محمد الشرادي - ملاك الفجر

مشاهدة المرفق 927
عندما يتأهب أولُ خيط أبيض، لينسل من عباءة الليل الداجية. تقفز ملاكُ من فراشها. اسم على مسمى. خلع عليها الخالق، من حلل الجمال، ما لم يخلعه على نساء العالمين، و قد زانت جمالها حكمةٌ، و بعدُ نظر.
تحمل ملاك معها طعاما كثيرا، تأكل منه القليلَ، و تلقي بالباقي للطير، و الهوام، و القوارض.
تحب ملاك أن تشهدَ كيف يُخرج الله الليل من النهار.ولادةٌ يومية،لم يفقدها التكرار سحرها،و عظمتها. تلك هي الآيات العظمى، بسيطة، لكنها دائمة الجلال.
تعشق ملاك تساقط حبات الندى على صدرها. تحس بها تنفذ عبر مسام جلدها الشفيف إلى قلبها، فتغسله بالكامل، حتى يصيرَ طاهرا، نقيا . تصيخ السمع إلى همس الندى، يحدثها أن فؤادها سيصبح قريبا بيتا معمورا.
سقطت أمامها قطرةُ ماء غريبة. وقفت ملاك تنظر إليها باندهاش. قطرة ماء غيرُ طبيعية. كانت شفيفة، و مضئية، تسحر العيون بنقائها.انتفخت القطرة العجيبة، حتى فاقتها طولا، و عرضا. تشققت جدرانها الشفافة ، فانبجس من رحمها كائن على هيأة لا تمت بأي صلة لأعيان الأرض . يتألق بنور مهيب. يهز وجدان من وقع بصره على إشراقته. سحر كل شيء، فتمطى الزهر يتملى بهيأته الربانية، و شدا الطير إعجابا بجلاله.
اخترق وميضه الفريد من نوعه قلبها، فأضاء ربوعه بضوء العشق. ابتسمت، و دنت منه، فأوجس منها خيفة. بددت خوفه بسرعة، فاستأنس بها، و أفرج عن شيء يشبه البسمة، انشرح لها صدرها.
أثارته بهيأتها المتناسقه. وقف أمامها، كأنه ينعم النظر في محياها، وجه تخر له الأنوار ساجدة1. اقترب منها. تشمم جسدها، و جده يعبق برائحة طين طاهر، ما لمسته يد نجسة، و لا وطئته رجل شيطانية.
هبت ريح قوية دفعته إلى الخلف، فتراجع خطوات، و سجد لها بكل جلال. مازال الأمر الإلهي يتردد في أذنيه. تعلم منه تعظيم كل شيء، يدل على عظمة الخالق.
شعرت بدفيف فؤادها، و هو يحلق في سماء صدرها كطائر من الفردوس. يهفو إلى أن يبني عشا دافئا في كنف ذلك النور النازل من الملكوت الأعلى. كلما اقتربت منه، شعرت بحاجز غير مرئي يحول بينها، و بينه.
جلس على فراش من نجيل أخضر، و رأسه مشرئب إلى السماء، موطنِه الأصلي. ينظر إليه برهبة. قعدت قبالته. أرسلت عيناها رسائلَ شوق جامح، و هو عنها ساه. عبَّر وجهها عن معاناة العطشى، التي تقف على حافة جب بها ماءٌ عذب، فلا تلحقه، و لا تستطيع أن ترويَ عطشَها.
عندما كانت الشمس تسير نحو مهدها، بدأت قدرته على الحركة تضعف تدريجيا، حتى خر على الأرض واهنَ القوة. توجه إليها بالنظر، فرأى الفزع الكبير، الذي سكن وجهها.أشار إليها إشارات عديدة.أراد أن يخبرها، أن عضوه اللطيف2 فارغ، ما به سوى الله. حتى و لو حاول، لن يستقيم الأمر أبدا، مادام قلبه مختوما بختم سماوي، جعله موقوفا لحب صاحبِ القلوبِ جميعِها، و مادام الحب يقتضي التناسب بين العشيقين في النشأة، و التكوين.
امتزجت أنفاسها الحارة، بدموعها المالحة، و هي تنظر إليه بلهفة. حاولت أن تدنوَ منه، و تعانقَه، فلم تستطع إلى ذلك سبيلا. مازال المانع يحول بينهما. عصر الحزن فؤادَها، و اشتد بكاؤها. خاطبته، و صدرها يهتز اهتزازا:
- ما خلق الله شيئا أعظمَ من الحب. يمكنه أن يصنع المعجزات...الحب الأول سفير الله إلى القلوب، و كل أول يكون مباركا. إذا تشفعت به، لن يخذل الله سفيره.
رفعت عينيها إلى السماء. تضرعت، و ابتهلت بحرارة العاشق المخلص. حفت بها كل الكائنات، التي كانت تطعمها.
خاطبتها رمزا، و هي لا تدري، إن كانت تلك المخلوقات تعقل إشاراتها:
- أنا بحاجة إلى دعائكم. بتسبيحكم، و تكبيركم، مازال الخير في الدنيا.
اصطفت تلك العجماواتالعارفة بالله خلفها. اشرأبت بأعناقها إلى السماء، في مشهد رهيب. بكى لجلاله الحجر، و انحنى لعظمته الشجر. سبحان من يفقه دعاء الخلق كله، على اختلاف ألسنتهم، و إشاراتهم.
احترَّ ذلك النور، حتى صار سائلا شديد الحرارة. سال داخل حفرة تشبه الرحم. امتزج بطين نقي. تكونت منهما مادة لزجة. بردت تدريجيا فأصبحت عجينة طينية. ربت العجينة، ونمت، و انتصبت خزفا ملتصقا بالتراب، خال من كل صورة، لكنه كان ذا طول، و عرض، و عمق. نزل قبس من نور لطيف. تسرب إلى الخزف المنتصب من الجهة التي تكون لدى الإنسان محلا للأذن. سرت الحياة في الخزف تدريجيا، حتى صار بشرا سويا.شهق شهقتين متتاليتين. فتح عينيه. تأمل الكائن الباهر الجمال أمامه. مرر راحته الناعمة على خدها الأسيل، و سبابته على تخوم شفتيها اللمياوين. جس صدرها اليافع. أخبره بديع صنعها، عن عظمة صانعها.
ابتهجت ملاك، و شكرت الخالق على وافر كرمه. اقترب منها. أشار إليها أن تكف عن البكاء، و تستمع إليه، فنطق بلسان مبين:
- أنا قطرة من عالم الغيب، لا أعلم كيف سقطت إلى عالم الشهادة، من جناح جبريل عليه السلام، عندما خرج من نهر الحياة *حتى لو ارتبطنا، بأية رابطة كانت، لن تدوم علاقتنا سوى مدة قصيرة. لأنني كنت من الملائكة، الذين لا يعيشون أكثر من يوم واحد.و لا أدري إن كان ذلك القانون السماوي مازال ساري المفعول، و أنا في نشأتي الجديدة.
أثلج كلامه صدرها،و عزز الأمل في قلبها. خاطبته بثقة:
- محال أن يقع خطأ، أو سهو في ملكوت محكم التدبير.ما سقطتَ إلى الأرض إلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
نظرت إليه، مازالت حيرة كبرى تبدو على محياه. ما ورد على قلبه قط، غير حب واحد. حتى لو أراد أن يحبها، ما عرف كيف يفعل.
أدركت ملاك سبب حيرته. عانقته بحرارة، و هي تهمس في أذنه:
- سأعلمك عشق النساء.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى