقامته أنّ صوت صافرة الإنذار كان يطوف بالمكان، لكنّ غباراً كثيفاً وركاماً كانا قد أخذا ينهالان عليه. اندفعت يداه محاولتين أن تحجزا ذلك عنه، لكنهما عجزتا. فتهاوى.

طرق الباب يأتي من بعيد، يخفت تارة ويشتد. افتحوا الباب. لم يحن موعد الانصراف من المدرسة بعد. ربما درسهم الأخير كان شاغراً.

هل تهاوت السقوف أخيراً؟ كنت أعرف أنها لن تصمد، فالزمن ألقى بكاهله على الدار وأمعن بالضغط. دون أن يمنحنا الفرصة بإعادة تأهيله.

ليس عدلاً أن لا أرعاك، لتبقى تشد من أزرك وحدك، تبتكر طرقك لتبقى فترة أطول، فمرة تتكئ على قوس الإيوان، وأخرى على الركن الشمالي. كنت اسمع صوت أنينك في الليل عندما تسدل الجفون. أطوف لأمسد على جدرانك متحسساً ومؤاسياً. كانت بيننا وعود تأخرت كثيراً في إنجازها. أنت تعرف الأسباب، فأنت لم تكن منزلاً فقط بالنسبة لي، بل حياة استلمتها من أبي لأسفحها في جنباتك. ولم تكن جدرانك مجرد جدران أحاطتني حتى أصبح كهلاً، قد تقوى الأيام على النيل منك، فتغور كمعلم تحت طمى انجراف الأمنيات، وتصبح طللاً. ويصير المرور بالقرب منك فعلاً عابراً لا ينكأ جرحاً، أو يثير حسرة. لكن تحت سقوفك حيكت ألفة ونشيج وكركرات. عرّشت لتتدحرج من أرحام الحجرات أفواه وعيون زرق وسود وخضر تأخذ العقل استعارت بهاء السماء ونباتات الحديقة.

أقترب موعد خروج التلاميذ من المدرسة. والشارع اللعين مكتظ دائماً بالعجلات المندفعة على الغالب لغايات ساذجة.

الواجب يقضي أن أتلقاهم وهم يجتازونه، عن ماذا أحدثهم وأنا أهيء وجبة الغداء. عن (سواره توكة) أم اسطنبول، أظن أني اشتاق كثيراً للبحر. ما كانت اسطنبول إلا عروساً ترقص على إيقاع غجري مشحون بروح الحرية، وقلاعاً تخرج من حافات الموج، ستلهب مخيلتهم قناديل البحر التي تسرب طيفاً أزرق ممزوجاً برائحة الموج عبر أجسادها الشفافة، وسأجعل لعابهم يسيل عندما أعرج بحديثي على عرانيص الذرة المشوية، وأطباق السمك المقليّ. وسأزرع في خيالهم روح الاستكشاف وأنا أصف مراكب الصيد العائدة مع المغيب، وكذلك سفن السياح العائدة من جزيرة( بيوك أده) بعد أن طافت بهم حول أساطير الماضي سأتركهم يقيلون، حيث كل منهم قد أبحر لزاوية من زوايا الحلم. لن أتحدث عن الشعر الأسود المنفلت كشلال ضوء، والقامات الطويلة كقضيب البان. لن يدركوا بعد ما يعنيه سحر العيون السود.

أيها المتهالك كم ذدتُ عنك بحوارات مملة، لتصحيح ما اعترى وجهات نظر الآخرين من امتعاض تجاه رؤية البنّاء القديم من حرص على استيعاب أشعة الشمس، وانفتاح لفضائك المفرط على السماء التي اختزنتها ذاكرته كإرث موغل في قدم المهارة التي جاءته من سومر وبابل وأشور، فاسحاً المجال أمام عبث الريح المشحونة بالبرد والأمطار. إلا أن السنين لم تستطع أن تروض إرادة أم خالد التي أذابت سنيّ عمرها في ممراتك، لتفشل في النهاية في خلق علاقة انسجام بين شحنات الطبيعة وإيقاع الرتابة اليومية. فبات كل منا حريصاً على ما نما بينه وبين الفته من انسجام، مكبلين بمعاني مختلفة من الشد والحب والنفرة، خاصة وانتم تكبرون مخربشين على الجدران. لكم تاريخ أستطيع تتبع انهماره بسهولة، ابتداء من عامود قياس الطول، ودكة القفز، والأرجوحة وسط الإيوان. وأبعاد عوارض هدف كرة القدم المرسوم على الجدار، ومخطط لعبة(الجولة) على أرض (الحوش). كثيرا ما توقعنا أن يحدث شيء. تنهار السقوف والجدران بفعل التقادم الذي أفصح عن نفسه بالشروخ المتوزعة على السقوف المبنية بنظام العقد المعتمد شكلها على حجم الغرف فبعضها (عقجين) والأخرى(مهد) والأخريات (قباب) وكان السطح الكلسي يستجيب بشكل متواز لما يتوزع على السقوف من شقوق. فتشاركنا أمطار الشتاء دفء جلساتنا لذلك كان تسييح القار يكسب السطح لمعاناً أسود يحجب الخرير بعض الوقت.

سكت المؤذن. لم أصلِّ العصر بعد. تهاوت السقوف/ والتلفاز لا يزال يبثّ برامجه.

خالد: دع الأولاد يدخلون، لقد ملوا الطَّرق على الباب، ليساعدهم أحد ما.

تهاوى الدرج المفضي إلى (الحوش) ذي الأرضية الرخامية التي تلتقي بامتدادها مع ارض الإيوان قبل أن تشطره الحديقة إلى ممرين واسعين تتراصف على جنباتهما الأصص المزهرة، متوائمة مع نباتات الركن المبني بالرخام الموصلي المعتق بتعرقاته النباتية الزرق التي تدعو للتأمل فيما أبدعه البناء القديم.

لم يكن اختيار هذا الركن عبثاً، استقرت عنده التخوت. هنا تبدأ الشمس بالانحراف لتنحدر نحو الأفق مهيأة المكان لجلسة صيفية. تشاكسنا فيها الكرمة عبر لعبة الضوء والظل. وتحت هذا العبث الذي عمقه في النفس ضجيج العصافير، كان خالد يكبر.

وهنا باح لي بهواه. فأدركت أن المنزل سيبقى.

تزوج خالد. جلس هو وعروسه في هذا الركن. شذبت الأشجار ورششت الأرضية ووزعت الكراسي، وأتممت ما أنجزه أبناء العم والخال والأصدقاء وأقسمت أن أرقص على إيقاع الطبل البلدي. استدعى صوت الطبل كل الصبية والفتيان في البدن والمياسة وخزرج، ورجوت نساء المحلة وبناتها اللواتي تحلقن حول سياج السطح المطل على (الحوش) أن لا يبخلن بالزغاريد. فألتهب الأفق حماسة، ونزلت إلى فضائه الذي اتسع لحد لم أتصوره محتضناً ما اعترى جسدي من قدرة على الرقص. فتىً كنت رشيق الخطو، وكلما كانت عيناي تلتقيان بعيني أم خالد الجالسة بوقار. غطت وجهها بملفعها الأبيض كاتمة ضحكة كان قد استعصى خروجها من القلب زمناً. وجاءت زوجة خالد من بيت موغل في القدم والعراقة لتولع بالمكان مثلي، فألفتها وحرضتها على الإنجاب. أريد أولاداً.. أولاداً. إملأوا لي البيت أولاداً.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى