ثقافة شعبية محمد حسين هيكل - الأدب الشعبي..

أما الأمم المتخلفة، أو التي كانت متخلفة وبدأت أضواء التقدم تنتشر علي آفاقها، فالملاحظ في آدابها أنها وقفت فترة طويلة في حالة حيرة وتردد، ويتشعب أدباء هذه الأمم إلي فرق متعددة، يظل بعضها محافظاً علي القديم الموروث، وينادي بعضها بوجوب إنكار القديم علي إطلاقه وضرورة اللحاق بالمستوي العالمي في الأدب وقضاياه واتجاهاته، ويقف بعضها في طريق وسط، والحقيقة أن هذه الفرق الثلاث وغيرها لا تعبر بآدابها عن جوهر الأمة، فالمحافظون ينسون أن للتطور دوافعه ومقتضياته في كل شيء، حتي في الأدب، وينسون أن المذاهب الفنية تتشكل تبعاً لأشكال هذه المجتمعات الصاعدة بالضرورة من جيل بمفاهيمه إلي آخر بمفاهيم جديدة.. والمنادون بالطفرة، الناصحون بضرورة اللحاق بالمستوي الأدبي العالمي.. لا يتأملون طويلاً في ظروف مجتمعهم، وتاريخه ومقوماته المعاصرة، وهم إن فعلوا رأوا أن ظروف مجتمعهم قد تختلف اختلافاً ملحوظاً عن المجتمعات التي تبلورت فيها قضية الأدب إلي مذهب معين، مذهب تزداد فيه النبرة السياسية علي كل ماعداها من عناصر الفن، ومن ذلك أننا نري إنتاج هؤلاء يعبر عن مجتمع مايزال أحلاماً شفقية، أي أنه إنتاج أدبي منعكس من مجتمع موجود في الذاكرة، الصلة بينه وبين المجتمع الواقعي الذي يعيش فيه صلة دراسة.. لا صلة عيش وحياة.. وينسي هؤلاء في غمرة حماستهم، أن هذه الآداب لا تمس ضمير مجتمعهم، وهي بالتالي لا تحض هذا المجتمع علي النضال في سبيل مجتمع أكثر صلاحية وأفضل شكلاً.
وأما فريق الوسط، فهو المرآة التي تبين لنا مقدار التردد في التعبير الأدبي عن ظروف مجتمعنا وأفكاره النامية السائدة، فلا هو مع الحالمين ولا هو مع النائمين.
وإنها لقضية حقاً..
هل ننادي مع المحافظين علي الأدب القديم..؟
أم نكون مع المتشبثين بالمستوي العالمي..؟
والجواب في هذه القضية، أجاب به الأستاذ فتحي رضوان وزير الإرشاد القومي، في أحاديثه وتصريحاته المتتالية، عن وجوب الميل إلي أدبنا الشعبي..
مع معني هذا الكلام..؟
ما هو الأدب الشعبي..؟
هل هو الأدب المروي باللغة الشعبية، أي العامية، كما يتصور أناس كثيرون في بلادنا؟
الجواب لا يقيناً..
دليل ذلك، وليس هو الدليل المفرد في القضية، أن معظم قصص أدبنا الشعبي مروي بلغة غير العامية، هي الفصحي التي يستطيع النطق بها غير الفصحاء في اللغة، والعمالقة في إبداع العمل الفني المتكامل، كهؤلاء الأساتذة الذين خلفوا لنا عنترة والسيرة الهلالية وذات الهمة وسيف بن ذي يزن.. إلخ.
الجواب لا يقيناً..
ولنحاول جهد الطاقة أن ندير الكلام علي قضية الأدب في مصر.
من تحصيل الحاصل أن نقول عن الأدب المصري أنه أسبق الآداب العالمية في الوجود، من تحصيل الحاصل أن نقول ذلك، فالمستمصرون "علماء الإيبجبيتولوجي" جميعاً قالوا بذلك نقلاً عن الجدران التي لا حيلة في تأويلها أو مناقشتها.
والجديد الذي نقول به نحن، إن الأدب المصري وجد في مصر الفرعونية متكاملاً في مضمونه وفي شكله، تبعاً لمنهاج الفن القومي، أي أنه كان أدباً معبراً عن جوهر الشخصية المصرية كل التعبير.
وظل الأدب المصري علي حاله هذا، صاعدا في سبيل التكامل والنضوج، خاصة في عصر التفكك الاجتماعي بعد الأسرة التاسعة عشرة، عندما داهم الهكسوس أرض مصر، ورأي الأدباء المصريون- وعلي رأسهم جدنا العظيم "إيبور"- أن الفرعون يتخاذل أمام الغزاة وينسي مصر ومكانتها وقدسية استقلالها، فيثورون في آدابهم علي الفرعون.. ويصيحون باليقظة والنضال في سبيل الذود عن الحياة.. الحياة التي هي مصر مجسدة في نيلها وزروعها وسكانها.
ودخلت مصر بعد عصور طويلة في الدين الإسلامي، وكانت مصر علي أتم ما تكون استعداداً لهضم كل جديد نام، فتفاعلت باللغة الجديدة- العربية- مع آداب العرب الأخاذة.
إن مؤرخي الأدب جميعاً، المعاصرين والقدامي، لم يلتفتوا إلي حقيقة ذات بال هنا، وفي هذا المجال لم يلتفتوا إلي أن المصريين ذوي الحضارة العريقة والآداب المتكاملة، كانوا علي فهم دقيق أن الأدب العربي الوافد إنما هو أدب العبارة وأدب الرواية، وأدب الحكمة والمثال، أي أدب التجربة المضغوطة في بيت من الشعر، أو في حكمة، أو في رواية تاريخية، أو في قصة رمزية.. كانت تجربة هزيلة إذا قيست بروعة الصياغة وأسلوب التعبير عنها.
ولا يذكر أحد أن تعلق المصريين بالدين الإسلامي، مثلهم في ذلك مثل كل الشعوب التي هداها الله إلي الإسلام، ربطهم فترة من الزمان بالأدب العربي غير ناسين أن أدبهم المصري الذي يكفيه إثباتاً أنه أدب سابق علي الآداب الوافدة الجديدة، كونه أدباً اجتماعياً، أي معبراً عن أمة وعن جوهرها وتاريخها وأهدافها، غنياً بالرؤي والأحلام والملامح النفسية المصرية.
وانشعب المصريون من عامة الناس إلي منتدياتهم وحقولهم، يعبرون جهد الطاقة عن أحلامهم المصرية وعن رؤاهم، ورأوا أن الرواية والقصة "الدراما" أوسع وأعمق وأكثر حملاً لتجارب الإنسانية، فراحوا ينشدون هذه الدرامات الإنسانية في الموال الطويل، وفي الأساطير الشعبية، بلغة هي إلي ملامح المصريين أقرب.. باللغة الوسطي بين الفصحي والعامية.
وبينما كانت جمهرة الشعب المصري تصب في هذا الوسيط "الموال" و"الأسطورة" تجاربها.. كان الموظفون من الكتّاب في دواوين الخلفاء يحافظون علي الصياغة المجردة، مما جعل بعض المتخلفين يظنون أن أدب الشعب لغو إلي جانب سجع القاضي الفاضل كاتب ديوان صلاح الدين مثلاً.
ظل هذان الخطان متوازيين ردحاً طويلاً من الزمان، الشعب يبدع أدبه بناء علي مفهومه عن الأدب، وقلة من الرسميين يبدعون آدابهم علي المنهاج العربي الشكلي.
حتي جاء عصر اليقظة الناتجة من اصطدام الشعب بأسباب هزائمه التاريخية: الاستعمار والأسرة الخديوية، وبات الهدف واحداً، والقضية واحدة، وجوهر التجربة الكبري واحداً بين أدباء الشعب والأدباء الفصحاء، فاقترب الخطان إلي حد كبير في الثورة العرابية بين النديم وبين البارودي، فهذا يعبر عن تجربته وانفعالاته بالطريقة المصرية، تلك التي تهتم بالحض والايضاح ونقل الانفعال من المنشد إلي المستمع، أي بالأسلوب الذي لا هو عامي ولا فصيح، وذاك- أي البارودي- راح يصب تجربته الوطنية في شعر أعاد للعربية رواءها.
وجاء عصر شوقي: عصر العبارة الكلاسيكية المأثورة، وتبعه الرافعي ومن لف لفهما من عشاق البيان المجرد والتعبير الزخرفي، مع ما كانا يأتيان به من انفعالات وطنية، وانسانية أحياناً، إلا أن الشعب.. هذا الجوهر الكبير العريق الضارب في القدم إلي عهد الفراعنة.. مال بفطرته الصافية إلي الأدب الإنساني، فما كاد أديب مثل "المويلحي" يبدع له قصة- علي بدائيتها- تشبه الملاحم الأسطورية التي عاش الشعب يحكيها ويسمعها وينشدها، حتي شعر المصريون بأن المويلحي تعبير عن الاتجاه الشعبي في الخلق الأدبي.
وتشط عصر الترجمة، ونقلت دور صحفية متعددة الأدب الإنساني العالمي، وبينما كان المثقفون يزورون عن مثل هذه التراجم، إلا أن الشعب احتضنها وهضمها، وتمني أن يوجد من بين أبنائه المصريين من ينتج أدباً علي هذه الصورة.
ويقول توفيق الحكيم إنه تربي في هذه المدرسة "مدرسة مسامرات الشعب" التي كانت تترجم الآداب العالمية.
وحدد المنفلوطي برفاهية عبارته خطوط هذا الأدب المترجم الجديد، فوضحت القضية أكثر، إلي أن أنتج الدكتور هيكل قصة "زينب" فكانت بحق مولد الأدب المصري القومي، أي الأدب العالمي من الناحية الإنسانية، والمصري من ناحية الجوهر والروح والملامح النفسية.
رجع خط أدب العبارة إلي وراء.. وتقدم أدب المجتمع إلي أمام، بعد أن رفع البناء طه حسين بقصة "الأيام" ثم جاء توفيق الحكيم لينتج الرواية المصرية القومية المتكاملة "عودة الروح".
وانطلق المارد من عقاله.. انطلق الأدب المصري لاحقاً بمستوي الآداب العالمية، تلك الآداب التي تعبر عن جوهر الأمة في تضاعيف الخلجات الإنسانية العامة.
ما معني ذلك....؟
ما معني المناداة بالأدب القومي...؟
إن القرآن- علي سبيل المثال- يذكر لنا صفة مصرية بارزة، هي حب المصريين للسلام وبغضهم للعدوان، عندما جاء رجل من أقصي المدينة يقول لموسي عليه السلام إن الملأ يأتمرون به.
إنها صفة مصرية لشكل وجوهر الشخصية المصرية، صفة حب السلام وبغض العدوان، وهي في نفس الوقت صفة إنسانية عامة، إلا أنها أكثر عمقاً في الخلق المصري لأسباب مادية، هي طبيعة أرضنا المعطاءة، ومناخ بلادنا الطيب الودود.
فما هي الصفات الأخري التي تتضفر منها الشخصية المصرية: حب الوطن، وعدم الميل إلي الهجرة، والوفاء، والكرم، وعراقة الجنس، والعطف علي الأسرة، وعشق الحياة.. عشق الحياة وأبنائها ومقوماتها، هذا العشق الذي دعا الفلاح المصري إلي أن يساكن الحيوان تحت سقف واحد.. لأنه يعينه علي إنماء الحياة والبقاء علي سيرورتها العالمية.
إن الأدب الحديث الذي يحكي لنا حكاية مبنية علي معادلات من ذاكرته، تشبه في تصوره المعادلات التي يقرؤها في أدب أجنبي، إنما هو أديب منعزل عن روح بلاده، وتاريخ هذه الروح وجوهرها وصفات شعبه.فإذا ما نادي وزير الإرشاد القومي، بالميل إلي الأدب الشعبي، فإنما يعني الأدب القومي الذي ينبض بالروح المصرية، وبجوهرها، وبصفات شعبنا، في نطاق المقتضيات العصرية من مذاهب الأدب والفن.. فالمهم أن يعبر الأدب عن شعبنا.. عن أي شعب آخر، وبذلك يكون للأدب في بلادنا وظيفة وهدف وكيان، وذلك وحده هو الذي يعنون به عبارة "الأدب التقدمي" ولا سواه


ـــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
العدد السابع والعشرون
أول يونيو 1956



الأدب الشعبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى