أدب ساخر جورج سلوم - طاقة إيجابية..

سأحدّثكم عن سوسن ..

والسوسناتُ كثيراتٌ في دفتر مذكراتي .. كباقةٍ من ورداتٍ قطفتهنّ واحدةً إثر واحدة وعلى مراحل وأضفتهنّ إلى مزهريّتي .. وسقيتهنّ بمائي ليتأخّر ذبولهن ما أمكن .. وكنّ كلهنّ متشابهات إلا سوسنتي هذه كانت مختلفة .. مختلفة بطريقة تعرّفي بها وسرعة مصادقتي لها .. وسرعة تبخّرها من حياتي بلا أثر إلا من طاقة إيجابية يُعاد شحني بها كلما عنّت على بالي .. كمنجمٍ ذرّي للسّعادة لا ينضب !

ما كانت قارئة للفنجان ، ولا منجّمة ممن عهدناهن باللباس البدوي وإن كانت سحنتها توحي بأنها من أصولٍ غجرية .. وما كانت كبيرة بالسن لتدّعي المعرفة والخبرة .. بل هي امرأة عصرية بلباسها وقدّها

ليست قارئةً للكف ولا رامية للودع ولا ضاربة للرمل .. بل أبعد ما تكون عن الشعوذة المعهودة .. بمكتبٍ مرخّص رسميّاً للطبِّ البديل والمعالجة بالأعشاب مع دعاياتٍ منشورة ومنتشرة عن المعالجة بالطاقة الإيجابية والتنويم المغناطيسي والوخز بالإبر الصينية ..

لا تطلب تبييضاً للفأل ببعض الدراهم كمن يأخذ صدقة .. وإنما تدفع لها تعرفةً أولية عند الدخول لمكتبها .. ثم تستقبلك بسلطان الفاحص الذي ستخضع له .. والعالم ببواطن الأمور وغيبيّاتها

لابد من ملء استمارة معلومات (حاسوبيّة) عند الدخول إليها كأي عيادةٍ طبية حديثة ومحدَّثة .. ومقابلة مع سكرتيرتها لتحديد وجهة الفحص الذي ستتعرّض له .. وقد يكون الفحص مُستطَبّاً لمرضى عجِزَ الطبُّ التقليديُّ عنهم .. أو لحالاتٍ نفسيّة اكتئابية إدمانية .. وقد يكون الأمر تنجيماً فقط لمعرفة الطالع والخافي من الأيام ، لكنّه تنجيمٌ حاسوبيّ وفق إحداثياتٍ مسبَقة .. بما يشبه الاستخارة الربّانية لعريس يطلبها ليعرف هل ستناسبه زوجته المستقبلية ؟ أو لسيارة سيشتريها.. أو أمرٍ جلل سيُقدِم عليه

وأنا كنت مريضاً ساعتها روحياً وجسدياً ونفسياً وعقلياً .. مريضاً ولا أعرف طريقة للشكوى .. باحثاً عن بابٍ أقرعه وأبكي على عتباته ..مريضاً لأسبابٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية ولوجستيّة .. وأعاني من اضطراباتٍ عقائديّة معقّدة بحيث كنت عاجزاً عن تحديد وجهة العلاج الذي أطلبُه.. لقد كنت ساعتها مريضاً وكفى!

يومها قالت لي السكرتيرة وهي تملأ بياناتها :

- وما الشكوى الرئيسية؟

قلت لها بدون تفكير ووقعت عيناي على صورةٍ معلّقة خلفها لمريضٍ يخزونه بإبرٍ دقيقة ويبتسم راضياً:

-الوخز بالإبر

قالت:

- جلسات الوخز بالإبر يوم الإثنين فقط .. وموعدك الساعة السادسة مساء ..هل يناسبُك؟

- نعم

- خمسة آلاف لكل جلسة لو سمحت

- لا أريد أن تخزوني بالإبر الصينية .. فأنا أعاني من الإبر تخزني في كل أنحاء جسدي وأتيت إليكم لتسحبوا الإبر من جسدي .. فتزول آلامي ووخزاتي

- اطمئن.. ستسحبها الدكتورة كما تسحب الشعرة من العجين بلا ألم

- وهل هي دكتورة فعلاً ؟

- إنها دكتورة في كل شيء .. وستشفى على يدها بإذن الله .. الدفع سلفاً ولا تنسى موعدك.

ويوم الإثنين الموعود تقاعسْتُ عن موعدي وتناسَيته ، وتجاهلته قصداً ساعتها مع أنني كنت جالساً في عيادتي الخاصّة بلا عمل ، والمكان قريبٌ منّي .. استسخفت ساعتها لجوئي إلى دجلٍ ومعالجاتٍ بديلة ..وما حالتي إلا اكتئابٌ نفسيّ حلّ عليّ ولا حلّ له .. واستوطن مفاصلي من تكرار سقوطي وتعثّري الاجتماعيّ والعمليّ .. كنت كفارسٍ سقط عن جواده على كومة من الإبر وتغلغلت في جسده .. تغزغزه وتخزه وتؤاخذه كيفما انقلب .. كوخز الضمير فإما أن تستأصل ضميرك أو تستأصل إبرَه .

فكيف ستسحب الإبر التي تخزني ومنها ما يخزني في عقلي وعيوني وقلبي ونهايات أصابعي .. لا بل وأقدامي التي أدوس بها .. وكأنني أخطو على حقل من الدبابيس.

وأخذت أحوم حول المكان بأقدامي أجرّها مبتعداً وتجذبني كالمغناطيس مقترباً في تردّدٍ ما بعده تردّد .. وبعدها قرّرت الدخول إليها لأعتذر على الأقل وآخذ منها موعداً آخر

كانت قد قاربت الثامنة عندما أدخلَتني موظفة الاستقبال وتدفعني أمامها وكأنّها ألقت القبض على هارب .. وعرَّفت بي بطريقتها:

-هذا هو أبو السادسة الذي تأخّر عن موعده

وقالت الدكتورة وعيونها تتفحّصني :

-جلسات الوخز بالإبر تحتاج وقتاً .. تعال الإثنين القادم لو تفضّلت

-فقط خذي فكرة عمّا أعاني منه

وما أجابت بل أغمضت عيونها وكأنها تجبِر نفسَها على الإنصات في آخرِ نهارٍ تعِبَتْ فيه من القيل والقال ..

وتابعْتُ قائلاً:

-الموضوع ببساطة .. وخزٌ يخزني بكلّ مكانٍ من جسدي .. والآن بدأ الوخز في لساني كي لا أقول شيئاً

وفتحَتْ عيونها وأعادت التمحُّص بوجهي .. وقالت:

- لا أدري أين تواجَهنا .. لا يهمّ... فهمْتُ من ورقة مشاهدتك أنك تطلب أن نخزك نحن .. وها أنت تبدو موخوزاً سلفاً .. إنها طاقة سلبية تنتشر من جسدك .. خذ موعداً لجلسة طاقةٍ إيجابية تبعث فيك السعادة والأمل

-لا طاقة سلبية عندي .. فأنا معتدل ومعدوم الشحنات ..

ضحكت وقالت :

- طيّب تعال لاحقاً ننوّمُك مغناطيسياً .. فتدلي بهمومك وترتاح كمن يقيء طعاماً ثقيلاً فتخفّ أحماله

- لا أريد أن أنام فتداهمني كوابيسي وقد أقول كلاماً لا يُحمَدُ عقباه

وتململت المعالِجَة في مقعدها .. وخلعت مريلتها البيضاء ورمتها على كتف مقعدها .. وقالت :

- أنا لست طبيبة .. ويمكنكَ أن تراجعَ طبيباً نفسيّاً .. عفواً .. وأقصد أن يجري لك تحليلاً نفسياً ككلّ المفكرين والعظماء أمثالك .. ولم يبقَ لك عندي إلا جلسة تدليك للعضلات المتشنجة فترتخي مفاصلك وتنسحب الإبر من أعصابك .. وتلك الجلَسات موعدها الخميس .. سجّلي له دوراً يا آنسة.

- لا .. لا .. إلا الخميس فعضلاتي لا تكون متشنجة أبداً بل مرتخية وتنشد من يشنّجها ويشدّ أزرها

وقفَتْ وتجهّمت وكأنّها أحسّت أنني أعبث بها .. وكأنها أعلنت أن زيارتي انتهت .. ورفعَت صوتها لتقول لموظّفتها :

- أعيدي له نقوده ..

خرجْتُ من عندها كمطرود تشيّعني نظراتها المستهجِنة .. لكنّها استوقفتني وقالت مستدركة ً :

- مهلاً ألسْتَ جارَنا الطبيب واسمُكَ راحَ من ذاكرتي ؟

واستدرْتُ نحوَها :

- ولو كنت طبيباً .. لكنني الآن مريضكِ وها أنت تحيلينني إلى طبيبٍ نفسيّ كمجنون .

وخرَجَتْ من وراء طاولتها لتمسِكني من كتفي :

-رويدك أنا آسفة .. لكنّ طريقتك في الكلام مُتعالية وصدودكَ لكلّ اقتراحاتي أثار انفعالي .. كأنك تستصغرني..كأنك تقاومني وما قاوَمني أحدٌ قبلك!

عندما جلسْتُ قبالتَها كضيف.. وطلبَتْ لي القهوة قلت :

- للمرّة الأولى بحياتي جرّبت وأجرّب أن أكون مريضاً وأنا الطبيب .. وكنت أعتبر في قرارة نفسي أنّ الإستسلامَ للطبيب نوعٌ من الإهانة أو المهانة .. فما هو إلا بشريٌّ جاهل ومدّعٍ للمعرفة .. ولولا وجود الأغبياء والحمقى في مجتمعنا لتراجع عمل الأطباء كثيراً

لذا كنت أعالج نفسي بشكلٍ عرضيّ ..بطريقة ردّ الفعل .. فالصداع له دواؤه والمغص والإسهال والسعال وغيرها .. وجرّبت بنفسي كلّ العلاجات وما استشرْتُ أحداً .. اللهمّ إلا طبيب الأسنان الذي فتحت له فمي مُرْغماً فلست بقادر على إصلاح أسناني بنفسي.

لم يزرقني أحدٌ بإبرة إلا لقاحات الطفولة .. وأعطيت نفسي حُقَناً عديدة..

لقد تقمّصت الآن شخصية المريض الشاكي لأول مرة .. والشكوى لغير الله مذلّة .. واخترْتُ امرأةً ليست طبيبة لأنّها على الأقل لن تجرحني ..أو تدخل في معدتي منظاراً أو تجري لي فحصاً شرجياً .. ولا أتورّع أن أفعل ذلك بالناس ، ولكني قطعاً لن أستسلمَ لبشريّ يمارس فيّ صنعته ويجهل عليّ فوق جهله .

قالت:

- غريبٌ هجومُك على التصرّفات الطبية وهي اجراءاتٌ روتينية

- لا .. لا أراها كما تقولين .. كان الطبيب سابقاً يُسمّى حكيماً وبعد أن زاولتُ المهنة واختلطت بالأطباء عرفت أنهم من أبناء أبي جهل وليس أبقراط .. وأنتِ ما رأيكِ؟

أخذَتْ دور المستمع الجيّد الذي يهزّ رأسه موافقاً .. ودورالمحاور الذي يريد التقرّب منك بتبنّي أفكارك ولو لم يقتنعْ بها .. وقالت مبتسمة :

-أنا مثلكَ تماماً .. وأرى نفسي مريضة أكثر من كلّ مرضاي وأكابر على أمراضي ..وأعجب كيف يشفون بخزعبلاتي الكاذبة .. حتى أنني أحياناً أكاد أصدّق علاجاتي .. وطبعاً لن أعالج أمي أو أختي بوصفاتي الفارغة ..لكنني أختلف عنك بأنني إن لم أشفِ مريضي فلن أضرّه ..

-لقد وضعتِ يدكِ على الجُرح ..

قلت ذلك وأمسكتُ يدَها لأخفّف من تلويحها بها .. فما اعترَضت وتركَتْها لي أحتضنُها .. وقتها أحسَسْت بالكهرباء اللذيذة تنبعث منها

جلسنا سويّة عدّة مرّات في عيادتها وعيادتي .. وعالجْتُها وعالجَتني .. وكلٌّ بطريقته وخزعبلاته وهرطقاته .. وأسرَّت لي بإرهاصاتها المكنونة وأفصَحْتُ لها عن مواطن الوخز الذي تعذّبني .

وقلت لها يوماً :

- لو تعامَلْنا كمرضى فكم سيكون لي في ذمّتك من نقود ؟.. أم أن علاجاتي مجّانية؟

وابتسمَت بغنجٍ ودلال :

- واحدة بواحدة .. وعلاجاتكَ بقياس الضغط والحرارة وسماع دقات القلب موجودة عند كل الأطباء .. أما أنت فبحاجةٍ دائمة لتنويماتي المغناطيسية .. ولتدليكاتي وطاقاتي الإيجابية .. أنا كنت طبيبتك وما كنت طبيبي ..كنت مريضي ولن أكون مريضتك!

أدويتك التي تعطيني إياها ما أخذتُ منها حبّة واحدة .. أما أنت فتستسلم لي ولو فعلت بك ما أشاء

يومَها رفعتُ رايتي البيضاء بين يديها وتحت قدميها !

وتثلّمت كل الإبر التي كانت تخزني وماعادت مؤلمة .. واستمر علاجي عندها سبعة أشهر ثم تفارقنا بطريقة التناسي والتباعد والابتعاد .. وكنت بين الفينة والأخرى أحنّ لمعالجاتها .. ولكنْ

ولكنّ تكاليفَ الحياة وهمومَها وبرامجَها تجعلك تؤجّل .. فقد ترضى بإبرة تخزك وتؤجّل سحبَها .. منصرفاً ومهتمّاً أولاً لنزع الإسفين أو الخازوق الذي دُقَّ بأسفلك .. واستمرّ التأجيل حتى الآن تسع سنوات مذ رأيتها آخر مرة . .لكنها ما زالت موجودة في دفتر مذكراتي

أعود لذكراها وأفتح صفحتها فتشحنني بطاقة إيجابية .. بابتسامتها وعفويّتها وغجريّتها ووفاقِها معي قولاً وفعلاً..

إنّ الطاقة الإيجابية هي ابتسامة .. ولو كانت مرسومة على صفحة الواتس أب .. هي الموافقة والإعجاب بما تفعل ولو كنت لا تفعل شيئاً ذو قيمة .. هي تربيتة على كتف ودفعة إلى الأمام .. هي شحذٌ لهمم تثلّمت من نقدٍ هدّام .. هي تحريرٌ لأجنحةٍ تكسّرت من مطرقة اللوم والتجريح

ومقالي التافه هذا قد يأتيني بطاقةٍ إيجابية .. لو كتب لي قارئ من بلاد الواق واق كلمة أعجبني .. بالرّغم من أنه ما قرأ فيه حرفاً!

**********************

تعليق :

إلى روّاد الأنطولوجيا وأظنّهم صاروا كثُراً ..وقراء المواقع الأدبية هم نفسهم كتّابها !

افتحوا الصفحة الرئيسية من موقعكم ..واضغطوا على كلمة أعجبني لكل المقالات ولكلّ الكتّاب ..لا داعٍ لأن تقرؤوا فالكاتب يعرف أنكم لن تقرؤون إلا للنقد ..وزِّعوا طاقاتٍ إيجابية للجميع بلمسة من إصبعكم كحداءٍ لجمل تعب في صحراء الصفحات الفارغة ..صدّقوني والجَمَل يحبّ ذلك أكثر من سوط نقدك .

هكذا كانت سوسنتي توافقني وتمنحني من إيجابيتها طاقةً ..بلمسة واحدة .

افعلوا ذلك ..فالهواتف الذكية تعمل باللمس لكي لا تبذلوا جهداً في توزيع الطاقة الإيجابية .

******************

(جورج سلوم )++++
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى