عبد الرحمن أفضال - الالتزام في أدب المناجم

مفهوم الالتزام في الأدب لغة واصطلاحا :

التحديد اللغوي لكلمة الالتزام : هو مصدر من فعل التزم الشيء والتزم به وجذره لزم الشيء يلزمه لزما و لزوما و لازمه ملازمة و لزاما و التزاما ، و ألزمه إياه فالتزمه ، و رجل لزمة يلزم الشيء فلا يفارقه و اللزام : الملازمة للشيء و الدوام عليه و من معاني الالتزام أيضا الاعتناق .

و من معانيه أيضا التزام الشيء : لزمه من غير أن يفارقه و التزم العمل و المال أوجبه على نفسه

و قد ورد في معجم مصطلحات الأدب أن : " الالتزام هو أنّ الكاتب يعتبر فنه وسيلة لخدمة فكرة معينة عن الإنسان و الدفاع عن قضاياه "

و قد عرّف أحمد أبو حاقة الالتزام في كتابه " الالتزام في الشعر العربي " بقوله " الالتزام هو مشاركة الشاعر أو الأديب القاص أو الروائي الناس همومهم الاجتماعية و السياسية و مواقفهم الوطنية و الوقوف بحزم لمواجهة ما يتطلب ذلك ، إلى حد إنكار الذات في سبيل ما التزم به الشاعر أو الأديب ".

و يقوم الالتزام على الموقف الذي يتخذه المفكر أو الفنان و الذي يقتضى صراحة و وضوحا و إخلاصا و صدقا واستعدادا للحفاظ على التزامه دائما و تحمّل كامل التعبئة التي تترتّب عن هذا الالتزام .

كما عرّف جون بول سارتر الأدب الملتزم بقوله : " مما لا ريب فيه أن الأثر المكتوب واقعة اجتماعية ، و لابد أن يكون الكاتب مقتنعا به عميق اقتناع ، حتى قبل أن يتناول القلم . إنّ عليه بالفعل أن يشعر بمدى مسؤوليته و هو مسؤول عن كل شيء, عن الحروب الخاسرة أو الرابحة ، عن التمرد و القمع ، إنّه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي لهم "

و باعتبار أن الأديب شاعرا كان أم ناثرا هو ابن بيئته و الناطق باسمها و المدافع عنها و حامل لوائها فإنه كان لزاما عليه أن يتبنى قضاياها و مشاغلها الاجتماعية و الاقتصادية و يدافع عنها بالكلمة و الفعل فهدف الالتزام هو الكشف عن الواقع و إبراز مظاهر التردَي فيه و السعي إلى تغييره ، فمهمة الكاتب إذن هي حمل لواء جملة من القيم الإنسانية عبر كل العصور و الدفاع عنها مثل الخير و الحق و العدل و الحرية و المساواة سبيله في ذلك الكلمة و سلاحه قلمه . فالأديب لايشارك الناس همومهم فقط بل يسعى إلى طرحها و شرح أسبابها و تحليل مظاهرها و العمل علي تغييرها لايختلف في ذلك كثيرا عن المناضل السياسي أو الزعيم النقابي بل لعلّ دوره أكثر خطورة و أشدّ فاعلية .

و يرئ الناقد اللبناني رئيف خوري " أن الكاتب مطالب بتحمل مسؤولية ما يكتب و ينشر لمجتمعه فهو يعبر عن آلامه وآماله و مطالبه "

إنّ الأدب الملتزم قديم قدم المشاغل الإنسانية رغم تميزه في العصر الحديث بانشغال الأديب بهموم الناس الاجتماعية و السياسية و الوقوف إلى جانبهم لمواجهة تلك المشاغل .

نشاة الحركة الأدبية المرتبطة بالمناجم

إن الحديث عن أدب المناجم باعتباره موضوعا سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا و معيشيا يمس حياة العمال سواء داخل مراكز العمل في المناجم / الدواميس أو في وسطهم الاجتماعي الحياتي اليومي يتطلب النظر إليه باعتباره أدبا مخصوصا مرتبطا ببيئة معينة مثل أدب البحر عند حنا مينا و أدب الصحراء عند إبراهيم الكوني و هما لاريب جنسان من الأدب الملتزم بقضايا اجتماعية و إنسانية بالإضافة إلى ذلك فإننا نعتبر أدب المناجم موضوعا و ليس غرضا يندرج ضمن ثقافة الالتزام التي تعبّر عن معاناة الإنسان.

لقد ارتبط الإنتاج الأدبي شعرا ونثرا بقضايا المجتمع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و قد عبّر شعراء المناجم و كتاب القصة و الرواية عن واقع المعاناة اليومية التي كان يعيشها سكان هذه المناطق المنجمية فبالإضافة إلى الواقع البيئي السيئ الناتج عن تلوث الهواء بسبب انتشار غبار الفسفاط بشكل يومي و تفشّي بعض الأمراض الخطيرة مثل مرض السل و السرطان و تلوّث الأسنان نتيجة تكدّس حجر الكلس الموجود في مياه الشرب و في حبات الغبار الفسفاطي فان الواقع الاجتماعي و الاقتصادي المعيشي ظلّ أيضا متردّيا مقارنة ببعض الأقطاب الصناعية المنجمية في العالم . فقد ظلّت المناطق المنجمية في كل من تونس ( الرديف / أم العرائس / المتلوي/المظيلة /منطقة الجريصة ) مثلها مثل المناطق المنجمية في المغرب ( الخريبكة / جرادة....) مناطق ذات مردود اقتصادي و إنتاج كبير لمادة الفسفاط و لكنّها ذات بنية تحتية ضعيفة رغم مخزونها الكبير من الثروات الطبيعية . فقد طالها التهميش منذ الاستعمار و ظلّ شبابها يعاني من البطالة و الفقر و الحرمان و أبسط مقومات العيش .

يعتبر الشعر الذي كتب في أواسط السبعينيات من ق 20 و بعض المسرحيات و النصوص السردية أول الحركات الأدبية التي عبرت عن واقع المنجمين في الجنوب التونسي.

و يُعدَ الأستاذ محمد عمار شعابنية و الأستاذ أحمد عامر و سالم شعباني و أحمد مختار الهادي و حسن بن عبد الله و محمد الطاهر صودة و محمد الصالح الجابري و إبراهيم بن سلطان من أوّل روَاد هذه الحركة الأدبية التي اهتمّت بواقع أهل المناجم الاجتماعي والاقتصادي من خلال تصوير مظاهر المعاناة اليومية التي كان يعيشها عمال المناجم المباشرين للعمل في الدواميس . كذلك تمّ تصوير وضع أهل المناجم البيئي والاقتصادي والاجتماعي من خلال العادات والتقاليد وتعتبر مسرحية "فئران الداموس" المسرحية الحدث التي كتبها محمد عمار شعابنية سنة 1976 محطة واضحة في المرحلة التي بدأ فيها الفن الشعري والمسرحي والقصصي والروائي يجسّد الواقع المأساوي الذي كان يعيشه أهل المناجم. قال عنها صاحبها "كتبت هذه المسرحية عام 1976 من وحي متاعب المنجميين ولم تعرضها التلفزة التونسية أكثر من مرة واحدة سنة 1977 ثم فُرض عليها حصار قبل أحداث 26/01/1978.وقد تأسس تيّار شعري كامل من السبعينيات إلى الثمانينيات من ق 20 في هذا الاتجاه الأدبي يضم ثلّة من الروائيين والشعراء وكتاب المسرح من أبرزهم أحمد المختار الهادي وسالم الشعباني وحسن بن عبد الله والمرحوم الطاهرة صودة. ويعتبر بعض النقاد أنّ هؤلاء يمثلون مدرسة أو تيارًا أدبيا لأن اهتماماتهم ارتبطت بمشاغل فئة بشرية يربطها محيط طبيعي واحد (محيط الحوض المنجمي الفسفاطي بالجنوب التونسي) ومحيط اجتماعي وحضاري واحد. يقول محمد عمار شعابنية: "إن هذه المجموعة من الكتاب يجمعها موضوع واحد هو الإلمام بمعاناة عمال المناجم وإدراك مواطن كدحهم وعيشهم والإلمام بجغرافية المكان الذي يجمعهم".

آراء بعض الكتّاب الشعراء والنقاد حول موضوع شعر المناجم:

* يقول الشاعر أحمد المختار الهادي: "الشعر المنجمي تجربة شعريّة جديدة لم تكن لتوجد من قبل زمانا ومكانا فلقد تواجد الشعراء المنجميّون على أرض صلبة السحنة قاسية الصخور حارّة المناخ وعانوا بحكم انتمائهم إلى عائلات متواضعة جدّا. فانطبعت الصورة الاجتماعية في أذهانهم فخرجت بمعاناة صادقة وتجربة فريدة من نوعها في الأدب التونسي فكان الشعر المنجمي صفحة بارزة في هذا الأدب تشعّ فتطبعه بإشراقة الأمل من بعد الألم، والنيل بعد الصبر، والرخاء بعد الكدّ، والعطاء بعد الجدب...".

* كما يعرّفه الشاعر عمران المسعاوي بقوله: "الشعر المنجمي حركة شعريّة متواجدة بالمناطق المنجميّة لإنتاج الفسفاط بالجنوب الغربي من البلاد التونسية وينتمي إليها عدد من الشعراء الشبان ممن تطلق عليهم في الأوساط الأدبية تسمية "الشعراء المنجميَون" وهم يستلهمون مواضيع أشعارهم من واقع الحياة الاجتماعيّة والاقتصادية والطبيعية للمناجم التي تختلف عن بقية المناطق الأخرى بوضعها الجغرافي وأرضها القاسية معدومة النبات لقلّة مياهها واهتمام أهلها بصناعة الفسفاط".

* أما الشاعر والناقد محمد خالدي فيعرّفه بقوله: " الشّعر المنجمي حركة شعرية منجميّة واقعية ركّزت اهتماماتها على نوع من المشاكل الاجتماعية وهي مشاكل العمال الكادحين في مناجم الفسفاط. وهي ما يمكن اعتباره من الأدب الاشتراكي الذي يهتمّ بمشاكل الإنسان الكادح عاطفيا ومادّيا".

* أما الشاعر الصحفي سويلمي بوجمعة فإنّه يرى : "أن الشعر المنجمي تصوير وتعبير لهذه الحياة التي تمرّ حواليك مغنيّة ضاحكة لاهية أو مقطّبة واجمة باكية أو وادعة حالمة راضية أو محترقة ثائرة ساخطة وتصوير لآثار هذه الحياة التي تحسّ بها في أعماق قلبك وتقلّبات أفكارك... وتعبير عن تلك الصور وهذه الآثار بأسلوب فنّي جميل ملؤه القوّة والحياة...".

إن حركة الأدب المنجمي [يعني كل ما كتب من أشعار ونصوص روائية وقصصية مرتبطة بموضوع المناجم] في تونس وبداية من مطلع السبعينيات لم تكن حركة عفويّة مسقطة بل كانت وليدة بنيتها الاجتماعية والطبيعية التي سبق الحديث عنها والتي كان أغلب شعرائها إن لم نقل جلّهم ينتمون إلى منطقة الحوض المنجمي في الجنوب الغربي التونسي. ولأن هذا النوع الأدبي كان لصيقا بالواقع اليومي لأهل المناجم فإن الشعراء وجدوا في معاناة الآباء والأجداد منذ عهد الاستعمار الفرنسي موضوعا للتعبير عما يعيشه الناس في هذه المناطق فكان الشعر والموسيقي والقصة والرواية والسينما والمسرح تعبيرات فنّية ثقافية تجسّد هذا الواقع ومن أبرز الشعراء الذي كتبوا في هذا الموضوع ابن قرية أم العرائس المنجميّة الشاعر مسعود عزازة الذي كان من أبرز كتاب القصيدة الغنائية :

قصيد بعنوان "منجمي":

*ومثل رفاقي
سمّيت عددا
منجمي والبدلة الزرقاء تلازمني
فوق السرير
في الشارع في النّفق
أين تعلّمت "فائض القيمة"
وضريبة "شدة العمل"
*منجمي والجبال السمر تشهد
كم أياد فيها تنبش
وعيون الغوص تدمع
من غبار فيها ينهش
*اسألوا الباعة تئنّوا
من هموم الدّين ملّوا
اسألوا الطفل يغنّي
حمرة الشمس أطلّي
[غنــاء عشــــاق الأرض 1982]

لقد كان لرحيل كثير من العمال بسبب انهيار الدّواميس في منطقة المناجم أثر كبير في تكوين حركة أدبية فنّية ملتزمة بقضايا المجتمع وبمظاهر معاناته اليومية مثل المرض وتدمير البيئة والموت اليومي بالإضافة إلى المعاناة الاقتصادية والاجتماعية.

يقول الشاعر مسعود عزازة في حديثه عن المأساة التي يشهدها منجم أم العرائس في مناسبات عديدة سنة 1973 وخريف 1979 وغيرها والتي شهدت سقوط عديد من الضحايا تحت أنفاق الدواميس يعلّق قائلا: "كان لرحيل صديقي سليمان عزازة الذي توفي على إثر حادث شغل قاتل بمنجم أم العرائس في خريف 1979 التسريع لولادة قصيد "ضحايا الداموس" هذا القصيد الذي كتبته من رحم الأوجاع التي عشناها بقريتنا المنجميّة وأصبحت فيما بعد كبطاقة تعريف أو كهوية لمجموعة "أولاد المناجم" التي كان لي الشرف أن أكون من بين مؤسّسيها سنة 1977.

تقول كلمات القصيدة التي عنوانها "ضحايا الدّاموس"التي كتبت باللهجة العامية:

*قصتنا معاك يا داموس طويلة
وغرايبك فات ألف ليلة وليلة
آثار خليناها جديدة وقديمة
البالة والفاس شاهدين
والراية والفاقوحازنين علينا
ملّوا من ايدينا ملّوا من ايدينا
يا داموس قداش أديت
شبابنا عليه قضيت
ياما عمال كدّو فيك
ليالي مع نهار والنار شاعلة فيك
*هاداده اليوم جيتك نبكي
نبكي ونزوّك بالصوت العالي
وينو علي وينو عمار
وينو بلقاسم وينو سليمان
*هاذي لميمه تبكي وتنوّح
وهاذي لوخيّة تندب وتصيّح
على وخيها راح وما ارجع للدار
*ياما عبّينا وياما فرّغنا
وياما فسفاط منك خرّجنا
وما لحقنا منك كان الدّمار
خليت بيوتنا للظلمة
يتّمت صغارنا بالجملة
داموس آه يا ظلام الليل
العمّال تاريخ يغنيه الجيل
وبيهم يسطع قمر الليل
بتاريخ 1979 [غنــاء فرقــة أولاد المناجم]

إنّ الحركات الأدبية والفنّية التي نشأت في منطقة الحوض المنجمي ارتباطا بواقع أهل المناجم وما عاشوه من مصاعب ومعاناة على مختلف الأصعدة لست إلاّ الإرهاصات الأولى لأدب ملتزم بقضايا المنجميّين المختلفة ليس في تونس والمغرب فقط ’بل في مناطق مختلفة من العالم مثل الشيلي وبوليفيا والمكسيك وروسيا وجنوب إفريقيا والجزائر ومصر وغيرها من الدّول التي تضمّ أراضيها ثروات طبيعيّة مثل الفسفاط والرصاص والزنك والحديد والذهب والملح (مناجم الملح في مصر).

III- مظاهر الالتزام في الحركة الأدبية المنجميّة

من خلال نماذج شعريّة ونثريّة [تصوير الداموس – العمال –وضع القرى المنجميّة- الوضع الصحّي والبيئي- البنية التحتيّة – الوضع السياسي والنقابي].

لقد ظلت المناطق المنجميّة في الحوض المنجمي من الجنوب الغربي التونسي (الرديف /أم العرائس/المتلوي/المظيلة) كذلك منطقة الجريصة و القلعة الجرداء بولاية الكاف من الشمال الغربي مناطق ذات بنية تحتية ضعيفة و اقتصاد هش رغم المخزون الكبير من الثروات الباطنية من الفسفاط ، كما ظلت مهمشة اجتماعيا و اقتصاديا منذ فترة الاستعمار المباشر شأنها في ذلك شأن كل المناطق المنجمية في العالم، حيث تكثر البطالة وحيث يكون الوضع الاقتصادي متردّيا إضافة إلى تدنّي المستوى المعيشي وانتشار كثير من الأمراض بسبب الوضع الصحي السيّء. ولما كان الموت تحت أنفاق هذه المناجم سببا رئيسيا في تدمير كثير من العائلات وجوع أبنائها وتشرّدهم فقد وجد العديد من الشعراء والقصّاصين مادة هامة في هذه المعاناة اليوميّة يستلهمون منها أشعارهم وكتاباتهم القصصيّة والروائيّة. لقد مثل الشعر المنجمي صورة واقعية جديّة عن الحياة الاجتماعية بالمناجم وكان وضع العمّال الصحّي والاجتماعي والنفسي مادّة دسمة انطلق منها هؤلاء الكتّاب لتقديم صورة عن الدّواميس التي أصبحت مقبرة للعمّال.

إذا كان الالتزام في بعض تجلياته موقفا من الواقع والحياة والعالم. فهو يمثل فعلا أدبيا فنّيا مضادّا ومغايرا ومختلفا يبرز وعيا جديدا إذ ليس الالتزام الثقافي إلاّ شكلا من أشكال المقاومة التي يشكّل الإنتاج الأدبي الإبداعي مظهرا من مظاهرها.

وقد تزامن مفهوم الالتزام في أدب المناجم مع البحث عن مفاهيم مفقودة مثل الحرية و العدالة سواء في فترة الاستعمار المباشر أو بعدها فقد ظل عمال المناجم و سكان القرى المنجمية يعيشون لعقود طويلة تحت وطأة الفقر و الهيمنة و الحرمان و الجهل و المرض... وقد كان لهذه النوع من الأدب الدّور الرّيادي في معالجة هذه المشاغل و البحث عن حلول لها سواء في مجال الشعرأو في المجال السردي.

و قد ظهرت مفاهيم جديدة في هذا الأدب لا تختلف كثيرا عن "أدب المقاومة'"أو " أدب السجون" التي تنتمي إلى جنس الأدب الملتزم بقضايا الشعوب و الطبقات الكادحة تمثلت في الالتزام بقاموس مخصوص ترتبط ألفاظه و معانيه بواقع المنجميين مثل [ الداموس –العمال- المنجم –القرية –الفأس-(المعول و الرفش) ......) بالإضافة إلى معجم المعاني المرتبط بمفاهيم (الكد/الحزن/البكاء/النواح/الظلمة/اليتم/الفقر/الحرمان..) إذن كان لابد أن يكون الأدب هو الأنموذج البديل المقاوم.

ومن أهم المواضيع التي اهتم بها الكاتب في هذا المنحى الإطار الاجتماعي و الإطار الطبيعي (المكان ) سواء مكان العمل أو الدشرة /الحي الذي يسكنه العمال و هو في العادة غير بعيد عن المنجم لأنّ التجمعات الصناعية فرضت هذا التقارب المكاني بالإضافة إلى ذلك نجد الاهتمام بالمنجم في حد ذاته و ما يحيط به من ظروف العمل القاسية . وقد انتشرت في كتابات أدب المناجم ملامح دقيقة و مختلفة عن الأماكن التي ترتبط بها كل الأحداث في المحيط المنجمي سواء ما اتصل بظروف العمل أو ما تعلق ببقية مظاهر الحياة اليومية فنجد الحديث عن القرية (إحدى القرى المنجمية ) و البيت الذي يضم عادة أسرة كبيرة جدا من حيث العدد و تكون ظروفها المادية و الاجتماعية و النفسية سيّئة نظرا للوضع العام الذي تعيشه أسر القرى المنجمية، بالإضافة إلى الحديث عن المقبرة التي تمثل مزارا و قبلة يومية لأهالي هذه القرى التي أصبح فيها الموت أمرا مألوفا ويوميا ناتجا عن المخاطر الموجودة بالمنجم ، السكة الحديدية ، عربات القطار المحملة بالفسفاط ، الغبار المتناثر في الهواء ، حنفية الماء الوحيدة في ساحة الحي /الدشرة ، الداموس مصدر الآلام و المعاناة ، السوق الأسبوعية ، الحي الإفرنجي المخصص للسكان الفرنسيين من المعمرين و أخيرا الحانة التي يجد فيها أهل المناجم من العمال و غيرهم ملجأ ليدفنوا آلامهم و آمالهم بحثا عن واقع جديد موهوم ، و قد ارتبط الحديث عن هذه الأماكن - باعتبارها أطرا مختلفة للأحداث- بمواضيع كثيرة تتّصل بواقع عمّال المناجم مثل التهميش و النسيان (فهم منسيون رغم الدور الهام الذي يلعبونه في بناء الدولة)، الموت اليومي بسبب المخاطر النّاجمة عن العمل و بسبب الفقر و الحرمان و المرض ـ المعاناة و الألم.

إنّ الشعراء الذين اتجهوا في كتاباتهم إلى تصوير حالة العمال و معالجة قضاياهم خلقهم الإطار الزماني والمكاني الذي عاشوا فيه و أوحى لهم بفكرة التعبير عن كل ما اتصل بمشاكل العمال و إلى ذلك فإنّ الشاعر المنجمي لم يذهب بعيدا بمخيلته في الكتابة عن واقع أهل المناجم بل كان ملتزما بأجواء العمال و المنجم و الطابع العام للحياة في القرى المنجمية و رغم ما تعيشه هذه المناطق من معاناة يومية حادة و مؤلمة فإنّ الشاعر عبّر عن مدى التصاقه بقريته المنجمية و اشتياقه إليها . يقول الشاعر بوجمعة سويلمي :

ووددت لو أقبّل المداخن السوداء...
لأنّها سوداء .
حزينة كقريتي مقطوعة الأصداء
وهذه جبال قريتي
شعابها ...
نجادها ...
تفجّر الحياة من سواعد الحديد .

و في رؤية أخرى للشّاعر المنجمي عمران المسعاوي في هذا المجال المتعلق بحياة العامل بعد عودته من العمل و بعد السعي و البحث عن الخبز لصغاره ، و ما له من عادات و أعمال يومية يقوم بها عند ما يعود إلى أسرته :

أتيتك يا قريتي منشدا = نشيد التباريح و الحسرة
فهذا صالح يعود صباحا = من المنجم الأغبر الميّت
و في يده خبزة للصغار = وفي روحه التوق لم يسكت
و إثر الصلاة و قبل الفطور = يطل على الشاة و العنزة

أما صورة الموت في شعر المناجم والتي كانت تمثل إحدى العناصر الأساسية التي تؤثث القصيدة المنجمية من حيث موضوعها و من حيث إيقاعها الحزين تعبيرا عن مظاهر الألم المرتبطة بالموت الناتج عن حوادث الشغل المتكررة داخل الدواميس يقول الشاعر محمد عمار شعابنية مصوّرا عن حادثة موت أليمة :

ذات يوم سادتي مات صديقي ...
لم يمت في النور مثل الأقحوانة ..
لم يمت خلف خزانة
لم يكن يملك كرسيا و لم يعرف سريرا
عندما غادر حي العمله
وارتقينا القاطره
و رمانا الليل في الداموس بعد العاشرة
نطق الصمت فغاب...
تحت طيّات التراب...

و يقول في نفس القصيدة متحدثا عن مكتشف الفسفاط بالمتلوي بتاريخ 18/04/1886 قائلا :

لم يمت فليب توماس
لم يمت ذاك الذي يحرق في الليل
أساطير النعاس
مد للناس طريقا ذهبيا في الجبال
و على الأرض خطا خطوته
الكبرى كآلاف الرجال

إلاّ أنّ شعر المناجم الذي كان تعبيرا عن آلامهم ومعاناتهم و مظاهر بؤسهم و حرمانهم و أحزانهم المستمرة بسبب الموت و كان في بعض تجلياته تعبيرا عن الأمل في حياة جديدة ملؤها التفاؤل بالمستقبل فإذا كان الفسفاط كمادة أولية و ثروة طبيعية سببا في شقاء أهالي القرى المنجمية فإنّه مصدر من مصادر بعث الحياة و تجديدها فاهتمام العامل في أوقات فراغه بالأشجار يدلّ على حبّه للحياة رغم بؤسها :

و أرضنا لا تنتج الزيتون
و العنب
يا أبتي
يا أبتي لا تنشر القلاع
و لاتقل لقريتي وداع
غد أعود من هنا لأبدأ البحث
عن الذهب
لأنني أيقنت أنّ أرضنا بوسعها
أن تنتج الزيتون و العنب
و في نفس السياق يقول :
أراك تنفض الحذاء في الحديقة
لتفرغ الفسفاط في الحديقة
كي تجعل الأشجار يا أبي وريقة
و تودع الحياة ...
بالزهر و النبات

لعلّ أكثر المواضيع إثارة للجدل في دراسة أدب المناجم و خاصة الشعر تتمثّل في تصوير واقع المنجميّين الاجتماعي و النفسي . فإنّ منطقة المناجم بالجنوب الغربي التونسي هي منطقة تتميز بمناخها الجاف و تضاريسها القاسية بالإضافة إلى مظاهر الفقر و الحرمان و ما يعانيه العمال من مشاق و أتعاب و آلام بسبب طبيعة العمل الشاق كان لا بد من إيجاد بديل للتسلية و الترفيه عن النفس فكان انتشار الحانات في المناطق المنجمية مثل الرديف و أم العرائس و المتلوي والمظيلة أمرا طبيعا لأنّ العمال حالما يفرغون من أعمالهم في الدواميس لايجدون وسائل للترفيه غير الخمارات التي كانوا يتجمّعون فيها و يفرغون فيها تلك الشحنات من الألم و الحزن و المعاناة النفسية

يقول الشاعر عامر بو ترعة متحدثا عن ذلك :

بخمركم إذا أتى المساء
وتقصدون حانة في قريتي
لتدفنوا العياء
لتملؤوا الكؤوس
لتمسحوا الجباه والأذهان من قساوة الفؤوس

*******

يا إخوتي ..... يا إخوتي الرجال
يا من دخلتم هذه الجبال
بعزمة ليس لها مثال
و في ظلام جوفها..
صنعتم الأضواء و المحال

**

النظر في بعض الآثار الأدبية النثرية :


إن في تنوع الأجناس الأدبية التي ارتبطت بأدب المناجم ثراء معرفي وفني . فإذا كان الشاعر وسيلة فنية تعبيرية خاض من خلالها الكثير من الشعراء تجارب أدبية تدل على مظاهر الالتزام الثقافي و الاجتماعي و النضال السياسي فإنّ مختلف الأجناس السردية الأخرى لعبت أيضا وظيفة فنية ثقافية و تعبيرية أدبية ملتزمة بقضايا عمال المناجم .

لقد ساهم وضع العمال و القرى المنجمية البائس في التسريع بولادة حركة سردية متنوعة كان أغلب روّادها من أبناء البيئة المنجمية .

و رغم أن البداية كانت في أواسط السبعينيات بنشأة حركة شعرية سواء باللغة الفصحى أو العامية ، و كتابة نصوص مسرحية سيطرت عليها اللهجة العامية الخاصة بمنطقة الحوض المنجمي فإن كتابة النصوص الروائية و القصصية وخاصة القصة القصيرة كان له حضور متميز بثرائه اللغوي و تنوع مواضيعه .

وباعتبار أن الموضوع مرتبط بمسألة الالتزام الأدبي من حيث مضامينه فقد كان لزاما علينا أن ننظر في هذه النصوص من حيث التزامها بأدب المناجم التي كانت تمثّل موقعا جغرافيا و طبيعيّا يشترك فيها مع بيئات و مناطق أخرى في العالم . ومن أهم الموضوعات التي اهتمّ بها هؤلاء الكتاب انتهاك حقوق العمال الجسدية و المعنوية فقد تحول العمال في المناجم إلى سلعة كانوا يبيعون مجهودهم اليومي مقابل أجر زهيد . لقد تحوّلت تجربة أدب المناجم في بعض النصوص لدى بعض الكتاب إلى ضرب من النضال السياسي ضد أصحاب العمل و قد لعبت النقابات دورا هاما في نشر الوعي لدى العمال و حثهم على المطالبة بحقوقهم المادية و المعنوية . وقد مثل رواية "بقايا إنسان" للكاتب محمد الأخضر (أصيل منجم أم العرائس ) نموذجا لهذا الضرب من النضال الأدبي الملتزم بقضايا العمال في المناجم من خلال تصوير واقع المعاناة التي يعيشها و الدعوة إلى تغييره .لقد عبرت هذه الرواية في عمقها عن مواقف من قضايا الإنسان و شهادات على الانتهاكات التى يتعرض لها العمال و مثلت رؤية للمستقبل باعتبار أن البيئة المنجمية تمثل بؤرة اضطهاد و تهميش و انتهاك لحقوق العمال ممّا جعلها تتحول إلى بؤرة وعي و نضال .

كما تعتبر رواية "عشرة خامسهم بغل " للكاتب التونسي قاسم عكرمي عملا فنيا سرديا سجل فيها صاحبها صفحات من تاريخ منطقة المظيلة المنجمية متتبعا فيها أحداث مأساوية ارتبطت بالموت الذي كان يخيّم على تلك البيئة. لم يخرج هذا النص الروائي عن المضامين و الدلالات التى اعتاد أدباء المناجم الحديث عنها فمن المنجم الذي يعبّر عن ذاكرة نضال و معاناة العمال و سكّان القرى المنجمية إلى البيئة المنجمية التي تنقل تاريخ الأحياء و تصوّر جغرافيا المكان وصولا إلى الذاكرة المنجمية الأليمة التى ارتبطت بمحور الموت الذى أصبح مشهدا مألوفا في القرى و الأحياء المنجمية التي ترزح تحت وطأة الفقر و المعاناة اليومية و الموت أصلا .

إنّ في تنوّع الآثار الأدبية المرتبطة بواقع المناجم و أهلها تنوّع في الأساليب و الموضوعات و أيضا تنوع في اللغة . و في هذا الإطار يمكن الوقوف عند أثر أدبيّ هام كتب باللغة الفرنسية للأديب التونسي محمد الحبيب حامد بعنوان "LA MORT DE L’OMBRE " (موت الظل) يتحدث فيه صاحبه عن مظاهر النسيان و التهميش المرتبطين بوضع العمال بالمناجم الذين يعانون و يتألّمون و يموتون في صمت بعيدا عن الأضواء على حد تعبيره و هم يناضلون للحصول على بقعة شمس إشارة إلى الحياة و لكنهم يموتون مجهولين مهمّشين جراء الكهوف المظلمة . كما أنّ المنجم يختزل واقع التهميش و الكتابة تثأر للمهمّشين و تخرجهم من دهاليز الظل إلى دائرة الضوء من أجل فضح الظلم و الحيف الاجتماعي و السياسي و من أهم المضامين التي يعالجها الكاتب عدم كفاءة المهندسين في التعامل مع أخطار الداموس / موت العمال في حوادث مختلفة / اجتماع الأسرة الكبيرة حول طعام العشاء و سرد الأحداث اليومية و التعليق عليها .

الخاتمة

إنّ الفن الملتزم و منه الأدب هو شكل من أشكال التعبير عمّا يختلج بكياننا من أحاسيس و مشاعر وهو رافد من روافد النضال الاجتماعي الثقافي الوطني . و يُعتبر أدب المناجم موضوعا من الموضوعات التي يهتم بها الأديب الملتزم مثل أدب البحر و أدب الصحراء و أدب السجون وهو ليس غرضا مستقلا بذاته .

و رغم اختلاف المواقع الجغرافية المنجمية في العالم و خاصة المغرب العربي و إفريقيا مثل المغرب و تونس و الجزائر و مصر فإنّ الاهتمام بهذا النوع من الأدب يمثل موقفا من التاريخ و قضايا الأمة و الإنسان و يرسخ هذه الفكرة في بعدها العربي و الدولي .


عبدالرحمان أفضال - تونس
نص المحاضرة التي القاها الكتب في الملتقى المغاربيالثانيييلأدب المناجم بمدينة جرادة





عبدالرحمن أفضال.jpg

تعليقات

م
الملتقى كان ناجحا بامتياز، إذ تأسس على إثره المنتدى المغاربي للأدب المنجمي ، كما قرر للملتقى القادم ان ينظم باليوسفية .
تحياتي سي المهدي
 
شكرا للاستاذ السي محمد مومني .. والشكر للجمعية طارق بن زياد في شخص طاقمها الاداري.. ولكافة الحاضرين الذين اثتوا الملتقى بمحاضراتهم ونقاشاتهم المثمرة .. وسوف اعمل على نشر ما اتوصل اليه من محاضرات
 
أعلى