على المك - ملف عباس مسعود.. قصة قصيرة

كان مكتب الأرشيف خاليا من الموظفين، لا أدري أين ذهبوا ولكني أعلم أنهم في مثل هذه الساعة من كل يوم يتناولون وجبة الإفطار، وأعرف فيهم – وهم سبعة رجال وسيدة – كلفاً بالسمك البلطي و البصل و الشطة الحراقة.
وعلوية: ثامنة الجماعة في تحضير الوجبة ماهرة وحاذقة.
هذا ليس مهماً .. المهم أنني أرسلت لهم مذكرة أطلب بعض الملفات فما أجابوا طلبي ثلاثة أيام ، فجئت أسعى إليهم . حسين عبد الودود رئيس القسم ضنين بملفات الأرشيف .. ربما لأنه لا يطيق أن يرى الأرفف خالية منها أو من بعضها .. وهو محق فأكثر إدارات الديوان لا تحفل بإعادتها حين تفرغ منها .. كان حسين يقول لي دائما "هذه الملفات ليست ورقات إنها مصائر ناس .. هي الناس أنفسهم ، لحمهم ودمهم" . وقد يكون حسين عبد الودود محقا . ما علينا .
عندما تأتى الساعة أتأمل هذه الحجرة ، أنظر إلى الأرفف و الملفات تثقلها ، أحس أن ملف عباس مسعود - زميلنا - لا بد أن يكون ثرثارا مثله . في هذا الصباح كان عباس مسعود يحاول إقناع زملائه أن حياة المدينة هي العذاب نفسه .
ولهذا السبب نزح إلى قرية تبعد أميالا عن الخرطوم "ولكن كيف تأتي ؟ وكيف تعود؟" "بسيطة" . قال عباس مسعود: " أحضر في عربة اللبن .. أنهض مع الفجر .. يا سلام .. أملأ صدري بهواء المزارع النضرات .. وأنتم وقتها نائمون .. والعودة أيضا سهلة .. يا سلام ".
وقيل أن عباس مسعود شيد لنفسه بيتا في تلك القرية.. قال عباس: " إن بيتي قريب من الشاطئ .. من منكم يطمح أن يكون له بيت على النيل ؟ من ؟ لا أحد بالطبع فكل ما يطل على النيل في الخرطوم تملكه الدولة .. وهذا أحسن .. الدولة تملك ؟ حسن جدا .. أفضل بكثير من التجار السمان" يذكرك كلامه .. " آه ... ذاك الأجوف الممتلئ فلوسا .. تاجر الجملة .. وسيارته وبيته و ألف شيء ".

أنا رئيس عباس مسعود المباشر أهذا من حسن الطالع أم سوئه ؟ روايات عباس كثيرات لا يقعن تحت حصر .. فتارة يتحدث عن البيت القروي ، و طورا عن مساوئ المدن، ولم أكن أهتم لأحاديثه بل أني ألمحت إليه مرة أن يقلل كلامه لأن في ذلك ما يشغل الموظفين عن العمل .. وهل احتفل عباس مسعود بما قلت ؟ كان لا يعمل .. سمعته مرة يتحدث عن الآلة الكاتبة قال: " تعرفون ، هذه الملعونة ستسود عالم المكاتب .." يضحكون ، ويسألونه " كيف ؟" يستطرد " أقول لكم : أولا هي سريعة ، حروفها بديعة .. و .. و سيقول البعض أن الإنسان هو الذي يعمل عليها، أعرف هذا تماما ، ولكن هذه مرحلة إنتقال فقريباً جداً سيهتدي المخترعون إلى واحدة تعمل دون إنسان .. الأمل الوحيد أن هذه – وان اخترعت – لن تصل إلينا قبل مائة عام .. وعندها نكون قد شبعنا موتا .. ، ويضحكون . ويبدو أن بدوي الكاتب على الآلة الكاتبة قد صدق مزاعم عباس فتسمرت أصابعه على مفاتيحها ، وتوقف عن العمل ، وتنبه عباس لحالة نادرة بقوله " لا تنزعج أنت أنت لن تحيا ألف عام! أستمر في الطلبات!".

جال هذا بذهني و أنا بباب الأرشيف واقف ، أطلب ملف عباس مسعود ، المكان خال، والهواء يدخله حرا ، مرة جاء المدير العام في زيارة له مفاجئة لقسم الأرشيف.. لكم هو مغرم بالزيارات المفاجئة .. كان الموظفون يقولون دائما "الموت الفجائي و لا زيارة المدير العام .. ". في تلك الزيارة لقسم الأرشيف لقى المدير أن الهواء يدخله حرا ، و من السبعة أربعة انكفئوا على مكاتبهم يعملون ، وإثنان يتحادثان همسا. ويضحكان ضحكات متقطعات كأنها سعال .. و علوية تعد الطعام والشطة الحراقة .. وحين وصل المدير إلى منتصف المكتب كان الحاضرون عنه في شغل ، فضرب قدمه اليمنى بالأرض ثم صاح " هاصت و الله العظيم .. مطعم محترم"... وكنا نعلم حبه للطعام و لابد أن رائحة السمك البلطي قد صرعته؛ واستطرد " أهذا هو الحال في مكاتب الحكومة ؟..". كان الجميع قد أنتفضوا واقفين.. فهم يعرفون صوته تماماً ، وقبل أن يزيد كلمة : جعل حسين عبد الودود يعتذر بكلمات يخرجن دونما اتزان أو ترتيب " يا حضرة المدير .. يا سيادة المدير .. ياسيـ" وهل ِأثر هذا فيه؟ لم يفد الاعتذار، وخرج المدير العام كالسهم غاضبا .. ورغم خوف العقاب الشديد أكل الجماعة السمك و الشطة الحراقة و الطماطم وشربوا الشاي الأحمر.

ملف عباس مسعود يا جماعة قادني إلى هنا ، الملعونان الملف وصاحبه .. في الحجرة الطويلة التي يدخلها الهواء حرا آلاف الملفات .. لا بد أن يكون ملف عباس مسعود ثرثارا .. كلماته عن التجار " الأغنياء السمان .. عندهم السيارات و البيوت ، ما قنعوا بالمدينة وتركناها لهم .. تبعونا إلى الريف : الأفيال الأنذال .. كل تاجر محشو بالفلوس حشوا سنترك لهم الريف .. و أين نذهب ؟ " لعله يتمثل تاجرا بعينه ربما . لا بد أن يكون ملف عباس مسعود ثرثارا مثله ، وصوته عال كصوت صاحبه، لكأني به الساعة يتحدث إلى سائر الملفات .. و إن الملفات تضحك لحديثه .. أسمع : لعباس بن مسعود قضية .. على الأقل جاء دوره في الترقي . وقد علمنا أن الترقي لمن يعمل ، ومتى طبقت النظرية؟ ولانني رئيسه المباشر صار على أن أكتب تقريرا عن عمله .. وهذه أم القضايا.

جئت إلى هذا القسم منذ ستة شهور ، أخبرني المدير العام أن علي أن أعيد النظام إلى هذا القسم . وقبلت إذ لم يكن هناك حل سوى هذا .. كانت مشكلتي عباس مسعود، وكنت أعلم انه سيصل إلي ذات يوم خطاب يطلب إلى فيه كتابة تقرير عن عباس مسعود .. و العمل ؟ !

الهواء يدخل غرفة الأرشيف حرا .. ملف عباس لابد أن يكون ثرثارا مثله ، آه وصل حسين عبد الودود ، تجشأ صاحبنا عن شبع ، وجاء من بعده مساعدوه ، ثم علوية.. علوية ثامنة الثمانية الذين هم في الأرشيف .. حياني بابتسامة عريضة .. كان يمسح يديه و وجهه بمنديل أحمر.. أذكر لونه تماما .. أحمر كان المنديل .. قال: " لابد أنك تطلب ملفا سريا ".. قلت بسرعة " نعم ملف عباس .. عباس مسعود .. " قال: " هذا الرجل تجربة إنسانية ، إنه أكثر من شخص عادي .. أعتقد أنه يحتاج ثلاث ملفات .. هاها ".. ضحك حسين كثيرا ، وتجشأ عن شبع .. تذكرت أنني ما تناولت شيئا سوى فنجان من القهوة .. وكانت القهوة رديئة جدا .. الحمد لله لست جائعا تماما .. قال :
- ملف عباس مسعود .. هاها .. حالا..
- أرجو أن يتم ذلك ..
- هذا موسم الترقيات .. اليس كذلك ؟ هذا أوان كثرة خروج الملفات السرية .. أمس طلبوا ملف عبد الحميد، و زين العابدين، وحسني .. حتى النور محمود طلبوا ملفه .. ملف عباس في الرف رقم 24 قسم ع . ج .. حافظ يا حافظ ..
- شكرا.
- تعرف النور محمود كان آخر دفعتنا في المدرسة .. كان أسمه الجدار الأصم .. ومع ذلك يترقى ونحن .. يا سيد .. كيف يتحدث المدير العام عن العدالة .. يا عالم النور محمود ...
وهب أن المدير كان جادا في حديثه عن العدل ؟ ألا يعني هذا أن يكون العدل شاملا لكل أقسام الديوان ؟ و أين هو العدل ؟ وما صعود المدير العام لهذا المنصب إلا نتيجة طبيعية لانعدام العدالة ؟ .. " دع هذه الفلسفة " و أبدأ العمل ، ولتنسى الكلمات، فقد بهت لونها وشاخ بها الزمان .. كالعدل والحرية وها هو ملف عباس مسعود بين يديك سمينا كبيرا مثل التجار الذين يصفهم .. ولا تدري ما ستفعل بهما : الملف وصاحبه . كنت أحدث نفسي .
حين اقتربت من مكتبي بدأت أذني تلتقط أصوات أحاديث مفيدة و غير مفيدة :
- النقابة هي التي تقرر ..
- هذا ظلم ..
- مصائرنا ..
- من هو طه أفندي ..
- لينظر ويقرر ..
- مهازل ..
- وما خبرته بالناس و العمل ...
- صه .. أنه قادم !
- لا ..
- حسنا أين هي العدالة .. هذه الغابة ...
- أين طرزان أذن ؟ .. هاها ..
- الغابة ؟ القوي يأكل الضعيف ...
صوت عباس مسعود يعلو ثم يذوب في يحر من الأصوات .

وأنا أقترب من مكتبي .. حتى إذا فتحت الباب تباعدت الأصوات ثم هدأت حين علموا أنني قد وصلت مكتبي .. وفور جلوسي فتحت ملف عباس .. الميلاد عام 1924 في مدينة بربر " ولدت عام ثورة" كان عباس يقول لي دائما. والمؤهلات المدرسية : أكمل الدراسة الثانوية ، وجلس للامتحان ولم ينجح .." تعرف لو تقدمت خطوة في التعليم لما عرفت من الأمور مثلما اعرف الآن .. والجامعة بيني وبينك لا تزيد المرء علما ولا ترفع من قدره ..".

تتوالى تقارير رؤساء عباس مسعود عنه.. أول تقرير كتبة مستر برستون .. تحدث فيه عن انضباط عباس وإطاعته رؤساءه وأن معرفته باللغة الانكليزية لا بأس بها . تقرير باهت، غاية في الحيدة ، ليس راغبا في ترقيته وليس راغبا عنها. تقرير آخر يقول أنه حسن التصرف، يجيد الكتابة باللغة العربية والانكليزية معا ، مواظب على العمل ومحبوب جدا.. " ومتى كتب عباس شيئا"؟.. أفكر ، اقلب الملف ، انظر مليا .." أين هم الرؤساء الشجعان ؟ ثم أين هي العدالة ؟ وعباس يطلع سلم الوظائف مسرعاً".. آه هذا تقرير يختلف يقول عنه: " كثير الكلام، قليل الإنتاج وأنه يأتي للمكتب مبكراً ولكنه لا يؤدي عملا يذكر" . كتب هذا التقرير عيسى أحمد.. كان عيسى معروفا باسم المفتش ، صارم وحازم .." عيسى الله يخرب بيته .. المفتش هذا رجل فظيع .. وهو يحب الغلمان !! ولأن مظهرى كان لا يفتح النفس كرهني،كان يحب جمال الدين.. أتذكرون جمال ،ولد ابيض مثل الحليب ،فارع الطول وشعره ناعم ..ووجهه صبوح .. أتذكرونه؟ لقد ترفع في الوظائف ثم أصبح من الوجهاء في وزارة العدل .." القانون ياوله القانون يا" هكذا كان يقول عباس مرة فقال له أحد زملائه " هل هذا الحديث عن المفتش ؟ أم عن نفسك تتحدث" وضحك الجميع ووجم عباس.

الملف أمامي .أقلبه . صفحة إثر صفحة . والصمت عزيز .. إذ بدأت الأصوات تسبح في سماء مكتبي ، وصوت عباس يطغى ، الآلة الكاتبة الوحيدة تجاهد أن تسمع صوتها.. الحمد لله أن بدوى على الأقل يباشر عمله .. بدأت الآلة الكاتبة في أذني آلة إيقاعية وحيدة منفردة تصاحب كورالا من الثرثرة ... أرفع قلمك واكتب شيئا . أقول في نفسي ." كلام عن عباس مسعود .." يلح الخاطر علي . يشتد. مواظب ؟ ويحبه أقرانه أم ... " أكتب شيئا .. شيئا .. . أم أنك لن تكتب شيئا ؟ ولم يلح القوم كل هذا الإلحاح ... لم ؟".

حملت الملف ، يوما وكتبت فيه شيئا.. وخرجت . كنت أسير وئيدا كأني أحمل شيئا أخشى عليه السقوط .. وأطل على مكتب الأرشيف .. ذاك الذي يدخله الهواء حرا .. وأقف لحظة وأسلم الملف لحسين عبد الودود.. نظر إلي وابتسم ، ولعله سعد أن عاد أحد ملفاته إليه .. ووقفت مكاني أنظر إلى ابتسامته ، ولا أرى أي شيء سوى ابتسامة حسين عبدالودود .. ومعها تشع سعادته بعودة الملف .. وأخذ حسين الملف الثرثار إلى الرف رقم 24... ووضعه في مكانه .. وحينئذ استدرت أريد مكتب المدير العام .

سودانيز اون لاين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى