انتصار بوراوى - نورها وكهفه.. قصة قصيرة

كان الفرح يأتلق كالبرق في عينيها حين يزورها فى مكتبها ولا تكف عن الضحك ومناغشته حين يتأخر قليلا ثم يتوارى مختفيا عنها فتبحث عنه وتضحك مازحة قائلة له :
- أيها الماكر أين أخذك الغياب .. أسبوع يمر دون أن اراك؟
فيتأمل عينيها المندهشتين وتطل ابتسامة عريضة على وجهه ويصمت دون ان يجيبها كى لا يدخل معها فى موجة لوم وعتاب .
كان يحلو لها أن تضع الشال الذي تغطى به شعرها على الجانب الأيسر من رأسها فيبدو وجهها بمشاكساتها وضحكاتها طفوليا فيغريه للاقتراب منها ولكنها كانت تجرى لتجلس على كرسي مكتبها محدقة به فيجلس كتلميذ مؤدب امامها ويسألها:
- من اللئيم الان؟
تضحك وهي تنظر لوجهه الشاسع ولعيونه الغامرة بالمحبة فيسألها بهدوء:
- هل قرات الرواية؟
تضحك بمشاكسة وتجيبه :
- طبعا كيف تهديني كتابا ولا اقرأه،لقد أنهيت قراءتها خلال ساعتين فقط يالروعة جمال الغيطانى أشتهى ان اقابله ذات يوم واجرى معه حوار صحفى للمجلة .
فيجيبها مقطبا جبينه:
- ألم أطلب منك أن تتوقفي عن أعلان أعجابك به امامى أننى أغار من تولهك الغريب ايتها المجنونة
فتجيبه ضاحكة:
- أنه الجنون الجميل الذي لا فكاك عنه
يحدق بعيونها العسلية الواسعة، التي تتسع بحب وشغف كلما انهمرت شفتاها الصغيرتين، بالحديث عن كتابها الأثيرين مدهوشا ينظر الى تلك الروح الممتلئة حبا وعشقا ، الرافضة أن تخلط محبتها له بلمسة و كلما حاول الاشارة الى رغبته بها كانت ترد عليه:
- حب الروح خالد أما حب الجسد فاني
فيسألها:
- ولكن لماذا ...طالما نحب بعضنا؟
فتجيبه :
- ياعزيزى الحب يخبو ويموت عندما نرتشفه في الظلمة والخوف أنا واضحة كشمس النهار لا أحب الظلام ولا خطوات الخوف أعلنني امام الملأ وسأكون كلى لك .
كانت تفحمه بردها الواثق وبطريقها الذي تعرف خطواته جيدا رغم كل خصب عواطفها وفوران أنوثتها الحارة ،ولايمل من ترديد نصائحه على مسامعها بأن تتريث ولا تنجرف بحرارة صدقها لتعلن اراءها في كتابة يستهجنها الملاءوقد تسبب لها مشاكل هى فى غنى عنها ولكنها كانت ترف بعيونها العسلية الجميلة وتضع يدها على خدها متسائلة بصوت حزين :
- يا الله كيف لي ان لا اكون انا لن أستطيع ان اكون غيرى؟
كانت تتوهج بفتنة القول أمامه لكن شيئا في أعماقه كان متخوف من وهجها ،وكأن ثمة رجل اخر يخرج من كهوف ليبيته القديمة ينزع عنه راحة وهناء محبته لها ولكن الحقيقة المرة التي كانت متوارية عنها والتي لم يطلعها عليها هو أنه كان يعد مع أسرته اختيار زوجته المرسومة على حسب معايير أهله التقليدية.
كان حائرا بين صوت العائلة ورغبته العنيفة بها، ولم تعد ترى وهج ضحكاته ومحاوراته وأصبحت الأسابيع تمر دون ان تراه
شيء في قلبها انقبض، حدسها وإحساسها انبأها بأن ثمة شيء ما تغير،وفي اخر زيارة له الى مكتبها قرأت نظرة حزن وألم فى عيونه فسألته:
- ما بالك أقرأ في عيونك كلاما مخفيا خلف نظرة عينيك ... ما الخطب؟
كان حدسها وقدرتها العميقة على قراءته تصيبه بالارتباك فتلعثم وأحمر وجهه ثم قال لها ونظرة اسف وحزن تطل من عينيه:
- قد لا نرى بعضنا بعد اليوم فأرجو ان تسامحيني.
اندهشت لكلماته وخمنت بان ثمة أمرا ما يخفيه عنها، فهي لم تتعود أن تراه بهذا الشكل الحزين والمتكتم ايضا
كان الارتباك يعلو وجهه، ونظرة ذنب تطل من عينيه وهي التي تعودت على إطلالة البهجة في عيونه وعفوية دفق مناكفاته حتى في ذروة محاورتهما الجادة أحيانا ولكنه اليوم هو شخص أخر لا تعرفه!
سألته بخوف وقلق:
- ما الخطب ؟ لا تتركنى رفقة التخمينات التي تنهش فكرى
ولكنه لم يجبها وصمت ولم ينبس بكلمة ،فأدركت بأن كهف عائلته المتشددة أنتصر عليه ولم يفلح في الخروج من الصورة التي عليه ان يمتثل لها امامهم
صمتت الاسئلة ولم تسأل عنه أو تبحث عن إجابات ، وأكتفت بأقفال أبواب الصمت ، وقذفته من ذاكرتها وأيامها والتحفت معطف النسيان ولم تلتفت.


انتصار بوراوى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى