ضياء الدسوقي - الحاج عبد العزيز.. قصة قصيرة

كانت الشمس تنحدر على جدار الأفق الغربي بسرعة لتعلن انتهاء يوماً شتوي قصير النهار.. في نفس اللحظة مال فيها قطار الدلتا بشدة وكأنه على وشك الانقلاب بسبب منحنى شديد.. تهاوى الرجل الخمسيني النحيف فارع الطول وتبعثر ماتحمله سلته من قراطيس اللب والفول وأصابع العسلية.. هرع إليه الركاب وعلى وجوههم حالة من الدهشة والخوف والترقب.. الجميع يعرفه ويألف وجوده ونكاته وقفشاته التي تفجر الضحكات وتزيل ما علق بقلوبهم من شقاء ومتاعب أيام العمل الطويلة.. بعضهم يحاول فك أزرار البالطو وممرض المستشفى الأميري يدلك صدره والبعض يجمع ماتبعثر من سلته.. ولأنهم جميعاً يشكلون أسرة واحدة بحكم سفرهم اليومي بالقطار لأنهم من العاملين والموظفين القاطنين بالقرى ويستخدمون القطار بشكل يومي للذهاب والعودة من المدينة.. وجودهم بالقطار أصبح مثل إجتماع يومي لعائلة كبيرة ومدة الإجتماع مرتبطة بالمسافة وسرعة القطار البطىء.. الحاج عبد العزيز عنصر رئيس من عناصر الإجتماع ولا يحلو الجو ويهون الوقت الا بمشاكساته معهم.. واشتباكاته اللفظية المرحة مع بعضهم.. وجوده أصبح طقس يومي. يضحكون لطريقته الفريدة لترويج بضاعته. بصوته الخشن الذي لاتربطه أي صلة بالموسيقي.. وهو يردد {يا ام هاشم لكِ أرنب.. والنهاردة عشرة في الشهر يا مأشفر}… ولا يعرفون العلاقة أبداً بين أم هاشم صاحبة الأرانب.. وإفلاسهم الواضح الذي تتأثر بسببه تجارته ولكنه دائماً يردد {الميه في الكوزوالعيش مخبوز.. والرزق على الله}.. الجلابية الاسكندراني والبالطو الصوف شتاء.. والجلباب الأزرق صيفاَ.. وشاربه الغزير ولحيته الناعمة. وعلى يده سلة من البوص بها بضاعة مصفوفة بدقة ونظام جميل. لم يشاهدوه أبداً مهملاً في زيه أو هندامه.. رحلت زوجته. خفت صوته قليلاً وتوارت ابتسامته ولكنه عاد لطبيعته سريعاً.. تزوج أولاده وهو كما هو يحمل في قلبه طيبة وبراءة رغم شقاوته القديمة وتاريخه الحافل منذ أن كان زيزو المُرعب سائق القطار الشقي عنيف التصرفات الذي تسببت رعونته في القيادة في حادث مأسوي.. فُصل بسببه من وظيفته ودخل السجن بعد أن أدانه القضاء.. ولكن حتى السجن لم يؤثر في نظرته للحياة. رغم أن حكاية فصله من وظيفته وتحوله من سائق قطار.. قائد بكل ما تعنيه الكلمة من مكانة ودخل ثابت مرموق يحسده عليه زملائه وعمال الشركة إلى بائع متجول كانت تنغص عليه حياته إلا أن هذا لم يؤثر على صفاء قلبه ومحبة زملاءه القدامى رغم طول لسانه وملاحظته اللاذعة التي يطلقها على السائقين والاسماء التي يتندر بها على قيادتهم مثل {الافشك.. والاعرج.. والحصاوي}.. والتي التصقت بهم بمرور الزمن ومن كثرة ترديده لها.. كانت وجوه الموظفين المتعبة وعيونهم القلقة تنظر إلى الرجل الذي لم يفق من إغماءه بـ خوف على مصيره.. لكنه فتح عينيه مندهشاً وهو يدقق في وجوههم ويتسأل عن ما حدث؟ ويصرخ بـ صوت مبحوح. تملأ نبراته الخوف {أنا قلبت القطرتاني} لحظا ت قصيرة وعادت الإبتسامة إلى وجهه وأدرك ما حدث.. ثم ضحك ساخراً من حاله ورفع صوته قائلاً. {.زيزو المُرعب وقع.. بسيطة ما يُقع الا الشاطر}… إنفض الجمع من حوله رويداً.. رويداً.. بدأ في تجميع بضاعته من جديد.. ونظر إلى الحقول الخضر الشاسعة الممتدة على مرمي البصر.. وهو يتمتم بكلمات مبهمة لم يسمعها غيره.. وكانت المرة الأخيرة.. بعدها اختفى وتناثرت الإشاعات حوله ذهابه للقاهرة للمعيشة مع أصغر ابناءه. وقال بعضهم أنه شاهده في الحسين جالساً بالقرب من المقام مع المجاذيب والدراويش والمريدين وقد طالت لحيته وهو في حالة من غياب الوعي عن ماحوله ….{تمت}



الحاج عبد العزيز .. قصة قصيرة بقلم: ضياء الدسوقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى