إبراهيم محمود - وهميّات النص..

في الحديث عن النص نكون بصدد الوهميّ منه، وما أكثر وهميات النص. فكل الذين عنّ في نفسهم حديث عن النص، بصورة ما أو بأخرى، كل من اتخذ من النص موضوعاً له، أو تعرَّض له في جانب منه، كل الذين زعموا أنهم قدَّموا نظريات على أساس منه، إنما أوهموا أنفسهم أو توهموا، بمقدار ما أنهم سعوا إلى نوع من الإيقاع بالآخرين، ممَّن لهم انشغال بأمره، أو يقين به، واعتقاد بأن ليس لحياتهم، لفكرهم، وحتى لتصوراتهم وخيالاتهم من معنى، دون سند منه، أن ذلك عائد إلى أثرياته، كما الحال مع قولة: أنا أتنفس نصاً، أنا أعوّل عليه، إذاً أنا موجود !
واقع الأمر، وربما حقيقة الأمر المسندة بمقرّراتها الإيلامية، بكشوفاتها الموجعة زمنياً، أو دوالها، أن النص الذي يبرز رأسمال معنى كبيراً، لا يخرج عن احتمال من الاحتمالات التالية:
وجود مرجعية نصية ماضية، يُستنَد إليها في أي مكاشفة أومقاربة نصية، رغم أن الأدبيات المسجلة باسم النص تعلِمنا أن ليس من مرجعية نصية’ كبداية مفترضة، وإنما مقتطع تاريخ،والإيحاء بوجودها.
وجود ما يُشتغَل به باعتباره وضعية صيرورة/ مضارع، وما في ذلك من تقنية معظَّمة في ضوء المعيش اليومي، وما يقلّل من شأن المرجعية، ما في ذلك من تأكيد من سعي تفردي، شخصي، لتأميم ما يسمى بالنص التملكي الخاص.
وجود ما يراهَن عليه، وهو يستحيل الرهان عليه، بوصفه منتمياً إلى الآتي، وما ينحّي كلاً من المرجعيتين: الماضية، بكل صيغها، والحاضر، بكل منابتها، بوصفهما شبه مستهلكتَين، أو في وضعية النفاد،وهو ما يلغي كل قيمة مركَّزة للاسم.
ذلك من شأنه وضع النص، أو حصر النص موقعياً في خانة المساءلة الكبرى، واعتبار كل عائد كلامي، أو كتابي علامة فارقة وهمية.
نعم، ما أكثر ما نستدعيه من أقوال، ونعيشه من أحوال، وما ندخره من جهود في التعجيل بمتخيلات بحثية، بصدد النص واعتباره محْكماً، وسرعان ما نميل بذواتنا الشفاهية بالتوازي مع الكتابية إلى الانحدار الذوقي، وحتى على مستوى الحاكمة الجمالية، فيفقد النص جل المشروعية الممنوحة له، وما يبقيه في معرض الشك ، لا بل ومشبوهاً كذلك .
ذلك ما يدفع بنا إلى اعتبار ما يجري على أنه عصر تداعيات الكتابات المتمحورة حوله، ولغواية التقانة سلطتها الماكرة في إفقار الوجود نفسه، وإلحاق المتكلم أو الكاتب تلك القدرة على التحرر من ذاته المنغوية.
إذ ما كان هناك نص، إنما ما اعتبِر كذلك، ومن قبل المراهنين عليه، بمعايير معينة، وما يحيل المشار باسمه إلى نظام إيقاعي، بلاغي، وزني، قيمي، وصفي، وتخيلي، يطوّق كليانية الروح في جسد مثقل بالأعراف ومتتالياتها.
ولم يكن هناك نص، ولا يكون، وإنما ما يوهم باسمه، جرّاء التسابق إلى تقديم فروض نص وما بينها من صراعات.
وليس هناك من نص يخوَّل بأن يكون نص مستقبل حين يصبح هذا من جهته وفور التلفظ باسمه أو تهجئته ماضياً، وتتفرع عنه نصوص كذلك ، لأن ما سيكون لا ينفصل عما كان ويكون .
أترانا كائنات نصية، أم أن النصوص هي التي تشهّر بفضائلها علينا، وما يبقي أخلاقية الوهمي نافذة الأثر بعمق فينا؟
أن تكون اللغة اصطلاحية، فهي في اعتبارها تشكلت بناء على اتفاقات لم تسلم من انقسامات، لتكون صفة " الاصطلاح " بالذات مؤشراً فاعلاً على مدى المكر التقابلي الشغال بالدلالات المتساومة وحتى المتهارشة .
يعني ذلك أن أي حديث عن نص ما، أي نص، ودون استثناء، لا يعدو أن يكون استجابة لحركة اعتبارية موجهة، عانت كثيراً كي تصبح محل اعتراف وتوقيع رمزيين هنا وهناك، سوى أنها تحمل في تضاعيفها ما يبقيها في وضعية نزف .
ومن هذا المنطلق الافتراضي، في ضوء الحديث عن النص الافتراضي، لا يسلم أي نص من إشكالية الاسم والمسمى، حتى لو كان نصاً دينياً بعائده الغيبي، فهو لم يكن هكذا باسم وصفة معلومين إلا في لحظة ممضيّ عليهما تاريخيين، وبالتالي، فإن الذي أمضى به في الزمن ذا اعتبار لا يجارى، ليس لأنه غيبي" متعال خاص "وإنما ما تلمس فيه الداخلون في نطاق " حرمته " ما يبقيهم ذوي سلطان ما، إذ ليس في مقدور أي كان، في الحالة هذه من تأكيد ضمان سلامة بنيوية له، ولا بأي صورة، لأنه دشّن في واقعة أرضية، من حيث المتن والمتضمَّن القيمي، والمقيَّم باسمه هو نفسه داخل في معهود إنسي عملياً، لحظة إيلاء المعنى خاصية الظهور والتداول، بما أن حامله بالذات لا يستطيع القدوم به منيعاً من أي اختراق للمحتوى، بالعكس من ذلك، إذ كان النص المسجَّل دينياً من بين أكثر النصوص، وربما أفظعها أهلية لإثارة التدافعات العنفية، وإراقة الدماء، وما في ذلك من تقسيمات وتشطيرات عرضة وطولية جهة الحساسيات والمرافعات ذات الصيغة الفقهية التي جرَّدت ذلك النص من سلطانيته السماوية وسلطته الشمولية وجعلها دهرية، كما في مفهوم النص المحفوظ، فهو على مستوى المكاشفة القيمية لم يحفظه تجليه المتعالي أو إسناده، ولا بأي شكل إلى ما هو غيبي من إخضاعات لتصورات واستتباعات ذات منشأ قسري أو تطويعه لرغبات التابع والمتبوع .
بناء عليه، تكون النصوص في كليتها ترابية، أي في قابليتها للفساد، لأنه من حيث البنية أو المنشأ تشكلت ردَّ فعل على فساد معين، نشدان صلاح معين، وأن خاصية الثنائيات التي أقامت أهواء للنص واللعب المستحدثة من خلاله، لم تنعزل إطلاقاً عن هذا التكوين الفضائي، الكوني، المهادي الأرض، كما في : النص الطهراني، العهراني، أو: المقدس / المدنس، القوي/ الضعيف، السامي/ المتهافت، العاصي المتهتك/ المنيع المتعفف، الحسن/ القبيح...الخ .
ليجد هذا التدافع في التسميات ومجترعات الأوصاف أكثر من فئة تلد أخرى على تماس مباشر بما أشيرَ إليه، ومجالاً حياً وخصباً لها، إلى درجة الاحتكار جهة الأعلمية، نخبة مفوضة، تقوض سلطة سواها، وما يحسم ساعة نصها وتدشينه نص النصوص، وما يدفع بنا إلى النظر في قائمة النصوص الأخرى ذات التوجهات أو المنهجيات التي تشكو عِلَل نشأتها الأولى، والجمالية الباذخة المودعة لها، من الداخل أو الخارج، أو تبعاً لأي اعتبار.
هذا يعيندنا إلى عدم من نوع غير منظور فيه، وهو قيام النص في مفهومه الجمعي على كم وافر غير مقطوع في العدد والعدة ، على وهميات مدركة من خلال الموقف النقدي، أو المجابه، أو الصاعد بعنصر التعرية المضمرة له.
فنصوصنا تكتبنا كما قالتنا أو تقولنا، وهي مقرراتنا الدالة على هذا التدهور الذي لا يلي ينفك شاهداً على ترابية تكويننا وتفسخ الحضور داخلنا، وأننا، ونحن في نطاق التباهي بما نقدم على ابتداعه أو التقدم به حديثاً، حداثياً وما بعد حداثياً، إنما نشدّد على هذه الصفة القائمة مذ وجِد النص الأولى إلى يومنا هذا، وليس الحديث بالتالي عن حضارة النص، إلا الإحالة المباشرة على الصراخ الدموي للحضارة المشيدة في مجموعها، أي وهي تنعي بنيها وبناتها.
ولو أن أي مبتدى بالعمليات الحسابية، وأدخل في حسابه تلك المآسي التي عرفتها البشرية مذ كانت، وكيف تقوم العلاقات بين اللغات، بين نصوصها بعضها بعضاً، لراعه الأمر، كما لو أن عدم القيام بذلك فعلياً وجذرياً يقوم على إيمان مقرّر بهول المتستر أو المعمول به.
نعم، نعتد بنصوصنا، ونجهد أنفسنا في سعينا الدؤوب إلى الرهان على نصوص أخرى، وتناصيات قائمة عليها، وميتانصيات لا تنفصل عنها، تحت يقين، هو الآخر سليل وهمي معين من وهمياتنا، وبذلك يكون الوهمي هو المعتد بنفسه، فيما يعطانا أو يسلَب منا، وفيما نعتد به، ونمضي عليه، وفيما نبقيه ونستبقيه في حلنا وترحالنا ...!
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى