سيد الوكيل - حبر على ورق.. قصة قصيرة

كل شيء هنا قديم، سجائر البحار، زجاجات الخمر المعتق، الأدوات المكتبية، أوراق الكتب الصفراء. وللدكان رائحة عميقة وغامضة، أشمها كلما مررت من هنا، وفي كل مرة، سأجد نفسي أدفع الباب الزجاجي، وأقف في مواجهتها، وستلقاني بنفس الابتسامة حتى أشعر بالخجل، فأحنى رأسي وتغمرني رغبة في بكاء. أغالبها وأقول:

ـ أريد حبرا لأكتب.

ـ كم مرة قلت لك أنك صغير على الكتابة بالحبر.

أعرف أن أمي أوصتها ألا تبعيني الحبر أبدا، وتعرف أن محاولاتي لن تتوقف عن سؤالها. في كل مرة تواجهني بابتسامتها الغامضة، وملامحها الذكورية، وعريها النبيل. كانت قوية كأنها منحوتة من رخام وردي. ولما رأت دموعي، جلستْ على الأرض، فانحسر فستانها الحريري عن فخذيها. أغضمتْ عينيها، وأنا اتسلل وأجلس على حجرها، وأدس رأسي بين نهديها حتى شممتُ رائحة البحر، وسمعتها تهمس:

ـ المرحومة أمك كانت زميلتي في المدرسة.

أظنها بكت، لأن ملحا رقيقاً علق بشفتي، فمصصتُ شفتي وأغمضتُ عيني حتى سمعتُ صخب زملاء المدرسة من حولي، ورأيتُ كاترينا بينهم. لا أعرف متى كبرتْ وطلع لها نهدان جميلان، حتى أنهما غمراني برغبة وشبق، فأخذتني من يدي إلى المخزن.

كان مكتظا بالورق والحبر وعلب سجائر وزجاجات خمر، و ثَمَ لوحة كبيرة لنساء جالسات على البحر، أغراني عريهن أن أقترب، حتي رأيتُ أمي بينهن، فوقفتُ خلف كرسيها المتحرك، صامتا حتى لاتشعر بوجودي، لكنها التفتتْ إليّ فجأة.

كانت حزينة، وربما مريضة، وغير قادرة على الكلام. أشارت إلى لحيتي المهملة، ونظارتي، ففهمتْ. ثم نهضتْ، ومضتْ. فتبعتها إلى شارع شبرا. لكنها تجاوزتْ المدرسة، وبيت جدي. وعندما اقتربنا من سينما مسرّة، تركتني هناك، وعادت إلى البحر.


* منقول عن:
حبر على ورق.. قصة قصيرة. بقلم: سيد الوكيل/ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى