حسن أوريد - جسوس أو الضمير الحي..

لم يخطيء المخزن في تعامله مع جسوس، لأن المخزن أنِس بضروب ثلاثة من المثقفين
لم يجد سقراط وصفا للفيلسوف، أو لنقل للمثقف في تعبيرنا اليوم، في محاكمته الشهيرة، سوى صورة بعوضة تلذغ دابة مترهلة ران عليها الجمود وشملها الخمول، فإذا لسعتها بعثت فيها الحيوية وذادت عنها الكسل. ليست البعوضة في شيء أمام ضخامة الدابة وبطشها، ولكنها هي من يبعث فيها الحياة. تلك هي رسالة المثقف، ولا أحسبني مجانبا للصواب إن قلت إن جسوس، وقد رحل عنا، كان من طينة المثقف المزعج بالمعنى النبيل للكلمة، بل ليس المثقف إلا من لا يرضخ للمتعارف، ويأنف من المتواضع، ويطرح الأسئلة، ويبصر حيث لا يزيد الآخرون سوى أن ينظرون..
تعود بي الذاكرة لآخر يوم التقيت بمحمد جسوس في صيف 1991، إذ زرته في بيته رفقة عبد المالك الجدواي. كان محمد جسوس من الأوائل من حزب الاتحاد الاشتراكي إلى جانب عبد الله زريقة الذين اعترفوا بالبعد الأمازيغي للمغرب في الوقت الذي كان الحزب، في جزء منه، تحت تأثير القومية العربية الرافضة للتنوع الثقافي، ولذلك كان يحظى بتقدير كبير في أوساط الحركة الثقافية الأمازيغية، فضلا عن مكانته الأكاديمية الراسخة. ولست أذكر من لقائنا ذاك إلا ما حفظته عنه من دماثة طبع، وعمق فكر، وتبصر رؤية، وقدرة على الاستماع، ولعل ما راعني، وقد غشيت حرمته، فوضى بيته، نعم فوضى، حيث تزاوج ألبسة التصبين ركام الجرائد، والكتب المبعثرة، باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية. لم يكن في هذا الفوضى ما يزري بالرجل، فلقد كنت أعرف وضوح أفكاره وعمقها، وسلاسة التعبير عنها، بل حببت تلك الفوضى الرجل. وكان ما شَدَهَني في هذا الرجل ذي الفكر العقلاني، المشبع بالثقافة الغربية، عمقٌ مغربي، يُعبر عنه خطابه وإحالاته التعبيرية وسلوكه. ..كنت أعرف تحليل الرجل العميق في أدوات الأدلجة التي اضطلع بها النظام، وتفكيكه لعناصرها، سواء أتعلق الأمر بالتعليم حيث انتفى الحس النقدي من البرامج المدرسية، أو من خلال الإعلام وبخاصة الإعلام السمعي البصري، الذي كان يسهم فيما كان يسميه محمد جسوس، بالتضبيع، أو في الخطاب الديني المغلق، والذي كانت تشرف عليه وزارة الأوقاف و تشيعه، ولم يمض سوى زمن قليل حين كان وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك، قد قدم فتواه في درس رمضاني، بعدم جواز استوزار امرأة ولا أن تتولى شؤون الوِلاية ولا السفارة، انطلاقا من قراءة لحديث، لعل الراسخين في علم الحديث أن يُظهروا مدى صحته أو وضعفه، " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". كنت أعرف المثقف، واكتشفت يومي ذاك الإنسان.
أحفظ لجسوس مواظبته على حلقات مجلس النواب في الأماكن المخصصة للزوار، وكان يسترعي انتباهي حمله لمحفظته القديمة، وانتعاله لحذائه المتآكل، وقميصه وقد ارتداه على ياقة تغطي رقبته un col roulé، وراحة يده اليسرى تمسك يافوخه، كأن به صداع، وهو يُخرج، كتلميذ نجيب دفترا ويكتب بخط جميل فحوى مداخلات النواب، كنت أنظر من طرْف خفي، في الحالات التي أصادفه فيها، وأتساءل ما الذي يدفع هذا العقل إلى أخذ نقاط من خطابات، أغلبها رديء وتغلب عليه الغثاثة.. كيف ينزل هذا العقل الجبار الذي كان ِمن أعرف جيله بالسوسيولوجيا الكولونيالية، إلى أن ينقل ما يتفوه به نواب يخطئون التعبير ولا يحسنون التفكير. أدركت بعدها أنه يتحدر من مدرسة أوكست كونت، التي تجعل وكدها تفسير الحاضر، لاستشراف المستقبل، والعمل على تغيير الواقع، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال معرفة كل أوجهه.
هل يعلم الكثيرون أن قسطا كبيرا مما كتبه جان واتربوري في "أمير المؤمنين" الذي يُعد أهم مرجع في العلوم السياسية في تفكيك بينة المنظومة السياسية المغربية، مستوحى من أفكار جسوس و طروحاته، وتحليله ؟
لم يخطيء المخزن في تعامله مع جسوس، لأن المخزن أنِس بضروب ثلاثة من المثقفين، أولئك المحافظون من علماء الدين، والجامعيون من ذوي الخبرة في ميدان معين، وبعض الموسوعيين الذين يعيشون في بروجهم العاجية، ويمررون عن وعي أو غير وعي، النظرة الاستعمارية. كان للمخزن، لكل ضرب من هؤلاء قالب يضعه فيه.. وكان جسوس يستعصي على القولبة. كان في منزلة بين المنازل كلها، كان يرى أن العالِم الحق هو الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، وكان يرى في الخبرة الجامعية والتخصص أداة لتعميق المعرفة، دونما نفور عن قضايا المجتمع أو قصور عن النظرية الكلية لشؤونه، وكان لا يرى في الموسوعية، التي تنظر إلى المجتمع وقضاياه نظرة متعالية إلا زيفا وبهرجة. لم يكن جسوس عضوا في أكاديمية، ولا في مجلس استشاري، ولا هيأة عليا، لأنه بكل بساطة، كان أسمى من ذلك كله..
يحضرني آخر ظهور له في التلفزيون في نهاية مارس أو بداية أبريل من سنة 2001 ( إن لم تخني الذاكرة)، لم يتورع من قول ما يؤمن به في انتقاد روح التناوب التوافقي. وتوارى جسوس بعدها عن الأنظار. تساءلت بعدها، لو سمع قوم جسوس لجسوس لكان لحزبهم شأن آخر، بل لعرف المغرب مسارا آخر، ولو أعفينا من الزيف، هذا الذي جثم علينا ولا زلنا نعاني تبعاته. ولعل لسان حال جسوس رحمه الله أن يقول في حسرة :
نصحت قومي بمُنعرج اللِّوى ولم يستبينوا النصح حتى ضُحى الغد...
ولست أظن أن يتم جسوس رحمه الله قول الشاعر فينشدَ :
وهل أنا إلا من غَزِيَّة إن غوت غَويْت وإن تَرشدْ غزية أرُْشد..
كلا، غواية غزية (وهي قبيلة) لا تلزم إلا من غوى منها، أما جسوس فقد كان ضميرا حيا، لم يُقدّره ذووه حق قدره، ولكن عبقرية هذا الشعب العريق، كان حاضرة في تشييعه إلى مثواه الأخير لتعبر من مختلف الفصائل والمشارب، عن عميق تقديرها له وصادق عرفانها لأبنائها البررة. فليرحمه الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى