جودت فخر الدين - وجوهٌ لعلي.. شعر

1- ( وجهٌ أوّل) :

خانَتْهُ الأرضُ،
فلم تجلسْ هانئةً بين يديْهِ،
ولم تسْبَحْ في سرِّ خُطاهُ،
وراحتْ تجمحُ في عينيْه، وتنفرُ مثلَ حصانٍ أعمى.
خانَتْهُ الأرضُ،
وكان يعاتبُها كأبٍ،
ويبدِّدُ فيها أشجارَ يديْهِ،
فتذهبُ عنهُ، لتشردَ فاقعةً في عيْنِ الشمسِ،
يبدِّدُ فيها أشجارَ يديْهِ، فلا تلقاهُ بوجهٍ.
خانَتْهُ الأرضُ،
فسارَ وحيداً في الأرضِ،
وكان الناسُ يَرَوْنَ إلى وحدتِهِ، فيثوبون إلى شحِّ بصائرهمْ،
يجتنبون سماءً تتبعُهُ، ويهيمون على وجهِ الدنيا.
كان عليٌْ يجترحً الخَطْوَ على أرضِ الناسِ،
ليرفعَ أيامَ الناسِ، فيَجْحَدُهُ الناسُ،
وكان يضيءُ فيُطفئُهُ الناسُ،
هي الأرضُ المَلأُ المَمْسوسُ،
هي الأرضُ الفِتنةُ،
سار عليٌّ في أرضٍ جاحدةٍ
هل كان لهُ أن ييأسَ أو يتردَّد؟
ما كان ليطفئَهُ الناسُ،
توهَّجَ فيهمْ، ومضى برْقاً يتوقَّدْ.
ينأى مُحْتَجِباً، لكن لا يلبثُ أن يتجدَّدْ،
خانَتْهُ الأرضُ،
فسار وحيداً في الأرضِ،
يقودُ سماءً خرجَتْ من ثوبِ محمَّدْ.

2- ( وجهٌ ثان) :

يسكنُ في كلماتٍ تسكنُهُ،
يحيا في لغةٍ بِكْرِ،
تحتضنُ الأشياءَ كأمٍ،
تسمو بالأشياءِ فترفَعُها نحو سماءٍ دانيةٍ،
كان عليِّ يحيا في أسرارِ اللغةِ البِكْرِ،
ويأْتمُّ بها، فتلينُ لهُ،
والتْهُ الكلماتُ ووالاها.
أنفاسُ عليٍّ كلماتٌ،
خُطُواتُ عليٍّ كلماتٌ،
كان عليٌْ يحيا متقداً بالكلماتِ،
يهيمُ بِها، يتقمَّصُها،
ويراها تتلألأُ في نَجواهُ وفي عمَلِهْ.
يجتذبُ الموتَ بِها و يلاطفُهُ،
" نَفَسُ المرءِ خُطاهُ إلى أَجَلِهْ"
كان عليٌْ يسكنُ في كلماتٍ تسكنُهُ،
يصنعُ للحرْفِ فضاءً ويلوذُ بِهِ،
يجعلُ للقولِ مضاءَ السيفِ،
ويجعلُهُ ينضَحُ بالأسرارِ،
ويخفُقُ بالحَسَراتْ.
كان عليٌْ يحيا متقداً بالكلماتْ،
يجتذبُ الموتَ، يلاطفُهُ بالكلماتِ.
وبِها يرْسُمُ للناسِ دروباً،
يُطْلِقُ فيهمْ آياتٍ وعلامات ْ.
وجهُ الأيام متاهاتْ.
وكلامُ عليٍّ أبوابٌ، وحقولٌ، وجهاتْ.



* من ديوان " سماوات " ، للشاعر اللبناني جودت فخر الدين :
أعلى