فريدة الشوباشي - رجاء النقاش يروى ذكريات العمر (1)

أدباء "ملائكة".. وأدباء "وحوش"

لا أبالغ إذا قلت إن أقوى ما يمكن أن يصيب الإنسان هو استخدام كلمة "كان" للتحدث عن عزيز فقده.. وهذا هو حالي وأنا أتكلم عن أحد الجواهر الأصيلة في مصر، الوطن الذي أحبه ووهب حياته في سبيل إعلاء شأنه بإعلاء شأن ثقافته..
يحتل "رجاء النقاش" مكانا أساسيا في حياتي وأجمل ما في الأمر أنني وزوجي الكاتب الراحل على الشوباشي وابني الإعلامي نبيل الشوباشي نعتبر أن “رجاء" وقرينته الجميلة والنبيلة الدكتور هانية وأولادهما لميس وسميح أفراد في أسرتنا الصغيرة، وقد نشأت ظروف أدت إلى أن نتقارب تقاربا وثيقا، وأن نجلس معا لمدة ساعات في حوارات وذكريات في باريس، وهو ما يصعب أن يتاح لنا الآن في القاهرة التي تقسو علينا يوما بعد يوم..
وذات يوم قلت لـ "رجاء" إنني أريد أن أغوص في قلبه وعقله.. سألني بسرعة.. أين سأنشر.. أجبت: "العربي".. فكان قراره بلا تردد واتفقنا أن أترك له ما أشاء من أسئلة وهو يجيب عنها كتابة وبخط يده وقد عبر عن مكانة "العربي" لديه ومكانة رئيس تحريرها الكاتب عبدالله السناوي عندما قال في إحدى حلقات "ذكريات العمر": من هنا كنت قد أغلقت باب الذكريات والمذكرات حتى أتفرغ لما أنا فيه الآن، ولكنك يا عزيزتي فريدة الشوباشي فتحت هذا الباب من جديد ولاحقتني بتليفونات أخي الذي لم تلده أمي عبدالله السناوي رئيس تحرير "العربي" بعواطفه الكريمة وصوته المتحمس الصادق ليقول لي إن باب الذكريات الذي فتحته فريدة الشوباشي يجب أن يظل مفتوحا حتى تنتهي فريدة من عملية "الجرد" الكاملة لحجرة الذكريات هذه.
وللأسف الشديد لم يستطع "رجاء" مواصلة عملية الجرد بسب المرض الذي تمكن منه وكان يزيد من آلامه شهرا بعد شهر ثم يوما بعد يوم.. لكن عبدالله السناوي وأنا وكثيرين من الأعزاء من كبار المثقفين، نعتبر أن ما أفضى به "رجاء النقاش" لـ "العربي" جدير بإعادة قراءته والعمل بنصائحه بصدد إعادة بعض الكتب وإلقاء مزيدا من الضوء على شهادة رجل أجمع الأصدقاء والخصوم على نزاهته وأمانته وبصيرته وشفافيته.. فبالرغم من عدم اكتمال "الجرد" فإن ما قاله "رجاء" في ست حلقات شديد الثراء وفيه دروس وعبر للأجيال المصرية الحالية والقادمة.. إن "رجاء النقاش" هو "مايسترو" في حب مصر.. دون زعيق ودون خطب طنانة.. بل بكلمات بسيطة عميقة، صادقة سيبقى ضوءه باهرا.. لأنه اختار طريق النور الحقيقي.
ما من مرة قرأت لـ "رجاء النقاش" إلا وثار في ذهني ذات السؤال كيف يجمع هذا الرجل النادر بين صلابة الفولاذ والقوة الخارقة في الدفاع عن الحق وعن كل القيم المتصلة به وبين رقة النسيم وهشاشة الغصن الغض الذي لا يتحمل أي إيذاء كان بل ولا يتحمل الآخرون الأسوياء ـ إيذاءه.. كيف يعيش في "رجاء النقاش" مقاتل شرس لا يثنيه عن قناعاته تهديد أو وعيد أيا كان "السلطان" وكتلة من الرقة والحياء يستبد به القلق والخجل إذا نمت إلى أذنيه عبارة مديح أو بالأحرى عرفان بجميل عطائه لنا.
أعتقد أن سر قوة "رجاء النقاش" وصلابته هو زهده العجيب في كل مغريات الدنيا، إنه يقول كلمته ويمضى دون انتظار لشكر أو جزاء وأيضا.. دونما خوف أو رهبة.. مادام يعتقد فيما يكتبه.. ومن هنا لم يكن غريبا أن يثور البعض وما أكثر المتشدقين بالديمقراطية منهم ـ لنقد "النقاش" ـ لأنه يعلم أن قلمه يحظى بمصداقية نادرة.. وأنه.. علم من أعلام حياتنا الثقافية والأدبية وإذا قلنا "رجاء النقاش" فنحن نقول حياة حافلة بالعطاء وكأنه نهر كريم يمنح ولا يأخذ.. لذلك كانت فرحتي عميقة وشديدة بحصوله على جائزة الدولة التقديرية والتي أعتقد أنها تأخرت كثيرا وكانت مناسبة ليفتح "النقاش" قلبه لـ "العربي" وأن نغوص في حياته الحافلة الثرية وما تخللها من محطات ومعارك.
وعن كيفية تحقيق “رجاء النقاش” هذا القدر الهائل من الموضوعية في نقده وتقييمه للمبدعين أدباء وشعراء بالرغم من أن بعض أصحاب المواهب الفنية فيهم لا يتمتع بالمعايير الأخلاقية المتفق عليها. يقول الناقد الكبير: عندما جئت إلى القاهرة لأول مرة سنة 1951 لكي أدخل الجامعة، كانت صورة الأدباء والمثقفين في ذهني لا تختلف كثيرا عن صورة “الملائكة”. فقد كنت أتصور أن الذين يكتبون أدبا جميلا ويقدمون فنا رفيعا ويتحدثون إلى الناس بأفكار كبيرة لابد أن يكونوا هم أكثر الناس مثالية في أخلاقهم وسلوكهم وتعاملهم مع الناس أو مع بعضهم البعض، ولكنني بعد أن اقتربت بصورة واقعية من الحياة الأدبية والفنية والثقافية أخذت التجربة تعلمني أن ما كان في ذهني عن “ملائكية” الأدباء والمفكرين والفنانين هو لون من ألوان الوهم والخيال، واتضح بعد التجربة أن الثقافة هي مهنة من المهن، فيها الطيبون وفيها الأشرار. وأن المسرح الثقافي مليء بما في الحياة نفسها من الصراعات القاسية، وأن “التنافس” بين الأدباء والمفكرين والفنانين يلعب نفس الدور الذي يلعبه في مجالات الحياة الأخرى.
وأذكر بهذه المناسبة أن أستاذنا الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين كتب في الثمانينيات مقالا لا أنساه قال فيه إن زوجته السيدة “ديزي” وهى سيدة عالية الثقافة والتعليم، قالت له يوما ما معناه إن زواجي منك قد جعلني أتعرف على كثير من الأدباء والفنانين. وقد نتج عن ذلك أنني “مصدومة” فيهم صدمة كبيرة. فقد كانت صورتهم في ذهني قبل الزواج منك صورة رائعة وبديعة، أما بعد أن عرفتهم عن قرب فقد وجدت فيهم كثيرا من الجوانب السلبية التي أحزنتني وأزعجتني.
وقد علق أحمد بهاء الدين على كلام زوجته بما كان معروفا عنه من نظرة واقعية نافذة عميقة ودقيقة، فطالب بضرورة التفرقة بين موهبة الفنان وبين الجانب الشخصي فيه، وأن علينا أن نرفع أيدينا إلى السماء وأن نعلن التسليم بأن هناك فرقا بين الإنتاج الفني والفكري والأدبي وبين الأخلاق والسلوك الشخصي، وأن نحاسب الناس على إنتاجهم فهذا هو عملهم العام الذي يصح لنا أن نحاسبهم عليه، أما الجوانب الشخصية فمن حقنا أن نقبلها أو نرفضها.. حسب الحالة التي نراها أمامنا ولكن بعيدا عن الحساب النقدي للأعمال الفنية والفكرية. ليس هذا هو كلام أحمد بهاء الدين بنصه، ولكنه معنى كلامه كما أتذكره، ولعل الذاكرة لا تكون قد خانتني في تلخيصه وأنا لا أختلف كثيرا في مشاعري ومواقفي عما عبرت عنه السيدة “ديزي” زوجة أحمد بهاء الدين. فقد صدمتني ظاهرة التناقض في بعض الحالات بين الموهبة التي تعبر عن نفسها بصورة بديعة وبين السلوك الشخصي الذي فيه سخف وابتذال وميل شديد إلى العدوان وتجريح الآخرين.
والتفكير في هذا التناقض أحزنني كثيرا، وأنا أحس في شخصيتي استعدادا طبيعيا للحزن بسبب قسوة بعض الظروف التي مررت بها، خاصة في بدايات حياتي، ولا مجال للتعرض لها في حديثي الآن. المهم أنه كانت هناك “قشة” أتعلق بها وهى إيماني بأن الموهبة تعنى الأخلاق الرفيعة في الوقت نفسه. ولكنني فقدت هذه “القشة” تماما وأصبحت واقعيا على طريقة أحمد بهاء الدين، أي أنني دربت نفسي على التفرقة بين الإنتاج الأدبي والفني وبين صاحب هذا الإنتاج، حتى أتمكن من دراسة أي نص أدبي أو فني بعيدا عن تأثير مشاعري الخاصة.
ومع ذلك فأنا أريد أن أقدم بعض الاعترافات الصريحة، فالأدباء والفنانون عندي ينقسمون إلى ثلاثة نماذج.. النموذج الأول: هو الذي يبدو فيه “انسجام تام” بين إنتاجه وشخصيته الإنسانية مثل: نجيب محفوظ وصلاح جاهين والطيب صالح وسميح القاسم وفؤاد حداد، وهذا هو النموذج الذي أفضله بل وأعشقه وأجد المتعة والراحة كلما أقبلت على دراسته وتحليل أعماله والبحث فيها، والنموذج الثاني: الذي تبدو أعماله الأدبية جميلة وممتعة، ولكنه يعانى من اضطراب في شخصيته له أسبابه الواضحة عندي، وهذا النموذج يثير تعاطفي الشديد، لأن أسباب اضطرابه تكون كما أتصور أسبابا خارجية ضاغطة عليه، فهو ضحية للظروف، وليس فاعلا أصليا للأخطاء.
وهذا النموذج يمثله الأديب الشاعر نجيب سرور، فقد كان فنانا مبدعا، ولكنه كان يعانى من اضطرابات تؤدى أحيانا إلى إيذاء نفسه وإيذاء غيره. وقد نالني بعض الأذى منه، ولكنني كنت أستطيع أن أتفهم ظروفه والأسباب القاسية التي تقف وراء ما يعانيه من اضطرابات، ولذلك لم أفقد التعاطف معه أبدا.. لا في حياته ولا بعد رحيله.
أما النموذج الثالث: فيمثله الأدباء والفنانون الذين يتعمدون الإساءة إلى الآخرين وتجريحهم، فهؤلاء لا أستطيع إلا الابتعاد عنهم أدبيا وفنيا وشخصيا بصورة شبه نهائية، وأذكر لك حادثة وقعت في أوائل سنة 1973، فقد كنت ذات يوم أجلس على مقهى “ريش” الشهير، وكنت يومها أشعر بالتعب الشديد، وكنت أعيش في فترة من حياتي مليئة بالإحباط لأنني كنت واحدا من العشرات الذين “رفدتهم” لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي التي كان يترأسها حينذاك محمد عثمان إسماعيل، وقد أصبح هذا الرجل بعد ذلك محافظا لـ “أسيوط” ومستشارا للرئيس السادات، وأثبتت كثير من الوثائق أن هذا الرجل كان من الصانعين الأساسيين لجماعات التطرف الديني، وهو الذي أقنع الرئيس السادات بإنشاء هذه الجماعات لمحاربة الناصريين وسائر اليساريين، وقد انقلبت هذه الجماعات على الرئيس السادات، وكانت وراء اغتياله في نهاية المطاف، وأعود معك إلى القصة الأصلية فقد كنت أجلس على مقهى “ريش” مرفودا ومحبطا، وجاءني أديب شاب من أصحاب المواهب القوية التي لا شك فيها، ودون سبب على الإطلاق وجدته يسبني ويشتمني ويلقى في وجهي بكوب ماء كانت أمامي.
وقد جرحني هذا التصرف جرحا عميقا ولم أجد سببا يفسره لي على الإطلاق. فلم أغفر له هذا الموقف. وقد حاول بعد ذلك أن يعتذر لي، ولكنني لم أقبل اعتذاره، وحتى الآن لا أستطيع أن أكتب عن هذا الأديب الموهوب حرفا واحدا وأنا ألوم نفسي كثيرا على ذلك، لكنني لم أستطع أبدا أن أغير مشاعري تجاه هذا الأديب فكلما طالعت عملا أدبيا له وأعجبني هذا العمل فنيا وجدت فجوة روحية بيني وبينه لا أستطيع أن أتجاوزها أبدا فقد كان جارحا وشرسا معي ومع الكثيرين غيري دون سبب معقول يبرر له ذلك ويجعلنا نتحمله ونغفر له.
وقد سمعت أن ذلك الأديب يردد أن الشراسة والسلوك العدواني هما وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده، أي أنه “يتعمد” ارتكاب الشر. وهذا ما أكرهه وأنفر منه، ولا أستطيع أن أتعامل مع صاحبه على أي مستوى من المستويات. والخلاصة أنني أحب الفنان الموهوب صاحب الشخصية الإنسانية الجميلة، وأغفر للفنان صاحب الشخصية المضطربة، إذا كان هناك أسباب قوية تبرر هذا الاضطراب وتفسره ولا أعفو بيني وبين نفسي عمن يتعمدون الشر. ولكنني بصورة عامة أصبحت مقتنعا بأن جمال الفن لا علاقة له بالسلوك الشخصي. فالجمال الفني مثل جمال المرأة، هناك امرأة جميلة وفاضلة، وهناك امرأة جميلة أيضا ولكنها غير فاضلة.
وأنا مع الجمال الفاضل ولا أجد في نفسي قدرة كافية للتعامل مع الجمال الخالي من الفضيلة والذي يتعمد أصحابه في سلوكهم أن يحرجوا الناس ويعتدوا عليهم، بحجة أنهم موهوبون وأن من حقهم أن يفعلوا ما يشاءون ولعلى أكون صريحا لو ضربت مثلا آخر على ما أقول، وهو مثل مستمد من واقعنا الأدبي الراهن فأنا أحب شعر أحمد فؤاد نجم وأحفظ عددا من قصائده، وأجد في هذا الشعر تجارب فنية وإنسانية قوية ومدهشة، ولكنني لم أعد أتحمل شخصية الشاعر العدوانية.
فقد تعود أن “يعض” الناس ويقوم بتجريحهم ويمارس هذا الأسلوب ضد الكثيرين من الأبرياء والشرفاء، ولا يراجع نفسه أو ضميره في إلقاء التهم العشوائية القاسية ضد الآخرين، ولم أسلم أنا شخصيا من عدوانه الظالم ضدي بأسلوب فج هو أول من يعلم أنه كاذب فيه، فقد وقفت إلى جانبه بقوة وبقدر ما أستطيع وفوق ما أستطيع في كل المحن التي مر بها، وكان يزورني باستمرار عندما كان مختفيا من الشرطة، ولو كنت أحمل له شرا في نفسي لكان من السهل أن أسلمه للأمن، أو أدل على مكان اختفائه، ولكنني لم أفعل شيئا من ذلك وتحملت مسئولية كانت يمكن أن تؤذيني واخترت الوقوف إلى جانبه وساعدته في محنته، ومع ذلك لم “يتمر” فيه شيء من هذا فهو يهاجمني هجوما جارحا باستمرار.
وهذا الموقف أوجد حاجزا قويا بيني وبين الاقتراب من شعره لدراسته والبحث فيه وتحليله والكشف عما ينطوي عليه من عناصر الجمال الفني والإنساني. وقد يرى البعض أنني مخطئ في الخلط بين الفن وصاحبه في مثل هذه الحالات، ولكنني من جانبي أرى أن مهنة النقد ليست مهنة ملائكة، ولكنها مهنة نفوس يمكن أن تتألم وتضيق بالشراسة والعدوان وسوء الأدب. وأخيرا أحب أن أقول لك إن هناك بعض الوسائل التي تعينني على الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية والحرص على العدالة والإنصاف في أي حديث عن الأدباء والفنانين، وعلى رأس هذه الوسائل أنني أعيش منذ فترة طويلة في نوع من العزلة بعيدا عن أي علاقات اجتماعية، وقد اخترت هذه العزلة لحاجتي إليها من حيث الوقت الذي أقضيه في المطالعة والعمل، وأفادتني هذه العزلة كثيرا في الاقتراب من الأعمال الأدبية بعيدا عن العلاقات الشخصية التي يمكن أن تؤثر في الأفكار والمشاعر وخلاصة ما أحب أن أقوله هو إنني أبذل جهدا كبيرا للسيطرة على نفسي حتى لا أتأثر بأي مشاعر سلبية وشخصية في أي موضوع.
فإن عجزت عن السيطرة على نفسي امتنعت عن الاقتراب من الموضوع الذي أحس أنني “مرتبك” من الناحية النفسية أمامه وأنا أفضل في النهاية أن اقترب بالبحث والدراسة ممن أحبهم وأجد مكانا كبيرا لهم في قلبي، ولكنني حريص في الحب، حتى لا يقودني الحب إلى مواقف عشوائية مضطربة، وأنا بكل تواضع من عشاق المنطق الصحيح والصدق في الشعور والتفكير، والإنصاف والعدالة في الأحكام ولا أطيق الكذب على نفسي، أو على الناس، ولا أتحمل مخالفة الضمير الأدبي من أجل إرضاء أحد، وفى المقابل فإنني أتحمل نتيجة آرائي مهما كانت ا




أعلى