يوسف زيدان - الساحرة الخيِّرة.. قصة قصيرة»

من خلف باب غرفتى المغلق، وصلنى صوت أمى زاعقاً فظننت أنها تزجر «أم خميس» الخادمة وابنتها «فوقية» كالمعتاد، كى تتقنا تنظيف البيت وتجعلا البلاطات تلمع. أمى كثيرة الصياح عليهما لهذا السبب. بهمة عالية قمت من سريرى لأستمتع ببعض النظرات المختلسة لجسد «فوقية» البض الممتلئ، وهو يهتز بعنفوان سنوات عمرها العشرين وغياب زوجها المغترب للعمل فى ليبيا سباكاً. ولن يشك فىَّ أحد، لأن الجميع يشهد لى بأننى مؤدب وخجول ومنطو على كتبى الدراسية والروايات الرومانسية، ويظنون هنا أننى صغير السن! كأنهم لا يعرفون معنى بلوغ السابعة عشرة من العمر.. لو عرفوا، لاكتشفوا سرى الدفين الذى لا يمكن أن يخطر لهم على بال، وهو أننى كل ليلة أدس «فوقية» تحت لحاف خيالى الجامح، فأكون بديلاً لزوجها البعيد، وتكون جميلة ونظيفة وشهية مثلما كانت يوم عُرسها قبل عامين.

بهدوء فتحت باب غرفتى فلم أجد ما كنت أتمناه، فليس فى الصالة الفسيحة، إلا أمى تتحدث حانقة فى التليفون. هى لم ترنى لأنها تولى وجهها إلى الجهة المقابلة، ولم تشعر بى لشدة انهماكها فى الكلام، وغضبها البادى من نبرة صوتها.. مررت من أمامها كأننى ذاهب إلى الحمام أو غرفة المطبخ الواسعة، فسمعتها تقول بغيظ: وهو انت يعنى مالكش أهل، تسافر لهم لوحدك كده، ده كلام فاضى ولعب عيال.

-...

- ولما هى المخفية دى يتيمة، رايح تطلب إيدها من مين؟

-...،...

- يعنى إيه مفيش فرح، فيه جواز يتم من غير فرح!

- ...

- كمان، يعنى كلمت أبوك فى الموضوع قبل ما تقولى عليه. طبعاً، ما هى الفلوس جريت فى إيدك خلاص، وماعدتش محتاج لى فى حاجة.

- ..

- بلا ماما بلا زفت، كفاية كلام مالوش معنى. بس اعرف كده إن قلبى وربى غضبانين عليك ليوم الدين، روح بقى لحال سبيلك يا ابن بطنى. بكرi البت الصايعة دى توريك الويل، وما تبقاش تيجى تعيط زى النسوان.

■ ■ ■

أغلقت أمى خط الاتصال وقذفت بالتليفون إلى زاوية الكنبة التى تجلس عليها، رأيتها من المطبخ، ولما لمحتنى صاحت فىَّ بصوت فيه خشونة وحشرجة ومحاولة لدفع الضعف عنها: بتعمل إيه عندك يا سُهن؟.. هى تسمينى بذلك حين تغتاظ، فلا أكترث، لأننى لا أرى صفة «السهن» أكثر سخافة من اسمى ثقيل الظل: ساهر.

أمى، حسبما قيل لى لاحقاً، أصرت على تسميتى بهذا الاسم ليكون متناغماً مع الاسم السخيف الآخر الذى اختارته لأخى الأكبر: باهر. سألتها العام الماضى عن سبب اختيارها هذا الاسم لى، فقالت إنها كانت تتمنى فى أول حملها بى، إنجاب بنت تسميها «هاجر». فلما عرفت أنها حبلى بولد، فكرت طويلاً حتى استقرت على ساهر.. ليتها ما فكرت، وما استقرت، وتركت لأبى الطيب اختيار اسمى. لو فعلت، لكان قد اختار لى اسماً غير مستغرب، ولا يثير سخرية زملاء الدراسة، ويرحمنى من النكات والتعليقات الباردة السخيفة: اسمك ساهر، وده من إيه لا مؤاخذة!.. ساهر مؤنث سهير!.. تلاقيك كل ليلة بتقعد صاحى لحد الفجر!.. ههه، ههه.

حين اقتربت من أمى بحذر، لمحت فى عينيها دموع حسرة تود لو تنسكب. لكن لا يمكنها البكاء كسائر النساء، لاسيما الأمهات منهن، لأنها مختلفة وشخصيتها قوية ولديها ثقة مفرطة فى نفسها. ربما لأنها ثرية. فقد كانت الابنة الوحيدة، المدللة، لجدى، الذى لم أره الحاج، زاكى المزجانجى، صاحب مصنع المعسل المعروف على مستوى المحافظة والمحافظات الريفية المجاورة. ورث المصنع عن أبيه وهى ورثته عنه بعد وفاته المفاجئة، وباعته إلى تاجر أدخنة بمبلغ كبير، وباعت البيت ذى الطوابق الأربعة، حيث كانت تسكن مع أبيها ومع أبى فى ابتداء زواجهما، وتركت «كفر الدوار» تقززاً من فقر البلدة وبؤسها، واشترت هذه الفدادين العشرين الواقعة على حافة الطريق الزراعى بالقرب من بوابة الدخول إلى الإسكندرية، وهى التى بنت فيها هذا البيت الواسع، لنسكن معها أنا وأخى عندما نتزوج.. أخى «باهر» يكبرنى بتسع سنوات، وكان من المفروض أن يكون لنا أخ ثالث كانت أمى تنوى تسميته «ياسر»، لكن مخاض ولادته جاءها فجأة تحت بئر السلم بالبيت الذى كانوا يسكنون فيه بكفر الدوار.

أنا لم أر هذا البيت، لكنه بالتأكيد كان منزلاً بائساً مثل بقية البيوت التى يعيش فيها هناك المعذبون فى الأرض. لم تسنح يومها الفرصة للذهاب بأمى إلى المستشفى لتتم الولادة هناك، لأن الكوبرى الذى بقلب كفر الدوار كان قد انهار قبل شهور ولم يتم إصلاحه قبل مرور سنوات، فكانت الطريق إلى المستشفى شبه مقطوعة بسبب الاحتشاد والازدحام. استعانوا بقابلة جاهلة، فأصيبت أمى بتسمم حمل وكادت تهلك، واحتاج الوليد إلى رعاية خاصة لم يجدها، فهلك بعد ساعات من ولادته.. «أم خميس» هى التى حكت لى هذه الوقائع، وهى التى أخبرتنى بأن أمى منذ ذاك اليوم صارت حادة الطباع ضيقة الصدر ولا تكاد تثق بأحد.

أبى، على النقيض من أمى، هادئ دوماً وصبور. هو من أسرة رقيقة الحال ومشهورة بالطيبة وحسن الخلق والخلقة والهندام. يعمل طيلة عمره بالشهر العقارى موظفاً، وهو مشهور بأنه لا يقبل الرشاوى. وهذا نادر. أخبرنى مرتين، وأخبرنى غيره، أنه دُعى مرات لدخول انتخابات المجلس المحلى ومجلس النواب، فرفض لأنه يريد أن يعيش فى هدوء وباحترام. منذ بلغت حدود العاشرة من عمرى، وهو يعاملنى كرجل أو كإنسان يستحق التوقير لذاته. وكذلك كان يفعل مع أخى، وعندما بلغ «باهر» العشرين من عمره، صار هو وأبى كالأصدقاء.. أبى عكس أمى على خط مستقيم، ولهذا نحبه أكثر منها بقليل.

أخى «باهر» متعلق هو الآخر بأبى، بأكثر من ارتباطه بأمنا، الذى يتجرأ فيهمس بأنها «الغولة»، كان قبل سفره للعمل بأبوظبى، يذهب مع أبى فى بعض الأمسيات إلى المقهى، ويتسامران كالأصحاب. باهر يختلف عنى فى ميله إلى الضحك، وفى ضيقه بالبقاء فى البيت، وفى عدم حبه للقراءة. حصل على دبلومة المعهد العالى للتكنولوجيا، ولم يجد عملاً مناسباً لمدة عامين كان يراسل فيها جهات العمل فى مصر وخارجها. وفى خاتمة المطاف حصل بالواسطة على وظيفة بالإمارات، ولولا سعى أمى لدى قريباتها ومعارفها الأباعد والمقربين، لما كانت تلك «الواسطة» قد تيسرت.

سافر إلى هناك قبل ثلاث سنوات، بعد السنة الأولى منها جاء فقضى معنا شهراً كاملاً، وكان يحمل لنا معه هدايا كثيرة. بعد سنة استأذن فى أنه سوف يقضى إجازته السنوية مع أصدقاء له فى العمل، بأوروبا الشرقية. وفى طريق عودته لعمله سوف يمر بمصر فيقضى معنا ثلاثة أيام، وجاء بهدايا أقل من المرة الأولى.. والمفروض أن يأتى بعد أسبوع، ليقضى هنا الإجازة السنوية الثالثة، ولكن هذا المفروض فيه شك بعد هذه المكالمة التليفونية مع أمى.

أمى نشطت فى الشهور الأخيرة لإيجاد عروس لأخى «باهر» مع أنه قال لها أمامى مرات، إنه لا يحبذ فكرة زواج الصالونات. هذه التعبير جميل ومهذب، يقولون «زواج صالونات» كيلا يصرحوا بأنه قران بين مجهولات ومجهولين، لم تسنح الفرصة لأحدهم كى يختار الآخر. أمى تقول إن كل الزيجات تتم فى الصالونات أولاً، وليس هناك زواج بلا صالون إلا زواج الصُّـياع والضائعين. وهى تؤكد أن الحب يأتى بعد زواج الصالونات! مع أن «أم خميس» أخبرتنى بأن أمى وهى فتاة، كانت مغرمة بأبى وتحبه بجنون. وكان لا يسايرها لأنه من أسرة فقيرة وهى ابنة رجل ثرى، ولما سمعت بأنه ينوى الزواج بجارة لهما، زواج صالونات، جُنَّ جنونها حتى خشى أبوها عليها وتحايل حتى عرف سر هواها، وهو الذى خطب لها أبى وأقنعه بالزواج منها.. كيف كان شكلها يا ترى حين أحبت؟.

■ ■ ■

«انت مابتردش ليه يا زفت».. أمى نقلتنى من مستوى «سُـهُن» إلى درجة «زفت» وهذا يعنى أن غضبها بلغ المدى. كنت متجهاً نحوها برفق وصمت، وليس لدىَّ مانع لمجالستها والحوار معها علها تهدأ، لكننى لما وجدتها تنادينى بذلك اصطنعت التأثر والتألم ومضيت مباشرة إلى غرفتى وأغلقت خلفى الباب. جلوسى مع الكتب أسلم. ساعة الغداء نادت علىَّ باسمى، فخرجت إليها وأكلت ما أمامى فى الطبق بلا كلام. هى لم تأكل، ولم تبك، ولم تحدثنى عن مكالمتها التليفونية مع «باهر» كأنها اختارت أن تحتفظ بكل شىء، وبالدموع. لو كانت مثل معظم الأمهات مسكينة ومتكسرة بمطرقة الأيام وسندان المهام، لصارت سريعة الدمع مثلهن، ولاستراحت بعض الشىء بالبكاء.. أشفقت عليها ولم أعبر عن إشفاقى، خشية من إثارة غضبها المكتوم.

ساعة العصر سمعت نداء أبى علىَّ من عند الباب، باسمى طبعاً، فخرجت مسرعاً إليه. كان يبتسم وهو يمد نحوى كيس البلاستيك الكبير الذى فيه الكتب، وبوقار الآباء أخبرنى بأن صديقه القاهرى «د. حسن» حصل لى على الروايات التى طلبتها، وأرسل معها مجموعة أخرى يقترح علىَّ قراءتها. شكرته، فاستمهلنى حتى أتصل بصديقه لأشكره بنفسى، ففعلت. أثناء ذلك، كانت أمى قادمة من غرقتها الأبعد إلى الصالة، وهى تهتز غيظاً. قبل أن تجلس بموضعها المعتاد قالت لأبى: شفت ابنك وعمايله، عايز يموتنى ناقصة عمر!.

- سلامة عمرك يا ابتسام، هدِّى نفسك شوية.

- يعنى انت عاجبك كده؟

- لأ، بس دى حياته وهو حر فيها.

- يعنى إيه حر! يروح يخطب من ورانا، وبعدين عايز يكتب على البت فى المغرب ويجى بيها هنا بعد كام يوم، من غير فرح! ده إيه ده إن شاء الله؟.

- يا سيتى هو وهى راحتهم كده، ودى حياتهم.

- وإحنا يعنى مانفرحش بيه.

- إحنا نفرح لفرحه، ومادام هو فرحان بكده يبقى خلاص.. وربنا يسعدهم.

- ربنا ياخدنى من الدنيا دى. وبعدين كلامك ده معناه إيه؟ إنت موافق على كده.. البت مغربية يا إسماعيل.

- وماله.. المهم إنها نقاوة عينه، وشكله بيحبها.

- وهو ده يعرف يحب، دى أكيد عملت له عمل. معروف إن المغربيات بيسحروا.

- بلاش كلام فاضى. دى مهندسة يا ابتسام، وعايشة فى الإمارات من تلت سنين، وجميلة، وابنك بيحبها. مش محتاجة تسحر له علشان تتجوزه. وعلى فكرة هو قال لى إنها فى وظيفة أعلى من وظيفته، ومرتبها ضعف مرتبه.

- آه، إنتو بقى متفقين من ورايا، ومرتبين كل حاجة وأنا نايمة هنا فى مية البطيخ.

■ ■ ■

أراد أبى الخروج من دائرة الحوار العبثى مع أمى، فأجلسنى إلى جواره وقال متودداً إنه رأى لى رؤيا جميلة، تدل على أننى سأحصل على مجموع كبير حين تعلن نتيجة الثانوية العامة بعد أيام، وسوف ألتحق بكلية الهندسة مثلما أتمنى. ثم سألنى إن كنت رأيت صورة الفتاة التى أحبها أخى «باهر» وسوف يتزوجها. نفيت. أخرج من جيبه التليفون المحمول وحرك عليه إصبعه حتى ظهرت الصورة فأعطاها لى لأراها.. يااااه، الفتاة ساحرة العينين والنظرة، وشعرها منساب باسوداده الفاحم حول وجهها المضىء بياضه المشوب بحمرة خفيفة. ما هذا الجمال الباهر! لا أعرف ولم أر فتاة أجمل من هذه. كيف وجدها أخى باهر المحظوظ، بعدما ألتحق بالكلية التى أريدها سوف أسأله إن كانت لها أخت تشبهها.. سألنى أبى عن رأيى فى العروس، فأجبته بأن المغربيات إذا كن كلهن بمثل هذا الجمال، فلا يجب أن يتزوج أى رجل إلا مغربية.

أمى اغتاظت من كلامى ووصفته بأنه قلة أدب، وسفالة، وأبى ضحك وقال عنى إننى لم أقصد شيئاً.. لا يا أبى، أقصد.. أقصد أن «باهر» سوف يتزوج هذه العروس الفاتنة مهما فعلت أمى المسكينة لتمنعه، فمثل هذا الجمال النادر لا يمكن أن يُترك إذا صودف.. وأقصد أنك يا أمى لن تنتصرى على هذا القمر الخلاب مهما زعمت أنها غريبة عنا، فهى تفيض رقة ومودة، أو أنها تسحر. فهى فعلاً ساحرة. ومبهرة.

- إنت يا ولد، مالك تنحت كده؟

- مفيش حاجة يا ماما، مفيش..

.. فيه يا أمى الكثير.. وسوف تكون الحياة أحلى حين يتزوج «باهر» هذه الفتاة الخلابة، برضاك أو بدونه.. فاهدئى.. قلت ذلك فى سرى!.

■ ■ ■

أمى لم تهدأ، وباهر لم ينصت لنصحها وسافر إلى المغرب وعقد قرانه على «فوز» وذهب بها إلى إسبانيا للغرق فى بحار العسل ومحيطاته، وفى طريق عودتهما إلى عملهما مرا بنا مثلما تمر النسمات الباردة فى الصيف اللاهب، فأقاما معنا بالبيت أسبوعاً. فوز زوجة أخى أجمل من صورتها بكثير، وأرق، وأنعم، وأشهى.. أمى استسلمت لسحر العروس بعد يومين من وصولهما، مع أنها كانت قد أرسلت سائقاً ملأ لها من مياه البحر «جركن» أو اثنين، ومسحت به الأرض ورشته فى الأركان، لاعتقادها أن ماء البحر المالح يزيل السحر! لكنها فى نهاية أمرها استسلمت، ربما لرقة «فوز» وأناقتها وحبها لأخى، وربما لذكائها وقدرتها على تفهم الأزمة، التى تعصف بأمى، وربما لأثر «زيت الأرجان» الذى أهدته إليها العروس، وربما لمهارتها فى طبخ الفراخ بزبيب العنب، وفى عمل «الكسكسى» الذى أحضرته معها من بلدها، وربما لانبهار أمى بالعباءات الموشاة التى كانت فوز ترتديها فى الأمسيات.. بعد سفرهما أقلعت عن إعجابى المستور بالمسكينة «فوفية» ولم تعد الفتيات فى الكلية يلفتن نظرى، فظن الجميع أننى مؤدب.. هم لا يعلمون بما نويته سراً: إذا أخل أخى «باهر» بوعده لى، ولم يأخذنى معه إلى المغرب بعد تخرجى. فلن أنهزم، وسوف أذهب وحدى، وليكن هناك ما يكون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى