خيري شلبي - من درويش إلي إمام

ثمة وشائج كبيرة تربط بين الشيخ إمام عيسي ورائده العظيم سيد درويش.. فكلاهما جاء من طائفة المشايخ وكلاهما نضجت موهبته في وقت مبكر فاستقلّت بنفسها كذاتٍ مبدعة يجب أن يكون لها مفرداتها
الخاصة وأسلوبها الخاص في الأداء تلحينا وغناء لكي يكون لها بصمتها الخاصة في تاريخ الغناء كإضافة يُعتدُّ بها تفتح للأجيال الجديدة سككا جديدة في التلحين تؤدي إلي مناطق نغمية توسع دوائر الشعور وتعمقها وتثريها وكلاهما لديه نزوع فطري للحداثة، وتنقية الجملة الموسيقية من السجع الموسيقي والإطناب والترهل البلاغي فتجيء الجملة صافية من غبار الصنعة ممتلئة بشعور حقيقي ملموس يشف عن صدقه، ومن الحداثة الحرص علي التعبير قبل التطريب إلا أن تكون لمسة التطريب في خدمة غرض تعبيري.
ولئن تخلصت ألحانهما من الفضول والتلاعب بالجملة اللحنية فإنها تخلصت بالضرورة من إيقاع عصر التطريب البطيء المولع بالتكرار.
قامت حداثة سيد درويش علي الفصل التام والنهائي بين الغناء الديني والغناء الدنيوي وإن استفاد بمنجزات المشايخ العظام الذين ورثوا بدورهم منجزات الطرق الصوفية التي لعبت أكبر دور في تعريب الموسيقي واتخاذها أداة مثلي لتوصيل الإنسان إلي مرتبة الوجد التي يتخلص فيها من هموم الواقع اليومي ويصير مع الله بنفس صافية، حيث وضعوا للاستماع مقامات ترتفع بهم الموسيقي إليها مرحلة بعد مرحلة إلي أن تصل إلي مقام الوجد، حيث يشف ذاكر الله ويتغسل تماما من أدران الحياة الدنيا المعكرة للنفس الإنسانية وكان منشد الذكر حين يصل في الأداء إلي هذا المقام يتحول إلي نغم خالص يضخ البهجة في النفوس، وتتحول أجساد الذاكرين إلي أجنحة طائرة محلقة في الفضاء تهفو إلي الاقتراب من ملكوت السماء أما المقامات الموسيقية التي أنضجوها واستقطبوا منها ألحانا عبقرية في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام فإن تلك الألحان كانت زاداً ومتاعاً اغترف منه عبد ه الحامولي غناء معاصرا امتزجت فيه العاطفة الدينية بالعاطفة الإنسانية واشتعلت حالمة بأن يسمو الحبيبـ ومبدأ الحب نفسه - إلي مرتبة تلك الفتوحات النغمية المستلهمة أصلا من نور الحبيب المصطفي عليه الصلاة والسلام.
هذا المنجز الغنائي الموسيقي الغني البديع الذي تشربه سيد درويش علي يد رواده المشايخ قام سيد درويش بـ حلجه وإعادة غزله في خيوط حريرية رفيعة لينسج منها قمصانا وألبسة وجلابيب وأفرولات ومناديل وملاءات وناموسيات المادة الموسيقية هي هي لكن دخلها العلم والفطانة والموهبة، فإذا المنجز الغنائي الصوفي الغني بالعاطفة المشبوبة قد صار متاعا إنسانيا يمشي في الشوارع والأسواق وجهات العمل وفي كل مكان فيه حياة، لكنه بدلا من أن يوصل الإنسان إلي مرتبة الوجد المحلق في السماوات العليا يقوم بتوصيله إلي مرتبة من الوجد الإنساني، حيث ترق النفس وتصفو ويعي الإنسان نفسه، يدرك موقعه وموقفه من الحياة، ينفتح علي حقائق الواقع الذي يعيشه، والمستقبل الذي يأمله أي أنك في أغنيات سيد درويش، الأدوار أو الموشحات أو الطقاطيق أو أغنيات المهن والحرف التي حفلت بها مسرحياته، رغم واقعية المشاعر وبصماتها علي الأداء اللحني وتشخيصها لتكون متماهية مع حواراتنا في الحياة اليومية تشعر بالوجد الصوفي بصورة أشد وأعمق بل يسطع في ناظريك نوره سبحانه وتعالي فيما تسمعه فتروح تردد الله الله الله.
الشيخ إمام عيسي قد ورث - ضمن ميراثه الكبير - حصيلة التجربتين: تجربة مشايخ الوجد الصوفي الذين تأثر بهم سيد درويش، وتجربة سيد درويش الحداثية، لقد دخل الشيخ إمام عالم الغناء من باب القرآن الكريم، فلأنه ضرير فقد ارتبط مستقبله باحتراف قراءة القرآن.. وهكذا راح يتعلم القراءة والتجويد لكنه في نفس الوقت راح يتدرب علي تراث الغناء الديني، وتراث الغناء الشعبي الخاص بأولاد البلد علي يد أساطين الغناء البلدي أمثال عبد ه الدمرداش مؤلف وملحن جميع المواويل التي غناها محمد عبد الوهاب بتصرف بسيط والمطرب محمد العربي وغيرهما وقد أسعده الحظ بالالتحاق ببطانة الشيخ زكريا أحمد، فاطلع علي تفاصيل تجربة من أعمق التجارب في الغناء العربي، حيث جمع الشيخ زكريا بين الأصالة والمعاصرة إذ بقيت موسيقاه في هيام دائم إلي مرتبة الوجد الصوفي عاش كذلك تجارب مهمة في سياق الأصالة والمعاصرة للشيخ أبوالعلا محمد والشيخ درويش الحريري والشيخ المسلوب وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان وكامل الخلعي وداود حسني، وأدرك التجربة الحداثية الخطيرة لمحمد القصبجي، حيث يتضمن اللحن تأليفا موسيقيا موازيا للتأليف الشعري وراءه فكر موسيقي عميق، أدرك كذلك تجربة رياض السنباطي في تلحين القصائد وفي سموق البنيان اللحني المتين الشاهق المستوحي من معمار المعابد الفرعونية والأهرامات، ثم تجربة محمد عبد الوهاب رائد المودرنزم بغير منافس اللهم إلا فريد الأطرش في بعض ألحانه الأوركسترالية، أدرك إلي ذلك كله قيام ثاني مدرسة مهمة في الغناء المصري بعد مدرسة سيد درويش هي مدرسة محمد فوزي صاحب أغنية الفورم التي يمكن أن نسمعها فيما نحن ماضون في أعمالنا فتبهجنا وتفتح شهيتنا للحياة وللعمل.
كل هذه المدارس والتجارب عاشها الشيخ إمام عيسي واستفاد منها فوائد لا حصر لها.. لكن الوشيجة الأهم التي تربطه بسيد درويش هي التي منحته التفوق علي كل أبناء جيله من الملحنين رغم شهرتهم الواسعة وتأخر شهرته، تلك الوشيجة هي أن كلا منهما، درويش وإمام ممسوس بكهرباء السياسة يجري تيارها في عروق الشيخ إمام مثلما جري في عروق درويش في أوائل القرن العشرين، يضيء له الطريق إلي الوجدان الشعبي العام دون أن يترخص في أدواته أو في بنيانه الفني، ولهذا فإن الشيخ إمام الذي كان يسلي أصدقاءه ومستمعيه بتلحين أغنيات عاطفية علي النسق الكلثومي بنكهة جديدة، ما أن التقي الشاعر فؤاد قاعود المهموم بالشعر السياسي حتي تفجرت ينابيعه في استقبال قصائده ذات النكهة السياسية الانتقادية، فمضي يلحن أغنيات عبقرية الكلم والنغم لفؤاد قاعود مثل أغنية: الغريق وأغنية القرد وغيرهما؛ فكأنه كان يتدرب في انتظار الملقح الأعظم أحمد فؤاد نجم الذي كان بالنسبة له نصف البرتقالة التي كان الشيخ إمام نصفها الأول، اكتملت البرتقالة فولدت حدائق وبيارات، أضيء الوجدان الشعبي العربي بالوعي السياسي، زرعت بذور الثورة في أفئدة القوم وأصبحت تهل بالبشاير في يناير من كل عام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى