عبدالحميد البرنس - وداع أخير لأماندا ماران بون.. قصة قصيرة

استيقظتُ في وقت متأخر.

كانت الشمس تضع قدمها بالكاد على عتبة النافذتين. أماندا لا تزال نائمة. على ملامحها تعبير ميت. لعلها عادت على مشارف الصباح. أتذكر طرفا مما حدث يوم أمس. بدأت أرتشف البيرة وحيدا داخل غرفة المكتب. لم أكن أفكر في أمر محدد. كنت أقرأ بلا مبالاة بعضا من تلك الرسائل الكثيرة التي ظلّت ترد إلى بريدي الإلكتروني من منفيين لا يزالون يكابدون قسوة العيش في مناف وسيطة، مثل شكر الأقرع، الذي بدأ يشكي أن الناس لم تعد تسأل وتتفقده، من بعد أن استقر بهم الحال في دول الغرب "المتقدمة". مرة طلب مني أن أرسل له مبلغا كي يعينه على شظف العيش في القاهرة".

وقتها، قمتُ بتحويل الأمر، برمته، إلى مزحة. كنت وغدا حقيقيا، وأنا أقول له: "لا تحزن، يا صديقي الأقرع. سأسأل عنك وأتفقدك، من حين لآخر، من دون أن يعني ذلك في كل الأحوال أنني سأبعث إليك في أحد الأيام بحزمة من المال"!

كانتا، أماندا ومليسا، كبرى شقيقاتها، تستعدان بضجة أنثوية حميمة للذهاب وحدهما إلى أحد تلك الملاهي الليلية. مليسا، لا تصلح أبدا أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء بيت. تركتْ قبل أسابيع قليلة في معية زوجها أربعة توائم. ثم تفرغت تماما لمغامراتها. لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة. كانت مثل الضيف، ألقى برحله خطفا بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول وحيدا بلا ذكرى، بلا شوق، بلا حتى قلب يهفو لنداء طفل يتلمس طريقه آن الليل بحثا عن أمومة غائبة. لعل مليسا في هذا تسلك مثلما أسلك مع وجوه ذلك الماضي البعيد. كان لدي منذ البداية شعور غامض أن طريق أماندا لن تفضي في نهاية المطاف إلى شيء. أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما. كنت مُتعبا. وقد حولتني البيرة في نحو التاسعة إلى خرقة ملقاة على قارعة الطريق. واصلت الشرب بعد ذهابهما هائما في مداراتِ وعدٍ همست به أماندا في أذني "بعد عودتي أريدك أن تأكلني حيّة، يا وليم". كانت رأسي لا تزال مثقلة من أثر البيرة. وكان مرأى أماندا وهي نائمة إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيرا لتلك الهواجس. طبعت على جبينها قُبلة. وسرت صوب الحمام. تعودت على عادة ترك باب الحمام مفتوحا. بدأت أتفهم إلى جانبها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. شيء ما جعلني أوصد الباب هذه المرة. كما لو أن روحا غير مرئية تتربص بي الدوائر في مكمن ما داخل الشقة. أفرغت أمعائي بتمهل. أخيرا، أنهيت تنظيف أسناني بينما أدندن بموشح أندلسي قديم "أيها الناس فؤادي شَغِف.. وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف". في اللحظة الأخيرة، عدلت عن حلاقة ذقني النابتة، وهذا يوم سبت آخر. كان لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ أماندا. كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، محكوما بتلك الرغبة لمدمنٍ عريق في صنع كوب من القهوة، ولا شيء هناك يعكِّر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة الرتيب. فجأة وقعت عيناي على رجل غريب. لم أره من قبل. كان ينام على ذات الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحيانا. بنظرة واحدة، أدركت فجيعة ما حدث أثناء نومي. كنت أواجه في تلك الثانية تحديات وجودي كرجل لأول مرة في حياتي. كان أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. وقد لاح داخل ضوء الصباح المتأخر الكثيف واثقا غير هيّاب. الوغد، لا بد أن لديه وقتا كافيا الليلة الماضية لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته بعد. فتح إحدى عينيه ببطء. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته الصامتة المتهادية بإيماءة من رأسي. يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل قطُّ الجمع بين النقائض. تركتُه في هدوء يواصل نومه هناك. لكأن شيئا لم يحدث. في الآونة الأخيرة، بدأتْ أماندا تحدثني بشيء من الحنين عن مغامراتها السابقة كتاجرة مخدرات صغيرة. أخذتُ أفكر تحت وطأة الديون المتراكمة على كاهلي مع مرور الوقت في حاجة المنفيين الغرباء في المدينة إلى ما سيُذهب الحنين عن صدورهم، كما لو أنهم لم يغادروا الوطن لحظة، وقد بدت لي سوق المخدرات سوقا رائجة ولا مراء، مقارنة بتجارة الصيني. كنت أغرق في بحر تأثيرها شيئا بعد شيء. كانت تراقبني أثناء ذلك عن كثب وبحياد تام. لم يكن في عزمها مواصلة الدراسة، أو العمل. كانت فكرة العودة إلى أفخاذ المومسات وعودتي وحيدا مرة أخرى تشلّ إرادتي. ولا أدري كيف وصلت عائدا إلى غرفة النوم. بركتُ قبالة وجهها. كانت لا تزال نائمة. تفوح منها رائحة خمر وعفونة جسد غريب. كما لو أنني أراها لأول مرة. هززتها. قالت تتشاكى بين يقظة ومنام "وليم، توقف"؟ هززتها بعنف أشد. أفاقت قليلا مواصلة الشكوى "وليم، دعني أنام"؟ هززتها هذه المرة مزلزلا كيانها كله. أفاقت تماما. ثمة رعب هائل أخذ يطل من داخل عينيها الشاخصتين. سألتها ضاغطا على حروفي بشدة وألم وحزن لا نهائي:

"هل ضاجعتِ الرجل الذي ينام على الكنبة الآن، يا أماندا"؟

العاهر! دفعة واحدة، استوت قاعدة على السرير، وقد بدا وجهها خاليا من أي أثر لحياة. قالت بينما تتأمّل الأرض تحت قدميها "نعم، ضاجعته، يا وليم". كل ما فعلته وقلته ساعتها ظلّ يؤكد لي على وجود تلك الحقيقة الوحيدة القابعة في داخلي كمشاعر بطل معتزل: أنني مِتُّ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها الوطن. ما حدث تاليا لم يكن سوى تقلبات الكائن المختلفة على مدارات الحنين، أو الذكريات. لم تجتاحني ثورة الأعماق، لم تغلي الدماء في عروقي، لم أطلب ثأرا فوريا من غريمي الماثل بين يديَّ، لم أقم بتقديم دم العاهر على مذبح الغيرة، لم ألتهب حتى بقصائد الشرف الرفيع. وجدتني ولا أدري كيف أقف على رأسه. أتذكر أنه اعتدل من نومه جالسا كما لو أنه كان ينتظرني مغمض العينين. قلت له بموات:

"اخرج الآن من بيتي"؟!

بدا مترددا وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، أخذ يصلح ما فسد قليلا من ردائه. ثم توقف داخل الطرقة. لكأنه يهم بوداعها وراء باب الغرفة الموارب. "من هنا"، كنت أشير له إلى باب الشقة. وجدتها مرتدية ثيابها تنتظر. لا تزال تحدق إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. هناك، حاولت الحديث عن أشياء يدعونها "الشرف". لم أفلح. رفعت رأسي بصعوبة شديدة. كما لو أنني أراها للمرة الأولى في حياتي. بكتْ، انتحبتْ، وتوالت دموعها قطرة فقطرة، حتى خلت أنها أبدا لن تتوقف.
كان جسدها الذي أعرفه جيدا ينتفض بشدة. كنت أجلس وراء المكتب الخشبي مواجها نافذته الزجاجية العارية من ستارة. كانت قابعة في وجوم تام إلى يسار المكتب. على بعد لمسة مني. من أشد حلكة ذلك القاع السحيق للضياع، أو العدم، سألتها "ألم أكن جيدا في الفراش، يا أماندا". قالت "بلى، يا وليم". قلت "إذن"؟ قالت "كنت ثملة، وحتى بعد أن خرجنا من الملهى. السافل! قام بمصاحبتنا إلى بيت إحدى صديقاتنا لقضاء ما تبقى من السهرة هناك. ظلّ لصيقا بي في وقاحة. واصلنا الشرب أكثر فأكثر. كان ثمة قوة غامضة أخذت تشدني إليه. لم أستطع فعل شيء حيالها. وا أسفاي، يا وليم". وصمتت. بعينين محترقتين، قلت "وتمارسين الخيانة في شقتي نفسها، يا أماندا"؟ قالت "ليس لدي ما أدافع به عن نفسي الآن. أتمنى فقط لو تنشق الأرض الآن وأغوص داخلها. لكن ما حدث حدث. ليس بوسعي تغييره، الآن". قلت:

"كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من هنا، يا أماندا"؟

قالت:

"قليل".

بعد لحظات مشحونة بالصمت المعدني نفسه، واصلتْ قائلة "أريدك فقط أن تعلم أنني لم أحبب من قبل رجلا آخر مثلما أحببتك أنت يا وليم ولا أزال. قد لا تصدقني بعد كل ما حدث أمس. لكنها الحقيقة. ما حدث كان مجرد غباء، لا أدري! يا وليم". من جوف ذلك الإطراق الأسيان، قالت "سأحضر للملمة أغراضي ريثما تهدأ قليلا، يا وليم". في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. "لكأن شيئا زحف في داخلي ومات". ظللت أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. لا أكلم أحدا. لا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني، عندما مكثت طويلا داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة تامة التعرف على ملامحي المطلة من داخل المرآة، قبل أن أحلق ذقني وأخرج إنسانا آخر مجردا من الأحاسيس أو المشاعر. ليس ثمة سطور من كراهية. لا غلّ. لا حقد. لا فرح. لا فقرة من بهجة. لا عنوان حبّ لأنثى. كنت مجرد صفحة بيضاء. وكان العصر يقترب من نهايته، عندما أخذ يتناهى بوق بإلحاح غريب من أرض خلاء تقع غرب البناية مباشرة. خيل إليَّ كما لو أنني أسمع صوتها. حين نظرت أستطلع الأمر عبر احدى نوافذ الصالة رأيتها بالفعل. أشارت لي بمقابلتها في الأسفل على عجل. هناك، تبينت وجود ثلاث فتيات كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ كيما تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. وقالت بغموض إنني لم أستيقظ لحظة أن جاءت هي ليلا لأخذ ما تبقى من متعلقاتها الشخصية وإنها لم تؤذني لأنها لا تزال مفعمة بالحبّ تجاهي.

كنت أنصت إليها في شرود.

لم يثرني مرأى السيارة الألمانية الجديدة التي تقودها بقدر ما أثارتني طريقتها العملية تلك في الكلام. لكن صوتها لان فجأة وتكسرت قساوته على ضوء الغروب الذي حلّ وقتها، وهي تقول ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل:

"وليم؟ أهذه هي النهاية، حبيبي"؟

أومأت برأسي مؤكدا في صمت.

قالت:

"أكل شيء انتهى بيننا، حقّا، وليم"؟

وقد أشحتُ بوجهي نحو اللا شيء:

"لم تتركين لي خيارا آخر، يا أماندا".

قالت "يا إلهي، وليم! ما زلت أحبك".

قلت:

"مع السلامة، يا أماندا بون".

كان ذلك آخر عهدي بأماندا.

لم تتوقف عن مهاتفتي تاليا لنحو الشهرين. قالت وقتها إنها حامل. لكأن الأمر لا يعنيني. في تلك الفسحة من الأرض الخلاء، وقفت أرقب العربة، وهي تندفع بقوة محدثة صريرا عاليا، تابعتها تنحرف صوب شارع سيرجنت القريب، وحين اختفت وتوارى هديرها في عمق الهدوء الحزين للغروب، أدركتُ بشيء من حياد أنه لم يعد لي " بعد اليوم" بقاء " في هذه المدينة".


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى