عائشة المراغي - السوق.. قلب المدينة وروح البشر

«بلح الشام وعنب اليمن». يُضرَب بهما المثل في جميع البلدان العربية، باختلاف لهجاتها.
تعود قصتهما إلى الزمن القديم، حين كان يشد التجار العرب الرحال مرتين في العام لجلب البضائع، مرة إلى الشام وأخرى إلى اليمن، في رحلتين ذكرهما القرآن الكريم في قوله تعالى: «إيلافهم رحلة الشتاء والصيف».
دارت عجلة الزمان وتطورت الحياة، ولم يعد الأمر مقتصرًا على رحلتين، وإنما آلاف الرحلات سنويًا ما بين بلاد العالم، تنقل كل شيء وأي شيء. ومع زيادة البضائع زادت الأسواق، فأصبح كل بلد يشهد في مدنه المختلفة مئات الأسواق على مدار العام. يختلف مصدر السلع في كل منهم، لكن المنتج واحد؛ بل والمظهر واحد أيضًا.
في هذا البستان نتعرف على تراث الأسواق، ونجوب في رحلة قصيرة حول الشْعبية الأسبوعية منها. نقترب منها في محافظات مصر المختلفة عن طريق شهادات مبدعيها، ونذهب إليها عربيا بأقلام من داسوا بساطها وتذوقوها.

أسواق العرب.. تراث ذهب وموروث باقٍ
تخلّى العالِم والشاعر العربي ياقوت الحموي عن خطط رحلاته المعَّد لها مسبقًا، وخرج هائمًا على وجهه هربًا من دوائر العلم والتجارة والمهام التي توكل إليه، واتجه جنوبًا من درب لآخر حتى بلغ أطلال سوق عكاظ. رغم أنه بات بقايا، لكنه مثّل للحموي اكتشافًا أثار شغفه، وكان أكثر ما أثر فيه علمه بأن أستاذه الفقيه الزمخشري - الذي توفي قبل ميلاده بأكثر من ثلاثين عاما - كان شاعرًا أيضًا، ووجد للزمخشري مُعلّقة قصيرة ملهمة جعلته يخالف مبادئه لأول مرة، ويمدحه بقصيدة، عبّر فيها عن رغبته المستحيلة في مبارزة أستاذه بالشعر.
تلك واحدة من قصص الأسواق العربية في الزمن الغابر، حيث كان السوق بمعناه الحقيقي؛ مكانا يتجمع فيه الناس من كل حدب وصوب لممارسة مختلف الأنشطة وتبادل كل شيء ممكن، ليس فقط السلع، ولكن الخبرات والقدرات الإبداعية التي يمكن اكتسابها.
لهذا كان للأسواق وجهان؛ أحدهما ثقافي إبداعي يجمع الأدباء والشعراء والعلماء والرسامين والمصورين الذين يقومون برسم شخصيات وأماكن من الواقع، وكذلك يجمع المصممين وفناني الحرف اليدوية من نقش ونحت وغيره من أشكال الفنون، حيث يتبارى مبدعو كل فئة الذين عادة ما يمثّل كل منهم قبيلته أو قريته.
أما الوجه الثاني فهو تجاري اقتصادي، حيث يرتاد الأسواق صنّاع وتجّار، كل منهم متخصص في نوعية من السلع، بعضهم يتفرد بها وينتظرهم مريدوها، بل ويبحثون عنها كالعطور والأصواف والحرائر وأدوات التجميل والبهارات والمحاصيل المجففة كالتمور والزيتون، والمنتجات الجلدية، والسجاد، والفخاريات وغيرها، وتنوعت أساليب البيع في هذه الأسواق، ومنها الملامسة، رمي الحصى، المعاودة، المنابذة، والأجنة.
انتشرت الأسواق ذات الوجهين في النصف الشرقي من بلاد العرب بالأراضي الحجازية والشام والعراق، وكان لكل منها طابع ثقافي وإبداعي وكذلك تجاري يميزها عن غيرها، وطقوس ينفرد بها كل سوق بحسب طبيعة المكان وأهله وأنشطتهم.
من أسواق بلاد الحجاز «سوق عكاظ» والذي اكتسب اسمه من تعارك الشعراء فيما بينهم بإبداعاتهم، وكان يشهد أكبر تجمع بشري يضم أبناء مختلف قبائل شبه الجزيرة العربية والقادمين من خارجها، ويعد من أهم ساحات الخطابة وإطلاق الدعوات، ويُذكَر أن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام قد دَعا لعبادة الله الواحد به، وأخبر الناس أنه رسوله إليهم قبل أن يكذِّبه عمه أبو لهب.
ومثله عشرات الأسواق الأخرى كنجد والجندل وخيبر وبدر ومجنة، وهناك أيضا سوق حُباشة الذي اشتهر بالنحت والنقش على الأحجار والمعادن، وهو مكون من ست مراحل تمتد على الطريق الرئيسي بين بلاد اليمن في الجنوب وحتى بلاد الشام شمالا، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد تاجر فيه بأموال السيدة خديجة.
إن اتجهنا شرقا، سنجد أسواق هجر وصحار، وحجر الذي عُرف بتنافس الشعراء، وسوق عُمان الذي تفرد بعرض اللوحات الفنية به والتي كانت غالبًا ما تأتي من بلاد فارس القريبة منها، ويمكن فيها التمييز بين ما قام صاحبها بتصويرها والنُسخ المقلّدة والتي أحيانا ما تتفوق على الأصل، وتمنح من قام بالتقليد فرصة لينال بعض ما يستحق من رعاية وتقدير.
بينما حَفَل الجنوب بأسواق مثل عدن وحضر موت، وسوق صنعاء الذي اعتاد أصحاب الحرف اليدوية عرض ما يصنعونه به، وتميّز عن غيره بوجود دروب وتفرعات وبكل منها مجموعة حوانيت متخصصة في إحدى الحرف كصناعات الجلود، والآنية الفخارية، والسجاد، والذهب ومشغولات الأحجار الكريمة، والعطور، وغيرها.
يوجد ببلاد الشام أسواق حلب وأيوب، وكذلك سوق بصري الذي قارع في بعض أزهى فتراته سوق عكاظ في مبارزة كبار الشعراء به، وكان مصدر إلهام كبير لهم، فكانوا عادة ما يرتجلون قصائد غير التي أعدّوا لها مسبقَا، ولعل هذا من تأثير روائح المحاصيل الزراعية وخاصة الأعشاب والنباتات العطرية التي اختص بها هذا السوق.
تمايزت أسواق العراق في وجهها الفكري والثقافي، ومنها أسواق الكوفة والحيرة، وكان لسوق المربد بالبصرة مكانة خاصة حيث يلتقي فيه العلماء ويطرحون أفكارهم الجديدة، وكانت مشاركة أكثر منها منافسة، كما كان شاهدًا على العديد من مجالس الصلح بين القبائل، واختص بتجارة الإبل والتمر، ونظرًا للتنوع اللغوي والفكري الذي حظى به أطلق عليه المؤرخون «سوق ملتقى الحضارات».
ارتبطت هذه الأسواق بالعديد من الأدباء والشعراء منهم الخنساء والنابغة الذبياني، وأبو القاسم السهيلي، وابن دريد البصري، والخليل بن أحمد وغيرهم، كما شهدت الأسواق العديد من قصص العشق والتي كان طرفاها أو أحدهما من أهل الشعر، وقصائد متنوعة الأغراض ما بين مديح وغزل ورثاء ألقيت لتخلّد ذكرى الحبيبين.

ففي أحد الأسواق ألقى عنترة بن شداد قصيدة من أجل محبوبته عبلة جاء مطلعها :

عقاب الهجر أعقب لي الوصالا = وصدق الصبر أظهر لي المحالا
ولولا حب عبلة في فؤادي = مقيم ما رعيت لهم جمالا
عتبت الدهر كيف يذل مثلي = ولي عزم أقد به الجبالا

وبسوق عكاظ ألقى قيس بن الملوح قصيدة في حب ليلي العامرية أحدثت اضطرابات شديدة وجاء في جزء منها :

ولمَّا تَلاقينا على سفحِ رامَةٍ = وجدتُ بنان العامريَّةِ أحمرا
فقلتُ خضبتِ الكفَّ على فراقنا؟! = فقالت : معاذ الله، ذلك ما جرى
ولكنَّنِي لما وجدتُكَ راحلًا = بكيتُ دمًا حتى بللت به الثرى

كما تخفت ليلي الأخيلية في ثوب الرجال واندلفت إلى سوق عكاظ أيضا لترثو حبيبها الفارس توبة الذي قتله رمح غادر في إحدى المعارك وكان والدها قد منعها من الزواج به، وفي مطلعها قالت :

أقسمت أرثي بعد توبة هالكًا = وأحفل من دارت عليه الدوائرُ
لَعَمْرُكَ مَا بِالمَوْتِ عارٌ على الفَتَى = إذا لم تصبه في الحياة المعايرُ
وَمَا أَحَدٌ حَيٌّ وإِن عاشَ سالِما = بأخلد ممن غيبته المقابرُ

كانت الأسواق شاهدة أيضًا على الكثير من المواقف الخالدة بسننها وسموها ومن أبرزها أن الشاعرين جرير والفرزدق اعتادا أن يتنافسا ويهجو كل منهما الآخر في العديد من الأسواق مثل المربد والحيرة وهجر، ولكنهما تواعدا ذات مرة على اللقاء بسوق حجر، وبينما كان جرير ينتظر، نقل له أحد التجار خبر وفاة الفرزدق، فبكى، وبدلا من أن يهجوه؛ ذهب يرثيه متألما بقصيدة جاء فيها :

هلك الفرزدق بعدما جدعته = ليت الفرزدق كان عاش قليلا
ولا ولدت بعد الفرزدق حامل = ولا ذات بعل من نفاس تبلت
هو الوافد المأمون والواثق الرضى = إذا النعل يوما بالعشيرة زلت

وبسوق عكاظ رثت الخنساء أخاها صخر بقصيدة مطلعها:

قذي بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ = أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ = فيضٌ يسيلُ على الخدَّينِ مدرارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ = ولهتْ وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ

ذهب تراث الأسواق الثقافي والإبداعي إلا من ذكرى هنا وأخرى هناك. تحدثنا عن المعنى الأشمل للسوق الذي لم يبق منه حتى في المعاجم غير الموروث التجاري، حيث يتنقل التجار بانتظام بين الأسواق التي أصبحت دورية كل أسبوع أو كل شهر، حاملين سلعهم التي يتفردون ببعضها دون غيرهم.

الجائلون.. يوم بيوم كعب داير
بدأت الأسواق قديمًا سنوية، وكانت تمتد من عشرة أيام إلى شهر كل عام، ثم أصبحت موسمية تستغرق أقل من عشرة أيام كل فترة، ومع الوقت أخذت المدة تتقلص وظهرت الأسواق الشهرية والأسبوعية، بالإضافة إلى الدائمة. شمل الأمر الكرة الأرضية برمتها، فأضحت تقام حول العالم أسواق تحمل أسماء الأيام، وفي كل يوم خلال الأسبوع نجد مئات الأسواق التي تحمل اسم هذا اليوم، لكن معظم المصادر أجمعت على أن منطقة عسير هي الأقدم في ذلك.
عرفت مصر والشام والعراق هذه الأشكال من الأسواق الأسبوعية بعد ظهور الإسلام بفترات متفاوتة، إما من خلال القوافل التجارية أو عن طريق من انتقلوا إلى جنوب مصر عند فتحها الإسلامي. كما ذكرت عدة مصادر أن بعض القرى في منطقة سوهاج كانت الأسبق في التعرف على شكل وطبيعة هذه الأسواق، وبالتحديد القيسارية؛ التي تحوي أقدم الأسواق في المحافظة.
في الصفحات التالية نتناول الأسواق الشعبية الأسبوعية، التي يتنقل فيها الباعة بين يوم والآخر. يظهر من خلالها أن السوق موروث عربي مشترك، لا يختلف في مصر عن بقية البلدان العربية سوى في المكان وثقافته ولهجة أهله، أما مظاهره وعاداته وسلعه وأسلوب التعامل معه فهي واحدة. ورغم أن الوظيفة الكبرى للأسواق هي التجارة وتبادل السلع، لكنها في حقيقة الأمر تفعل ما هو أكثر من ذلك. فمن خلال السوق يمكن معرفة الكثير عن المنطقة وطبيعتها وأهلها وسلوكياتهم وثقافتهم، كما أنه وسيلة هامة جدًا من شأنها حفظ تاريخ البقعة التي يقام فيها من خلال توارثه عبر الأجيال.
البائع الجائل هو السمة المشتركة بين جميع الأسواق. تتعامل معه معظم الحكومات باعتباره شخص مخالف وعشوائي، وغالبًا ما تتم ملاحقته من قِبل «البلدية»، فيعدو هربًا ببضاعته، ليجد أمامه على الجانب الآخر «بلطجية» يفرضون عليه «إتاوات» مقابل تركه في سلام. بين الطرفين يقف البائع لا حول له ولا قوة، ينازع من أجل كسب قوت يومه، ويتمنى لو أن تقنّن الدولة وضعه بدلا من محاربته.
تلك الصورة تنجو منها بعض الأسواق، التي تقام بشكل متناسق ومنظم، فتضفي مظهرًا حضاريًا على المدينة، ينعم فيها الباعة بالأمان، وكذلك المتسوقون. وقد دللت منظمة اليونسكو على هذا الدور الحضاري عندما أدرجت بين مواقع التراث العالمي في الوطن العربي عشرة أسواق هي: «عكاظ» في الطائف بالسعودية، «الغزل» و«الصفافير» في بغداد بالعراق، «الحميدية» و«البزورية» و«مدحت باشا» و«الخجا» في دمشق بسوريا، «خان الخليلي» في القاهرة بمصر، «المنامة» في العاصمة بالبحرين، و«البخارية» في عمان بالأردن.
ما بين الأسواق المتنوعة والمتباينة، نرصد أبرزهم في الوطن العربي عبر سبعة أيام في الأسبوع، نتعرف على طبيعة كل منهم ومظاهره والسمة المميزة له ولمنطقته. ثم نذهب لمبدعينا، للاستزادة منهم بمعلومات وتجارب مع الأسواق المختلفة، كل منهم في محافظته أو بلده، فنستخلص عصارة خبراتهم.
السبت: من ميت عقبة إلى «أبو زعبل»
في شارع 26 يوليو البطيء تجد من يدّلك على سوق السبت بميت عقبة، وفي الوقت نفسه يحذّرك بالحفاظ على ما تملكه حتى لا يتم سرقتك.
أمام شارع السوق سيدات يفترشن الأرض ويضعن بجانبهن براميل مملوءة بالمياه الساخنة التي يضعن فيها الطيور بعد ذبحها لتُسلخ ويسهل عليهم تنظيفها.
الطيور هي أهم ما يميز هذا السوق، حيث يأتي إليه الباعة من الأرياف بالمحافظات والمدن المختلفة؛ الفيوم وأوسيم والكوم الأحمر، فمن بني سويف وحدها تأتي 6 سيارات لا يذهب من فيها سوى لهذا السوق، يحملون الدواجن والحمام والجبن والبيض والرقاق وغيرها من المنتجات الفلاحية. كما يأتي للسوق أيضًا بعض مُلّاك محلات الطيور بالجيزة والقاهرة، حيث تكون الأسعار فيه أقل من سعر المحل بخمسة جنيهات على الأقل. لمن يريدون كميات كبيرة لإقامة موائد وعزائم.
يعتبر سوق ميت عقبة من أصغر الأسواق الأسبوعية في القاهرة، فهو ــ كما يحكي عم صلاح صاحب محل بيع المنظفات الكائن بنهاية السوق بجانب مسجد الشيخ صالح ــ موجود منذ الستينيات، قبل إنشاء مركز شباب ميت عقبة، حيث كانت المنطقة المسماه بـ «البِركة» حينها كلها عشش، تطوّر الوضع تدريجيا، فأزيلت العشش وأقيمت ورشة بلاط ثم مشفى ثم مركز الشباب وأحيط بسور ..... وهكذا. يضم السوق عددًا من المحلات والبيوت المبناة منذ زمن، يزيد عليه يوم السبت من يأتون من المناطق والمحافظات الأخرى.

الخانكة وأصالة أهلها
كثيرون لا يعرفون عن «الخانكة» سوى أنها مصحة تأوي أصحاب العقول المريضة «المجانين»، وترتبط بسجن أبو زعبل ومستعمرة الجذام. بينما هي مركز تابع لمحافظة القليوبية مأهول بالسكان الذين يبلغ عددهم حوالي 70 ألفًا، بحسب تعداد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. و«أبو زعبل» واحدة من القرى الخمس التابعة له.
تشتهر الخانكة بمزارع الجوافة والتين، إلى جانب زراعة الخضراوات. ورغم أن عددًا كبيرًا من تلك المزارع تم تحويله لأراضي بناء، لكن تبقى مهن أصحابها هي الفلاحة وتربية المواشي والزراعة، يستخدمون من منتجاتهم ما يكفيهم ويذهبون لبيع الفائض في سوق السبت بالمدينة.

تراثية سعودية
تضم المملكة العربية السعودية 13 منطقة، تنقسم كل منهم إلى عدد من المحافظات، يعد «سوق السبت» من أشهر وأقدم الأسواق في معظمهم.
في منطقة الباحة - الأصغر بينهم من حيث المساحة - يقام بمحافظة بلجرشي سوق السبت منذ ما يزيد على مائة عام، فيبدأ مع شروق الشمس وحتى وقت الظهيرة. ولعل ذلك التاريخ، إلى جانب الأصالة هما ما يجعلانه أحد أهم الأسواق بالمنطقة، حيث يبحث أغلب المترددين عليه عن المنتجات التراثية. يعتمد بشكل أساسي على الباعة من أهالى المحافظة، لكن يتوافد عليه باعة كُثر أيضا من المحافظات الأخرى، بل ومن خارج المنطقة، الذين يعرضون منتجاتهم من سكاكين وأواني نحاسية ومشغولات يدوية، بالإضافة إلى التمر والعسل والفاكهة والخضراوات والطيور والماشية، ولوازم النساء من أقمشة وحلي وعطور.
ومن الأسواق التراثية ــ كذلك ــ سوق الخميس بمحافظة القطيف في المنطقة الشرقية، الذي انتقل منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام إلى يوم السبت، لكنه ظل محتفظا بخصوصيته ومكانته لدى أهالى المنطقة ــ التي تعد أكبر مناطق السعودية ــ فعمره يمتد لزمن بعيد، يقول البعض أكثر من مائة عام والبعض الآخر 300 عام وآخرون يعتبرونه معلمًا سياحيًا يزيد عمره على 700 عام. تباع به جميع المنتجات من طيور وبهارات وتمر وملابس وأدوات زينة قديمة وعملات معدنية وأحجار كريمة، بالإضافة إلى طيور الزينة والسلاحف والثعابين، وغيرها من الحيوانات المنزلية. يشبه إلى حد كبير سوق الجمعة بمصر، غير أنه يتمتع بقدر كبير من التنظيم.
وفي منطقة جازان الواقعة بالجنوب الغربي، تعد الأسواق الشعبية والتراثية من أهم المزارات في محافظاتها الستة عشر، التي توفر لمواطنيها جميع السلع والمنتجات بأسعار مناسبة. وفي يوم السبت يقام السوق بمحافظة بيش، الواقعة على الطريق الدولي بين السعودية واليمن، ويعتمد بشكل أساسي على المنتجات والأدوات الزراعية والماشية والإبل.
أما سوق السبت بمحافظة تبوك، فتشوبه بعض الفوضى والعشوائية بخلاف الأسواق السابقة، بعدما تم نقله منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات من يوم الخميس بجوار مصلى العيد إلى دوار الصناعية يوم السبت. ورغم مساحته الكبيرة، إلا أنه يفتقد لتدخل البلدية هناك لتنظيمه وتوفير الخدمات العامة للباعة والمواطنين.
وفي الرياض؛ يقام سوق المزارع يوم السبت، المخصص للخضار والفاكهة، حيث تأتي العربات محملة بكميات هائلة من المزروعات.

البلدية تشجع
بالقرب من ستاد الملك عبدالله الثاني يقام سوق السبت بمنطقة القويسمة الصناعية في عمان والأردن، الذي يبدأ مع بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس. يباع فيه خضراوات وفواكه وملابس وأدوات منزلية وغيرها من متطلبات البيوت، بأسعار منخفضة كثيرًا عن الأسواق التجارية، نتيجة التنافس بين الباعة، مما يجعل الكثير من المواطنين يقبلون عليه للحصول على احتياجاتهم.
تتولى أمانة عمان تنظيم السوق، ولا تفرض بدل أرضيات على الباعة، تشجيعًا لهم، حيث يوجد بينهم خريجون وطلاب جامعيون يأتون لجني بعض النقود التي تعينهم على تحمُّل مصاريف الحياة والدراسة لحين وجود فرصة عمل مناسبة.

الأحد: احذر «منطي»
اخترت أن أذهب إلى سوق الأحد في شبرا الخيمة بالمترو، وتلك المرة الأولى التي أخرج فيها من نطاق القاهرة الكبرى لمحافظة أخرى باستخدامه، لأجد نفسي في نهاية الرحلة بالقليوبية. أنظر من حولي، أحاول أن اكتشف الطريق الصحيح للخروج من تلك المحطة الكبيرة والمتشعبة، فلا أجد مفرًا من سؤال الناس، وأتذكر مقولة سمعتها ذات مرة من أمي بأن «الغريب أعمى ولو كان بصيرا».
دلتني امرأة من أهالى البلدة إلى اتجاه الخروج الصحيح للذهاب إلى السوق، وهناك وجدت الكثير من سيارات الأجرة التي تنادي لأماكن مختلفة كمنوف وشبين وغيرها من المناطق المحيطة، لكن المارة نصحوني أن أستقِّل العربات الذاهبة إلي «منطي». وقد فعلت.
في الطريق جلس بجانبي رجل عجوز، شاب شعر رأسه لكن يبدو عليه أنه مازال محتفظا بتركيزه وحكمته. لمحني أُخرِج هاتفي لأُجرِي اتصالًا فنصحني بعدم فعل ذلك ما دمت ذاهبة إلى منطي! حيث تكثر بها حالات السرقة وانتشال الهواتف والحقائب من الناس بواسطة مستقلي الماكينات «الموتوسيكل». فأصابني القلق وفكّرت حقًا في العودة على الفور، لكني بعد دقائق وجدت السوق فلم أستطع تركه دون الولوج فيه، حيث يبدأ عند «موقف» عربات النقل العام.
انتقل السوق عدة مرات حتى وصل لهذا المكان منذ ست سنوات، فقد كان من قبل بمنطقة «أم بيومي» التي لم أعرفها يوما سوى من خلال صفحات الحوادث. ويعتبر وجهة صحيحة لمن يريد شراء «ستائر» أو «أقمشة تنجيد»، فتلك هي سِمته الرئيسة، إلى جانب بعض باعة الملابس والأدوات المنزلية. ولعل هذا ما يجعل الأمر صعبًا في التعامل مع «البلطجية» الذين يفرضون أرضيات على الباعة بمبالغ باهظة تصل أحيانا إلي 500 جنيه لكل منهم، فإن لم يدفعوا؛ «عود كبريت» كفيل بإشعال النيران في تلك الأقمشة وحرق السوق.
يأتي الباعة من قرى القليوبية ومراكزها والمناطق المحيطة كالساحل والجيزة. بعضهم يذهب لأسواق أخرى خلال الأسبوع. أمنيتهم أن تتدخل الحكومة لتنظيم السوق ومنع البلطجية عنهم، ولا مانع لديهم أن يدفعوا ثمن الأرضيات؛ لكن للدولة.

مولد ديرب نجم
في محافظة الشرقية؛ يقام يوم الأحد بمدينة ديرب نجم سوق كبير خاص ببيع المواشي والأسماك والخضراوات والملابس والأدوات المنزلية، يشغل الطريق العام ويسبب ازدحام مروري منذ الصباح الباكر وحتى انتهائه مع الغروب، إضافة إلى ما يخلِّفه الباعة من فضلات بضائعهم ومواشيهم، التي تساعد بدورها على انتشار الحشرات والبعوض، وبالتالي الأمراض. لذا يفضل الكثيرون البقاء بالبيت في هذا اليوم، لكن ذلك يصعب على المرتبطين بوظائف نظامية أو جداول دراسية.
الميزاب الشامل
داخل محافظة المسارحة بجازان في السعودية، يقام سوق «الميزاب» يوم الأحد، وهو واحد من أهم الأسواق التراثية الشعبية، يفوح من جنباته عبق التاريخ، فيجذب عددًا كبيرًا من المتسوقين من داخل المنطقة وخارجها حتى الحدود الشمالية لليمن، حيث يباع فيه جميع المنتجات الزراعية والصناعية والحيوانية والحرفية بأسعار مناسبة.
سويقة نهر بيروت
سوق الأحد الشعبي في بيروت الشرقية؛ من أشهر الأسواق في لبنان، الذي يقام أسبوعيا بالقرب من نهر بيروت. يباع فيه ملابس وتحف مستعملة وكتب وخرز وحُلي، بأثمان بسيطة. يبدأ التجهيز له من يوم الجمعة. لكن انتشار الفوضى والسرقة فيه، جعلت الكثير من الأصوات تتعالى مطالبة بإغلاقه.
الاثنين: كرداسة وطنطا ضد الغلاء
قبل أن تخطو قدمي سوق الاثنين بكرداسة؛ سمعت كثيرًا عن أنه يحوي كل شيء من الإبرة للصاروخ. فهو واحد من أكبر الأسواق على مستوى محافظة الجيزة، يضم بالفعل جميع أنواع المنتجات. لا يقتصر فقط على شارع، وإنما يمتد ليشمل المدينة بأكملها، بطولها وعرضها، ويتوافد عليه الآلاف من جميع البلدان والقرى، حيث يشتهر بانخفاض أسعاره، رغم أنه لم يعد مثل السابق، فهو تأثر كحال كل شيء بالغلاء.
يُباع في السوق كل شيء؛ بدءًا من الخضراوات والفاكهة والملابس والمفروشات والأدوات المنزلية والأواني الفخارية وغيرها من البضائع. خُلقوا سكانه فوجدوه، حيث كان سوقًا اعتياديًا منذ ما يزيد على ستين عامًا، قبل أن يصبح أسبوعيًا ومتشعبًا بهذا الشكل.
عابدين يبحث عن مكان
يقام سوق الاثنين بمنطقة عابدين منذ سنوات طويلة. يأتي إليه الباعة ببضائعهم من خضراوات وفاكهة للبحث عن الرزق. لكنه اتسم بالعشوائية، فقررت محافظة القاهرة قبل عشرين عامًا تنظيمه وتخصيص باكيات للباعة ليصبح نموذجيًا، لكن الأمر فشل في غضون شهور قليلة وعمّت الفوضى المكان مرة أخرى، وتعلل الباعة بأن الباكيات المخصصة لهم مساحتها ضيقة ولا تتسع لهم أو لبضائعهم.
ريف الشهيد
يعتبر سوق الاثنين بمنطقة الشهيد في حي غرب سوهاج من أقدم الأسواق على مستوى المحافظة. يعود تاريخه لأكثر من خمسين عامًا مضت. اعتاد الباعة وأهالى القرى التجمع فيه منذ سنوات طويلة لبيع المنتجات الريفية من سمن وجبن وبيض وطيور بمختلف أنواعها، بالإضافة إلى الأقمشة. في الماضي كانت المنطقة بدائية وعدد سكانها قليلا، فلم تكن هناك مشكلة، لكن مع انتشار بناء الأبراج السكنية وما تضمه من أهالي، أصاب الزحام المنطقة وتكدَّست بها السيارات، وعمَّت الفوضى جنباتها، رغم أنها من المدن الحضارية والمتطورة في المحافظة.
فقراء السيد البدوي
في طنطا؛ يقام سوق الاثنين أو «سوق الغلابة» في منطقة العجيزي خلف المساكن الشعبية، تنخفض أسعار بضاعته عن الموجودة ببقية الأسواق سواء كانت جديدة أو مستعملة، حيث تبدأ من جنيه واحد وحتى بضع عشرات. يُباع فيه كل ما يبحث عنه الأهالى من بضائع كالآلات والمعدات والملابس والمواد الغذائية وأدوات الكهرباء وقطع غيار السيارات والعجل والموتوسيكلات ولوازم النجارة والحدادة والسباكة ولعب الأطفال والأحذية وغيرها من لوازم البناء والمعمار.
يفترش الباعة أرض السوق لعرض بضائعهم لعدم قدرتهم على استئجار المحلات، وينتشر في هذا اليوم بائعو الأطعمة والعصائر، في ظل غياب الرقابة تماما؛ سواء على الأسعار أو البضائع أو البائعين، ويسود فيه شعار «البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل».
ريح الحجاز الزكية
يقام سوق الاثنين بمنطقة جازان في محافظة صامطة، ويمتاز بموقعه الاستراتيجي الواقع على الطريق الدولي الرابط بين السعودية واليمن، كما تنتشر في بدايته الزهور والفل والريحان، مما يجعله متفردا عن الأسواق الأخرى، حيث يزوره عدد كبير من أهالى المنطقة والسياح، يشترون ما يحتاجون من سلع ويستنشقون الهواء المعبق بتلك الروائح الزكية.
النساء يمتنعن في «برشيد»
على ظهور دوابهم؛ يأتي بعض الفلاحين من سكان منطقة برشيد في الدار البيضاء بالمغرب، ويأتي البقية بالسيارات، لاقتناء البضائع من سوق الاثنين، الذي يشتهر ببيع مختلف المنتجات الفلاحية كالأسمدة والأدوية البيطرية والزراعية والشتلات. إضافة إلى الملابس والأحذية والأواني المستوردة من أوروبا، والخضراوات واللحوم والحليب والمواشي والدواب.
لا تذهب النساء إلى السوق إلا نادرا، حيث لا تسمح التقاليد هناك بذلك، فالتسوق مهمة الرجال، وإن ذهبت هي فيكون لشراء مستلزماتها الخاصة مثل الصوف الذي تستعمله لنسج السجاد والأغطية.
تسوق في المخيم
سوق النصيرات بقطاع غزة في فلسطين؛ يُقام على مساحة 50 ألف كم مربع على أرض تقبع في وسط المخيم، تم نقله إليها في 2012 . يباع فيه الملابس والخضراوات والفاكهة والحلويات والأدوات المنزلية وغيرها من البضائع.
الثلاثاء: العمرانية استثناء
إذا نزلت إلى شارع الزهراء بالعمرانية باكرًا مع شروق الشمس، ستجد البائعين القادمين من أرياف مراكز الجيزة المختلفة كأبو النمرس والحوامدية والبدرشين والصف وأطفيح، والمحافظات مثل بني سويف؛ ينقلون بضائعهم من السيارات و«التروسيكلات» و«التكاتك» إلى الطريق لفرشها على جانبيه. ومع توافد الناس يبدأ الباعة في النداء. على عكس معظم أسواق القاهرة الشعبية؛ لا يعاني سوق العمرانية من البلطجة أو فرض الأرضيات، فهو يشبه إلى حد كبير سوق ميت عقبة في طابع منتجاته الريفية، حيث تباع فيه الطيور التي يربيها الباعة في بيوتهم، والفول النابت والشعرية و«الكِشك» و«البتاو» والجبن والفطائر. بالإضافة إلى الخضراوات والفاكهة.
سوق التكاتك
على طول شارع ترعة عبد العال 2، المتفرع من شارع العشرين بفيصل؛ يمتد «سوق الثلاثاء» بمنطقة بولاق الدكرور، الذي كان يقبع في المساكن القديمة بالمنيب، وانتقل لهذا الموقع منذ 12 عامًا. يقام من باب «العادة»، لأنه من ناحية الأهمية؛ فَقَد الكثير منها بسبب وجود سوق دائم على القرب منه ويبيع نفس منتجاته وبنفس الأسعار.
يفترش الباعة الرصيف وناصية الشارع، وترتفع أصواتهم منادين ببضائعهم، وسط سيل من «التكاتك» تحتل المكان ويستقلها المتسوقون، والتي تساهم أحيانًا في شل حركة المرور، إلى جانب المشاجرات التي تنشب خلال اليوم بين المتواجدين في السوق، حيث ينتشر «البلطجية» الذين يفرضون أرضيات على البائعين، تبدأ من 40 جنيهًا وحتى 300، على حسب المساحة التي يشغلها «الفرش» الخاص بكل بائع.
بالة وبلدية
بأرخص الأسعار؛ تباع جميع المنتجات في سوق الثلاثاء بالمرج القديمة، من ملابس قديمة وجديدة «بالة مستوردة»، وأجهزة كهربائية وأدوات صحية، وغيرها من السلع. لكنه كسوق بولاق السابق؛ يعاني من وجود البلطجية، الذين يسرقون البضائع أحيانًا. إلى جانب «البلدية» التي تهاجم الباعة من حين لآخر، رغم أنهم يرغبون في تقنين وضع السوق وفرض إيجار عليهم، مقابل حمايتهم وتوفير الأمان لهم أثناء البيع.
بدو البحر الأبيض
سوق الثلاثاء في العامرية هو أول وأكبر أسواق الإسكندرية، المخصص له سيارات أجرة في «موقف» المدينة لمن يريد الذهاب إلى هناك. ينقسم إلى عدد من الأسواق الفرعية التي يختص كل منها ببيع سلع مختلفة، فهناك واحد للخضار والفاكهة، وآخر للمواد التموينية، وثالث للأسماك، وغيرهم للطيور والدواجن، واللحوم، والأقمشة والملابس، وقطع غيار السيارات، والبلاستيكيات. ومعظم زبائن السوق من البدو العرب والقادمين من المناطق الصحراوية.

وارد أوروبا بالهاشمية
في منطقة المقابلين بعمان؛ يبدأ الباعة بالتوافد على سوق الثلاثاء ما بين الثامنة والتاسعة صباحًا، والذي يستمر لما بعد المغرب. تميز بضائعه الملابس المستعملة الأوروبية ذات الماركات العالمية «البالة»، التي يتم استيرادها من أمريكا عن طريق ميناء العقبة وتباع بأسعار منخفضة، لذلك يقبل عليه المواطنون من كافة الطبقات الاجتماعية.

مائتا بسطة ودكان
تحظى محافظة صبيا بمنطقة جازان السعودية بكثافة سكانية عالية، مما يجعل سوق الثلاثاء بها من أكثر الأسواق ازدحامًا، خاصة في فترة الصباح، حيث يقبل عليه أهالى القرى والمناطق المجاورة.
يعد هذا السوق من الأسواق التراثية، مثل سوق الثلاثاء في مدينة أبها بالجنوب، فهو أيضا من أقدم الأسواق الشعبية بالمنطقة، الذي يضم بداخله أكثر من مائتي دكان وبسطة يعرض فيها الباعة منتجاتهم بشكل منظم.

الأربعاء: بين النقيضين في بدر والبدرشين
كثير من الباعة في مصر لا يفضِّلون العمل في هذا اليوم، فهو لا تكثُر فيه الأسواق، إضافة إلى أن أسواقه لا تناسب بضائعهم، ولا يقبل عليها الأهالي. ففي مدينة بدر يتسم سوق الأربعاء بالنظام والنظافة، حيث ترعاه المحافظة، فلا يوجد به بلطجية أو أرضيات، وإن حدث تتواجد الشرطة في الحال. يبحث سكانه عن المنتج الجيد، وتنزل له الشركات والمحلات المعروفة لبيع منتجاتها. أما البدرشين، التي يقام سوقها بشارع عباس عناني؛ فعلى العكس، يعاني أهلها من الفقر، مما يجعلهم «يفاصلون» كثيرًا، ورغم أنه يعد من الأسواق الكبيرة، لكن أكثر المنتجات بيعًا به هي الأطعمة والأدوات البسيطة، حيث يذهب إليه بياعو العجوة والبلاستيكيات.

رجال ونساء النجع
في قرية القمانة بشمال غرب مدينة نجع حمادي؛ يقام سوق الأربعاء منذ أكثر ما يقرب من 150 عامًا، ويختص كل شارع فيها ببيع نوع من المنتجات. في مدخلها يندر وجود النساء، حيث يقع سوق الماشية الذي يطغى عليه الطابع الذكوري، على عكس المنتجات الفلاحية كالجبن والبيض، التي تبيعها النساء المرتديات «البردة» ــ وهي زي صعيدي عبارة عن قطعة قماش من الصوف، تغطي السيدة من الرأس حتى القدمين، فلا يظهر منها شيء ــ ولا يوجد بينهم رجال. كما يوجد بالسوق أقسام لبيع الطيور والملابس والأقمشة والأحذية البلاستيكية.

الحرفيين واللاجئين
تقام يوم الأربعاء أسواق بالدارالبيضاء في المغرب والموصل بالعراق والأحساء في فلسطين، يباع فيهم كافة المواد الغذائية والمحاصيل الزراعية المختلفة، إلى جانب الصناعات اليدوية والطيور وبعض المنسوجات والملابس والمأكولات الشعبية.
أما في لبنان؛ فالأمر يختلف بعض الشيء، حيث أن سوق الأربعاء هناك هو مركز من مراكز جمعية «بنك سعادة السماء»، الذي يقوم فيه عدد من المتطوعين بجمع التبرعات التي تصلهم على مدار الأسبوع من مأكولات وملابس وألعاب، وعرضها بالمجان للمحتاجين من مختلف الجنسيات العربية، حيث يساهم هذا السوق في سد احتياجات مئات العائلات، خاصة بعد زيادة نسبة اللاجئين إلى لبنان.

الخميس: غابة رضا وشركاه في المطرية
زحام شديد .. سيارات و«تكاتك» وعربات نقل عام، تحاول جميعها المرور بين الناس، الذين يتكدسون أمام مسجد الأنوار المحمدية، حيث يبدأ سوق الخميس بالمطرية، يتفقدون الملابس والمفروشات والأحذية والأدوات المنزلية التي يفترش بها الباعة.
على بُعد خطوات يجلس أحمد صالح الشهير بـ«أبو عمران»؛ يفترش الرصيف الأوسط في الشارع، وسط بضاعته من الحقائب مختلفة الأشكال والاستخدامات، التي يشتريها من المستوردين بأسعار أقل كثيرا من قيمة السلعة الأصلية، بسبب بعض العيوب البسيطة التي تشوبها، والتي تجعلها خارج تصنيف الفرز الأول المصدَّر لأوروبا أو أمريكا، فيحصل عليها المستوردون المصريون بأثمان زهيدة.
نزل أبو عمران في كل الأسواق، لكنه اختار ثلاثة فقط هم الأفضل بالنسبة له، وبقية الأسبوع يقضيه في البيت إجازة، معتمدًا على ما جناه في أيام عمله، حيث يؤكد أن أقل مبلغ يمكن كسبه في اليوم بالسوق هو مائة جنيه، بينما الأيام العادية يتراوح مكسبها ما بين 250 إلى 500 جنيه، على حسب إقبال الناس والسوق؛ فهو يزيد أو يخفض من ثمن البضاعة من سوق لآخر تماشيا مع أحوال أهالى المنطقة.
وصف أبو عمران السوق بـ«الغابة». لم أعرف مقصده سوى بعد رؤيتي لـ«رضا»، أحد بلطجية السوق، الذي يمر على الباعة ويأخذ منهم نقودا مقابل أرضية دون وجه حق، لكنهم لا يستطيعون الرفض خوفًا على أنفسهم وعلى بضاعتهم.
بعض الباعة شباب حاصلين على مؤهلات جامعية، لكنهم لم يجدوا عملا، فينزلون السوق بشكل مؤقت إلى أن يتم توظيفهم بإحدى الشركات أو المؤسسات. لكن الكثيرين، مثل أبو عمران، يفضلون العمل الحر حتى لا يتحكم فيهم أحد. وهناك من ينزل ليكون عونًا لأهله مثل «نسمة» التي لم أتمكن من معرفة قصتها سوى في سوق الجمعة.
يتخلل سوق المطرية عددًا من المؤسسات الخدمية والهيئات الحكومية التي تتأثر به بالتأكيد، كمستشفى المطرية التعليمي، والمعهد القومي للكلى والمسالك البولية، ومدارس العقاد الابتدائية، والمحمدية الابتدائية، وبلال بن رباح الابتدائية، وجمال عبد الناصر الإعدادية. لكن السوق أصبح كالأمر الواقع الذي يصعب التخلص منه.

مزارات على الحدود
على الحدود السعودية اليمنية؛ يقام سوق الخوبة أو الخميس بمحافظة الحرث، ويشتهر ببيع الصقور والحيوانات المفترسة والأدوات اللازمة لتربيته، لذلك يعتبر من الأسواق السياحية المهمة بالمملكة.
ومن أشهر أسواق الخميس على نفس الحدود أيضا؛ سوق القطيف بالمنطقة الشرقية، الذي احتفظ بمكانته رغم انتقاله إلى يوم السبت بعد قرار تغيير يومي الإجازة إلى الجمعة والسبت بدلا من الخميس والجمعة. يمتد عمره لأكثر من مائة عام حسب روايات بعض الأهالي، وثلاثمائة عام حسب روايات أخرى. يضم أدوات التراث الشعبي القديم التي كانت تصنع في الماضي مثل الأواني الفخارية والخواتيم والمسابح وغيرها، والصناعات الخشبية البسيطة التي تستخدم للزينة والديكور، كما يوجد به مكان لبيع الطيور بأنواعها المختلفة، والكلاب والثعابين. ومن أبرز مظاهر السوق أن جميع الباعة فيه - رجالا ونساء - من كبار السن، يفترش غالبيتهم أرضه المكشوفة إلا جزء منهم تغطيه المظلات، ويتنافسون في الأسعار لجذب المتسوقين.
في المنطقة الشرقية كذلك؛ يقام سوق بمحافظة النعيرية كل يوم خميس منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. ويتوافد عليه الكثير من السياح من جنسيات مختلفة، الذين يعملون في الشركات المنتشرة في الجبيل والخبر والظهران والدمام، وينظمون رحلات لزيارة السوق، الذي يضم عددًا من الأسواق الفرعية بداخله، منها ما يتضمن منتجات خاصة بالنساء وآخر للرجال، وغيرهما لبيع الغنم، والتمور، والحمام.
الجمعة: أبو الأسواق
سوق الجمعة من أشهر الأسواق في مصر والعالم العربي، حيث تقام عشرات الأسواق بالمحافظات والمدن المختلفة في هذا اليوم. ويعد السيدة عائشة؛ السوق الأكبر في مصر، به ــ حقا ــ كل ما يمكن للمرء شراؤه، أو بيعه. إذا كنت من هواة الحيوانات الأليفة فهذا السوق وجهتك الصحيحة. يضم جميع الحيوانات التي يمكن اقتناؤها في المنزل كالقطط والكلاب والسلاحف والطيور والأسماك والثعابين.
لا ينزل هذا السوق الباعة من التجار فقط؛ وإنما أيضا من يريد بيع أي شيء لديه، سواء حيوانات أو منتجات أو صناعات. فنجد من القليوبية أحد مدرسي اللغة العربية الذي اضطره الغلاء إلى أن يأتي ليبيع بعض الأرانب التي يربيها، إلى جانب نزوله لسوقين آخرين في المحافظة.
وآخر في مقتبل العشرينات يحمل قطًا يغلب عليه اللون الرمادي، جاء يعرضه للبيع بنصيحة من أصدقائه. وبجانبه تجلس سيدة ذات عباءة سوداء؛ جمعت عددًا من القطط «البلدي» ونظفتهم وجاءت لتبيعهم، مؤكدة أنهم ذات أصول عالية!
وبين شوارع المنطقة يتجول أصحاب الكلاب ذهابًا وإيابًا في أنحاء السوق المختلفة.
بعد مسافة طويلة، يبدأ باعة الطيور في الظهور، فمنهم من يأتي منذ ثلاثين عامًا وآخرين منذ ما يقرب من نصف قرن. يدفع كل منهم إيجار لصاحب المحل أو البيت الذي يفترش أمامه بالأقفاص، ويقدَّر مكان «القفص» الواحد بعشرة جنيهات.
كلما توغلت في الداخل والشوارع الجانبية تجد سلعًا أخرى، فهناك الملابس والأحذية والروبابيكيا وأدوات الصيانة والأجهزة الكهربائية والهواتف المحمولة والعملات القديمة، وغيرها مما قد يخطر ببالك أو لا يخطر.
ينادي الباعة على بضائعهم بأصوات عالية. البعض منهم يستعين بـ«الطبلة» و«الدُف»، وبعضهم تشعر وكأنه يحدِّث نفسه مما يبدو على وجهه من هَّم وإحباط.
في أحد الشوارع تقف «نسمة» التي رأيتها في سوق الخميس بالمطرية، وأمامها «الحصّالات» نفسها التي كانت تبيعها هناك، اقتربت منها فأهدتني ابتسامة بريئة، وطمأنت قلبي حين أخبرتني أنها في المرحلة الإعدادية وتذهب للمدرسة، تنزل فقط في الإجازات مع والدها لتساعده، فهو من يصنع تلك الحصّالات، لكنه يقف في مكان آخر بالسوق.
في نفس التوقيت يقام بمنطقة المنيرة الشرقية في إمبابة سوق جمعة آخر، لكن الكثير من الباعة لا يفضلونه لانتشار البلطجية واللصوص فيه. منذ أسابيع قليلة شبَّ به حريق هائل التهم ما يزيد على 50 محل ملابس وباكية، فالأقمشة جعلت النيران تنتشر بشكل أكبر، وهو ما خلَّف كارثة اقتصادية لم يتعافى السوق منها بعد.

بضائع على القضبان
بمجرد نزول المرء من بيته، تزداد نسبة الخطر على حياته، نظرًا لأن معدل الأمان في الشارع أقل. في بعض محافظات مصر يذهب باعة الأسواق الأسبوعية للخطر بأرجلهم من أجل كسب لقمة العيش، حيث يفترشون قضبان السكك الحديدية بشكل عشوائي، لا يفصل بينهم وبين عجلات القطار سوى نصف متر. أحيانًا بصحبة بضائعهم فقط، وأحيان أخرى يزيد عليهم حميرهم وبغالهم، مما يتسبب في تعطيل حركة القطارات وإحداث تكدُّس مروري.
من هذه الأسواق؛ سوق الأحد بشبين القناطر في محافظة القليوبية، الذي يرفضه الأهالي، مؤكدين أنهم ليسوا في حاجة له، وأن البضائع التي تباع فيه رديئة، وينتشر اللصوص خلاله. ومثله سوق الأحد بمنشية ناصر، الذي يعاني فيه الباعة ولا يأتي إليه المشترون إلا نادرًا.
وفي يوم الاثنين؛ هناك السوق القومي لقليوب البلد وما حولها من قرى، الذي تزيد «التكاتك» فيه من خطورة الوضع، حيث تقف على القضيب، ومعها تزداد نسبة الحوادث. أما سوق عزبة البرنس ببنها فقد تقرر نقله من مكانه الملاصق منذ سنوات لشريط السكك الحديدية بمنطقة المنشية إلى منطقة الحرس الوطني في مدخل المدينة، لأنه يتسبب في تعطيل الحركة المرورية للسيارات ويفقد المواطنون السير الآمن في الشوارع، لكن البائعين رفضوا تنفيذ قرار المحافظ بسبب ازدحام المنطقة الأخرى بالمباني ومواقف السيارات، فضلا عن بُعد الموقع الجديد عن المدينة مقارنة بالسوق القديم الذي يقع في قلب بنها، مما سيتسبب في ركود حركة البيع والتي كانت تعتمد في المقام الأول على الكثافة السكنية العالية بمنطقة المنشية.
ومثله؛ فقد تم ترحيل سوق الأربعاء بقويسنا في المنوفية بعيدًا عن منطقة نفق السكة الحديد إلى شارع العهد الجديد، لتيسير الحركة المرورية في المنطقة، والحفاظ على حياة المواطنين وتوفير الجو الآمن للبيع والشراء.
أما سوق الخميس بطوخ في القليوبية، فيتسبب في حالة من الارتباك والتكدُّس المروري ويصيب المدينة بالشلل التام وتكرار الحوادث. كل ذلك تحت سمع وبصر المسئولين دون اتخاذ أي إجراء، رغم أن المزلقان الذي يفترشه الباعة ببضائعهم هو السبيل الوحيد لعبور المواطنين إلى الجهة الأخرى، حيث يقع بجانبه مواقف سيارات الأجرة للعديد من القرى.
مدن تستعير أسماء أسواقها
لم يتوقف الأمر عند الأسواق الأسبوعية التي تحمل اسم اليوم الذي تقام فيه، وإنما هناك مدن وبلديات تحمل بأكملها اسم سوق، من بينها مدينة «سوق السبت أولاد نمة» بالمغرب، التي تقع بإقليم الفقيه بن صالح (إقليم بني ملال سابقا)، وتعتبر أكبر سوق أسبوعي تقليدي هناك. أهم قطاع تجاري بها هو المنتجات الفلاحية، التي تعد المورد الأساسي لمعيشة سكانها، بالإضافة إلى المواشي، حيث تحيط بها أراضي كثيرة. وكان معمل السكر من أهم ركائزها الاقتصادية الذي يحقق أرباحًا للمدينة بالملايين ويعمل به أغلب أبنائها، لكنه أُغلق منذ سنوات.
وفي طرابلس بليبيا؛ تقع بلدية «سوق الأحد» التي يعيش بها عددًا من القبائل، ويقام فيها سوق في كل يوم، لكن سوق الأحد هو الأقدم. تحمل الاسم نفسه - أيضا - إحدي مدن الجمهورية التونسية، التي أُنشِئت في عهد الحماية الفرنسية، في مكان يتوسط ثلاث قرى هي بوعبدالله والقليعة والمنشية، وقد أقيمت بها بلدية عام 1986. أما «سوق الاثنين» فهي إحدى دوائر ولاية بجاية الجزائرية، يبلغ عدد سكانها أكثر من 33 ألف نسمة وعاصمتها هي ملبو وتضم 3 بلديات هي ملبو، سوق الاثنين، وتامريجت.
في محافظة كفر الشيخ بمصر؛ تحمل إحدى القرى اسم «سوق الثلاثاء». وكذلك في المغرب بإقليم القنيطرة الساحلي. بالإضافة إلى إحدي بلديات ولاية تلمسان الجزائرية.
كان «سوق الأربعاء» هو الاسم القديم لمدينة جندوبة بالجمهورية التونسية، وهو أيضا مدينة مغربية تضم عددا كبيرا من الأحياء.
في الجزائر توجد بلديتان تحملان اسم «سوق الخميس»، الأولى بولاية البويرة والأخرى بولاية تلمسان، بالإضافة إلى قرية مغربية تنتمي لإقليم تنغير.
وفي تونس أربع قرى تسمى بـ«سوق الجمعة» في ولايات بنزرت وجندوبة وسليانة. إلى جانب ضاحية في مدينة طرابلس بليبيا.
«أسواق المبدعين».. ماضٍ مُلبّد بالحنين!
وسط آلاف البشر الذين يمرون عليها أسبوعيًا في بلدان مختلفة، نجحت الأسواق في اجتذاب زائرين استثنائين. بشر عاديون على مستوى الشكل؟ نعم. لكنهم مبدعون، قد يكون مرورهم عابرًا ينتهي بعد انقضاء الهدف من الزيارة، وربما يتحول إلى قصة حب لمكان احتل مكانة استثنائية في الذاكرة. هنا يتحول السوق من مجرد كونه مكانًا للبيع والشراء إلى قصيدة أو قصة تستدعي ذكريات الماضي المليئة بالحنين، أو الواقع المملوء بالشجن. فتحنا خزائن ذكريات عدد من المبدعين المصريين والعرب، واستخرجنا بعض ما بها من «حكاوي الأسواق»!
خالد عزب: أسواق الثقافة والاقتصاد في الدلتا
هل كانت الأسواق لها روحها التي تعكس اقتصاد وثقافة المجتمع؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب من عاش مثلي في الفترة من ستينيات القرن العشرين إلى الآن، من تحولات عصر ما قبل الكهرباء في الريف إلى عصر الانترنت، في مطوبس محافظة كفر الشيخ، الأسواق منتظمة إلى حد كبير، فمطوبس - هذه القرية الكبيرة إلى سبعينيات القرن العشرين حيث صارت مدينة - كانت لهل سوق أسبوعي يقام كل يوم خميس من الصباح إلى المساء، هذا السوق بدأ منذ القرن 9هـ / 15م، على أغلب الظن، حيث يأتي القرويون من 50 قرية حول مطوبس محملين بالخضراوات والفواكه والحبوب والجبن والبيض واللبن ليبيعوها ويعودوا إلى قراهم بمستلزماتهم من أثاث وحلوى وبضائع مختلفة كل حسب حاجته.
لكن هذا السوق كان يشهد سوقا آخر موازيًا حيث يأتي تجار الذهب من مدينة فوة كل خميس ليبيعوا ويشتروا الذهب من أهالى مطوبس والقرى الأخري، كانت الدكاكين يؤجرونها من الأوقاف متراصة الواحد تلو الآخر، وظلوا يحتكرون تلك التجارة إلى تسعينيات القرن العشرين حيث أدرك سكان مطوبس كم هي مربحة هذه التجارة فعملوا بها.
من كان يمشي في مطوبس كان يرى أن هناك السوق الدائم، حيث محلات العطارة التي اشتهرت بها عائلة طه، وكان الفتى وهو صغير يقف أحيانًا عندهم ليلمح مجلات قديمة أو مستعملة كانوا يصنعون منها قراطيس لبيع البهارات بها، فيصر أن يشتري هذه المجلات منهم، فحصل لأول مرة في حياته على مجلة الفيصل ومجلة المجلة ومجلة العربي وغيرها بأثمنة قليلة.
كانت مطوبس مستمرة على طقوس العصور الوسطى، فالحدادون كما هم والنحاسون كما هم، كما كان بعض من يعملون في جلي وتبييض النحاس يطوفون بالشوارع ليقوموا بذلك للسيدات أمام بيوتهن، لكن من اللافت أن القرية كانت تعرف الأسرة الممتدة، حيث الأبناء يسكنون ويتزوجون في منزل أبيهم وحيث بساطة جهاز العروس وبساطة الحياة، إلى أن غزاها الترف وحب التنافس، فكان النجارون يصنعون صناديق ملونة لوضع متاع وملابس العروسة، وإلى أواخر السبعينيات كنت ترى هذا الصندوق بألوانه البديعة ويشتريه الفلاحون منهم، لكنه اندثر، كما اندثرت من مطوبس صناعة الحصير والتي تبقى منها مكان واحد خلف الجامع الكبير سيدي عامر إلى وقت قريب.
إذا كانت هذه مطوبس فماذا عن فوة، المدينة الكبيرة نسبياً، والتي كانت في العصر المملوكي ميناء نهريًا كبيرًا يستقبل البضائع من الإسكندرية والقاهرة، ويعيد تصديرها إليهم حسب الطلب، فبها كانت ساحة كبيرة لتجارة الغلال بالجملة تتقدم مسجد أبو النجاة الجامع الذي يرتكز على شاطئ النيل والذي كان بداية الميناء، وفي فوة قيسارية تعود للعصر المملوكي بها محلات النحاسين والحدادين، وسوق للديوان به محلات كثيرة، وكان ريعها يذهب للديوان الخاص في العصر المملوكي حيث كان يصرف منه على السلطان وديوانه، ثم أن فوة كان بها تجار من فينيسيا والبندقية واليونان يشترون البضائع ويصدرونها، لكنك إن عدت إلى فوة المملوكية كنت ستجد صناعات تتخلل الأسواق وتعد أيضًا مراكز للتصدير إلى الخارج كصناعة السكر التي ورد بها مرسوم في مسجد حسن نصر الله وصناعة الزيت الحار وصناعة الكليم التي مازالت مستمرة إلى اليوم، وصناعة الأثاث والتي مازالت مستمرة إلى الآن، ويجيد أهل فوة تدميس الفول ويشتهرون بذلك حتى يأتي الغرباء ليأكلوه فيها، وإذا زرتها لابد وإنك ستشتري منها الفسيخ الذي تحتفظ فوة بسر صنعته إلى اليوم منذ عهد الفراعنة، وكبريات محلات الفسيخ في القاهرة تجلبه من هناك.
وإلى الشمال ستجد رشيد التي ازدهرت أسواقها في العصر العثماني بصورة أساسية، لكنني أستطيع أن أقف على طرق السداد في هذا الثغر التجاري الكبير، حيث تعددت الطرق خاصة في الصفقات الكبيرة، ومنها نظام التقسيط، والذي تعددت حالاته، وعرفناهم من سجلات المحكمة الشرعية حيث كان البائع والمشتري كلاهما يحرصان على تسجيل عقد البيع والشراء والأقساط ودفعاتها، وشهدنا تسجيل إبراء ذمة المشتري بعد سداده الثمن، وعلى الرغم من إفلاس عدد من التجار وعدم سدادهم، إلا أن نظام البيع بالتقسيط استمر واستقر كعرف بين تجار المدينة خاصة في الصفقات التجارية الكبيرة، بل إنه في بعض الصفقات يدفع المشتري جزءًا من الثمن وحين يبدأ في تصريف جزء من البضاعة يدفع باقي الثمن، لكن نجد أن نظام المقايضة كان ساريًا بين سكان رشيد كمقايضة بضائع مثل الأرز والدقيق، لكن الأعجب في رشيد هو ظهور شركات من شركاء متعددين ويسجلون شركاتهم في المحكمة ويمسكون دفاتر يومية، بل ويقيدون أرباحهم في تقرير أمام المحكمة يؤكد تقاسم الشركاء وفق نسب محددة.
ازدهرت في رشيد تجارة الأقمشة خاصة المستوردة من أوروبا على يد تجار من فرنسا أو إيطاليا يقيمون في رشيد، وكانت رشيد في العصر العثماني مركزا لتصدير هذه الأقمشة لأفريقيا واليمن وشبه الجزيرة العربية، وعرفت رشيد صناعة وتجارة المنسوجات الكتانية والقطنية والتي استوردتها منها مدن كبرشلونة ومرسيليا والبندقية، بل سجلت أصناف منها في نوتردام وأمستردام، ولهذا عدت رشيد مدينة صناعية تجارية زراعية في العصر العثماني، لكن في عصر محمد على ازدهرت الإسكندرية وهاجرت العديد من عائلات رشيد العريقة إليها.
أسواق رشيد إلى اليوم مازالت عامرة، بل نجد أن بعض العائلات تتوارث التجارة القديمة كعائلة شتا التي اشتهرت منذ القدم بتجارة الأقمشة، لكن لرشيد روح خاصة لن تجدها إلا في سوق السمك القريب من النهر، حيث يباع طازجًا بعد جلبه مباشرة من مراكب الصيد وفي الصيد ترى سمكة السردين الرشيدي تباع بكثافة والإقبال عليها كبير من أهالى رشيد والقادمين إليها.
لكنك ستتعجب عندما تشاهد هنا وهناك في رشيد يبيعون كل شيء مصنوعًا من جريد النخيل، الكراسي والمناضد والأسّرة وأقفاص نقل الخضراوات والفواكه، بل كانت نوافذ بيوت الفقراء تصنع منها.
لكن لهذه المدن الثلاث ما هو مشترك في أسواقها، كالمشترك بين عائلاتها، فتجد التجار في فوة ومطوبس يتصاهرون، كما التجار في مطوبس ورشيد يتصاهرون، فتتحول التجارة إلى شراكة اجتماعية أيضاً، وتجد مطوبس مركزا لتجارة الأرز وتوريده للمضارب خارج المحافظة وداخلها، فيما فوة مركز لصناعة الكليم وتصديره حتى خارج مصر، فيما احتفظت رشيد بصناعة المراكب كبيرها وصغيرها.
تبقى الزراعة وقود التجارة في هذه البلاد إلى السبعينيات، إلى أن سافر الفلاحون لإيطاليا والعراق واليونان ودول الخليج، فانتهت كثيرا من التقاليد الموروثة، كالزواج عقب حصاد القطن والأرز والذي يحدث رواجًا في أسواق المدن الثلاث، بل صار الزواج مرتبطًا بعودة الشباب من إيطاليا بصورة خاصة فارتفعت المهور وازدهرت تجارة الذهب، حتى رأيناها هي التجارة الرائجة، تحولت الأراضي الزراعية لبنايات خرسانية.
واندثر مع هذا مواكب الأطفال في رمضان يغنون الأهازيج ويطرقون الأبواب للحصول على الحلوى.
ارتبط السوق الأسبوعي في مطوبس بالبهجة حيث أن معظم السكان من التجار، الذين يحضرون اللحم للمنزل لإعداد وجبة الكبابي المحببة للجميع، فكنت كل يوم خميس تمر في الشوارع لتسمع صوت دق اللحم في الهون ثم دق الأرز معه مع البهارات ليصنع منه قطع دائرية الشكل رقيقة تسوى في مرق اللحم، ويأكل مع فتة الأرز.
بينما ارتبط التجار في رشيد بالأسماك واللحم المشوي، حتى عدت رشيد مبتكرة شواء الأسماك في أفران بالسوق، وإعداد الكباب والكفتة وكلما كان التاجر ذا وفرة أكلت أسرته اللحوم والأسماك، أما فوة فإنها مدينة الثراء الظاهر الخفي، حيث أن أهلها لا يظهرون ثراءهم، ليس بخلًا ولكن حرصًا على عدم جرح شعور الجيران والأقارب، لذا أنت لا تدرك إلى وقـت قريب ــ إذا كنت غريبا ــ من لديه وفرة ممن ليس لديه.
سمير الفيل: في دمياط.. قرش على قرش يصنع ثروة
فتحت عيني على أول سوق عرفته، وكان بيننا وبينه شارع جانبي واحد، وهو «سوق البلح» في وسط المدينة، وكان عبارة عن نسوة جالسات بالمشنات في موسم البلح والجوافة والليمون والمانجو البلدي. كل امرأة جالسة وأمامها عدة «مشنات»، تمسك بيدها مذبة من جريد، تهش على بضاعتها. الوزن كان وقتها بالأقة، لكن أغلب الصفقات كانت تباع بـ«الشروة» ـ أي مجموعة بلح وجوافة وليمون وبمبوظة، البيع عبر مساومات تبدأ بعرض المرأة البائعة للثمن الذي تريده، ثم يلقي الزبون مبلغا أقل بكثير مما هو مطلوب .. وبين الأخذ والعطاء يتوصل الطرفان إلى مبلغ معين، بالتراضي، يتم دفعه على الفور.
المبلغ بالنقود الفضية أو النحاسية، ولابد أن يبارك البائع للمشتري بصوت عال يسمعه كل من يمر بالسوق.
أمام هذا السوق يوجد بيت «حمص» وهو صاحب الطريقة الشاذلية بالمحافظة، يوم «السيارة» يرتدي أهل الطريقة أوشحة خضراء، ويحملون بيارق نحاسية، مثبت بها رايات حرير مطرز عليها أسماء الخلفاء الراشدين، ويسير الرجال يتطوحون في حلقات ذكر تسير على قدمين.
في مكان آخر بالمدينة، يوجد سوق القنطرة، أو سوق السمك الكبير، ويجلس فيه الرجال وحدهم لبيع الأسماك الطازجة القادمة من البحر المتوسط وهي الأعلى جودة، ويليها سمك البحيرة ـ بحيرة المنزلة ـ وأخيرا سمك النيل.
عشت زمن كانت الكابوريا تباع فيه بالصفيحة، حيث يبلغ سعرها حوالي سبعة أو ثماني قروش، أو أكثر قليلا، أما الجمبري فهو بالأقة وله موسم معلوم.
يوجد في ذلك السوق أسماك لذيذة الطعم بعد طهيها، منها البوري والدنيس والقاروص والموسى (الغطيان) والمرجان والمكرونة، والسيوف، أما سمك البلطي (الشبار) فهو أرخص الأسماك، والإقبال عليه شديد. وبالرغم من إلغاء وحدة «الأقة» ودخول «الكيلو» كوحدة وزن ـ تقريبا منذ الخمسينيات ـ فمن الغريب أن شراء السمك من الصيادين يباع حتى لحظتنا هذه بالأقة. ولقد ارتفعت الأسعار ارتفاعا رهيبا، وقد سجلت ذلك في عدة مدونات، فثمن كيلو الحنشان يبلغ حاليا 120 جنيها، والجمبري القزاز 180 جنيها، وغطيان الموسى 120 جنيها، والبربوني 160 جنيها، أما السردين البلدي المبروم فقد اختفى وحين يظهر على استحياء يباع الكيلو منه بحوالي 50 جنيها.
قرب السوق أنشئت عدة أفران لشوي السمك. والمرأة الدمياطية يمكنها عمل عدة أطباق من الصنف الواحد منه الصيادية (أشهر الأكلات)، والمقلي، والسنجاري، والمشوي، والصينية بالطماطم، وتوجد القراميط يعرفها الاجيال القديمة أما الشبان الجدد فينظرون نحوها في ارتياب واستغراب، وهو نفس ما يفعلونه مع سمك «أبوكرش» .
لم يكن هذا هو السوق الوحيد في المدينة، فهناك السوق الصغير، وهو موجود عند الطرف الآخر من المدينة قرب باب الحرس، وكان حتى عهد قريب يموج بالحركة لكنه أزيل بالكامل وأقيمت بدلا منه عمارات سكنية. لقد صدرت قرارات لمنع البيع بقلب المدينة وإقامة سوق كبير بقرية شطا غير أن سكان المدينة لا يذهبون إلى هناك إلا على نطاق ضيق جدا لأن المشوار بعيد. وقد جربت بنفسي الشراء من «شطا» المطلة على بحيرة المنزلة، فوجدت السعر أرخص، وفي الغالب لا يشتري من هناك سوى القادمون من مدينة بورسعيد أو الذاهبين إليها.
قرب السوق الصغير يوجد باعة الطيور المهاجرة وهم يبيعون بضاعتهم بـ«الطورة» وهي 4 فرد، ومن أشهر أنواع الطيور المهاجرة: السمان، الشرشير، البلبول، الحمراي، والغر (والصنف الأخير يطوله الزفر قليلا وغير مستساغ الطعم)، كما توجد العصافير وهي تباع منظفة بالكيلو. تحشى بطون الطيور بالبصل، مثلما تفعل نسوة دمياط وتسمى الأكلة بالمرتة.
وقد عم المدينة بيع السمان المجلوب من المزارع وهو رخيص نسبيا غير أن الشخص «الأكيل» لا يستسيغ مذاقه. وعموما فسوق الطيور المهاجرة كاد ينمحي من الذاكرة، وما يحدث حاليا أن البائعين يحملون طيورهم مشبوكة في حبال طويلة، يمرون بها على الأسطوات في ورش الموبيليات.
سوق الجمعة هو السوق الأكثر شهرة وازدحاما ويقام منذ فجر الجمعة، وهناك من يأتي ليبيت مساء الخميس ـ في الشارع ـ وفيه يمكن أن تشتري الفاكهة والخضر والحبوب ولبش القصب بأثمان معقولة جدا. كنت في طفولتي أشهد عملية بيع الملابس المستخدمة عن طريق مزاد بسيط حيث يعرض «هدهد» أشهر الباعة قطع الملابس مبينا مزاياها ويبدأ الزبائن في طرح الأسعار، ويستقر الثمن عند زبون معين هو من وصل إلى أعلى سعر. لقد كان المكان قريبا جدا من منطقة مقابر صلاح الدين ونقل إلى منطقة شبه مهجورة قريبا من المحور، لا يكاد يصل إليه سوى من يمتلك سيارة.
سوق الجمعة يشهد مجيء سيدات ومعهن ما ربين من بط وديوك رومية وأوز ودجاج بلدي، ويتم الشراء عن طريق « الفصال»، ولو أن الـ»الحوان» بيعت في محلات بأبواب وحوائط من السيراميك، لزادت البطة الواحدة ما بين 50 إلى 70 جنيها، لذا فسوق الجمعة له زبائنه.
وقد شهدت في صباي أغرب سوق يمكن تصوره وهو «سوق الحمير»، وكان يقام في مكان فضاء قرب حارة «معري» على مرمى حجر من الديزل الفرنساوي، وفيه يعرض الفلاح حماره، يقترب منه السماسرة إذا وجدوا هناك من يشتري، ولتسهيل عملية البيع يتكالبون على البائع ويضربونه ضربا مبرحا حتى يبارك. يسمى هؤلاء الباعة بالحنانوة ولا أدري سر هذه التسمية.
لا يمكن أن أذكر تلك الأسواق وأنسى أهم شارع في مدينة دمياط، بل في المحافظة كلها، وهو «شارع عبد الرحمن»، إنه شارع طويل يصل بين شارعي أبو الوفا وحارة البركة، وفيه تعرض أطقم السفرة والصالونات والسراير والمناضد وكل ما له صلة بعالم الموبيليات.
ميزة هذا السوق أنه لا يبيع إلا خشبًا أبيض ـ أي غير مطلي أو مدهون ـ كما أنه يبيع بكميات كبيرة، خاصة الأكسسوارات وخشب الستائر ومقاعد فردية وكراسي البلاج، والأسعار أقل منها في المعارض بشكل لا يقارن.
لقد عرف الزائرون شهرة الشارع، فتجدهم يأتون إليه من كل المحافظات فيشترون بعد التأكد من جودة المنتج، وهو ما يوفر لهم مبالغ طائلة.
بعد اتجاه الدولة لإنشاء مدينة للأثاث، هناك تخوف وقلق أن يؤدي ذلك لكساد الورش التي تبيع للزبائن بهامش ربح قليل للغاية، ومن المعروف أن أثمان المواد الخام من خشب زان وسويد وأبلكاش وغِرة ومسامير، قد زادت زيادة مرعبة مما أدى إلى إغلاق كثير من الورش أبوابها، وتحول عدد منها إلى مقاه يجلس فيها الطلاب بعد التزويغ من المدارس الثانوية أو الكليات، كما يجلس عليها العاطلون عن العمل وهي شريحة جديدة كانت تخلو منها دمياط حتى عهد قريب.
سوق القلل كان من أشهر أسواق المدينة، وفيه الأباريق والأزيار والقلل القناوي، ومعلق أمام كل محل قلل بها ماء مزهر ولكن في شهر رمضان تقلب القلل على أفواهها نكاية في المفطرين، حتى لا يصبح بها ماء وتملأ قبل الإفطار بساعة، كان هذا السوق ملاصقا لسوق الخضر الذي ما زال يعمل لكن زبائنه قليلة للغاية حيث تحولت أغلب شوارع دمياط القديمة خاصة بعد ثورة يناير 2011 إلى أسواق تسد على الناس أبواب محلاتهم، فتمنع مرور المارة. تقوم البلدية بحملات الإزالة وبعد انتهاء الحملة تعود ريما لعادتها القديمة.
يوجد سوق 6 أكتوبر وهو متخصص في الملابس الجاهزة والأقمشة والستائر وأغلب زواره من النساء خاصة العرائس، والأثمان فيه متهاودة وهو يلاصق المقابر التي تؤدي إلى جامع أبوالمعاطي، أشهر مقام في المدينة والرجل كان قادما من المغرب ليحج ومات في هذه البقعة فأقيم مقامه ولصيق به مسجد عمرو بن العاص وهو من أقدم جوامع مصر، كان قد تهدم وأعيد بناؤه على يد الدكتور زاهي حواس ابن قرية العبيدية مركز فارسكور.
لابد أن نذكر أن أشهر شارع في دمياط اسمه «سوق الحسبة» وهو يشق المدينة إلى شمال وجنوب، وفيه يقع مقهى «شاهين» الذي تعلق على حوائطه صور جمال عبد الناصر يسير مع حمدي عاشور على لسان رأس البر سنة 1960، كان يجلس عليه طاهر أبو فاشا عندما يهبط مدينته ليقضي أوقاتا سعيدة مع رفاق طفولته الشقية.
في كل شارع مما ذكرنا: تاريخ وذكريات وملامح !.
فؤاد حجازي: السوق تجربة حية ينقصها التنظيم
أهم سوق في المنصورة هو سوق «الثلاثاء»، وكان في الأصل سوقا لبيع البهائم بشارع الجلاء، وباقي أيام الأسبوع تُستغل أرضه كملعب لكرة القدم، ثم سُحبت الأرض لبناء عمارات سكنية، وانتقل المسمى فقط دون البهائم إلى ميدان الشيخ حسنين، وهو أقدم ميدان منذ أنشئت المدينة قبل سبعمائة وخمسين عاما، وقد رأيت صورته بهيئته الحالية في معرض أقامه المركز الفرنسي هنا أيام حملة ملك فرنسا على مصر، وتغيرت فقط أرضه المتربة إلى أرض مسفلتة.
ينقسم هذا السوق إلى ثلاثة أقسام: الأول وهو في الميدان وأجزاء من شارعي سندوب والسلخانة المتفرعين منه، لبيع منتجات الريف المحيط بالمدينة حيث تحضر الفلاحات لبيع منتجات الألبان كالجبن القريش والزبد، وكذا الفطير والعيش الفلاحي وبعض الخضر والفاكهة، والدواجن، والبصل والثوم، وميزة هذه المنتجات أنها طازجة، فهي من المنتج إلى المستهلك مباشرة دون وسيط مثل ما يباع بسوق الخضر والفاكهة المجاور للميدان، ولذلك كانت أسعارها منخفضة نسبيا، أما الآن وبعد موجات الغلاء المتسارعة فقد اختفت هذه الميزة.
الثاني وهو في شارع آخر متفرع من الميدان حتى شارع بورسعيد لبيع الحمام، وهو ليس للأكل، وإنما لهواة تطيير الحمام من الأبراج الخشبية فوق أسطح العمارات.. وهي هواية لطيفة حيث لكل برج علم خاص به، يقضي صاحبه ساعة المغربية باستدعاء الحمام بالتلويح له بالعلم، والحمام يداعبه بالطيران محلقا حول البرج، ساعة آتيا وساعة آبيا.. حتى يستجيب في النهاية لنداء المبيت.. وهواة هذا الحمام يعرفون أنواعه ومميزات كل نوع ويتاجرون به في السوق ويستفيدون بجزء من بيضه كطعام، والمساومات على أشدها بين الشباب والسوق لاقتناء أحسن أنواعها والاستفادة بفرق السعر.
والثالث على الحافة الأخرى من الميدان، جهة الشرق لبيع الملابس المستعملة والأدوات الكهربائية والمنزلية والساعات وآلات التزيين القديمة، والمجلات والكتب، وروادها من أصحاب المحال الذين يستفيدون من بعض قطع الأدوات كقطع غيار، والفقراء يستفيدون من شراء الملابس والأحذية الرخيصة، وكذا الباحث عن كتاب قديم أو مجلة قد يجد بغيته.
لا شك أن السوق مهمة في تلبية احتياجات بعض الفقراء وكذا لهواة انتقاء أشياء قديمة «أنتيكات»، للاحتفاظ بها أو إعادة بيعها في مكان آخر بسعر مرتفع، وكذا السوق مفيدة لتلاقي قطاع من الشباب لممارسة هوايته في تربية الحمام.
وأرى تنمية السوق بتنظيمه، فالزحام على أشده ولا يستطيع السائل أن يمشي فيه دون أن يحتك بآخرين، وأرى تخصيص مكان لبيع الكتب والمجلات القديمة ودعوة أصحاب المكتبات ودور النشر لعرض أي مرتجع من كتبهم في هذا السوق، كما أرى أن يقوم المجلس المحلي بالاتفاق مع الفلاحات بتخصيص مكان لعرض ما يتبقى من بضاعتهن طوال الأسبوع، ربما ساهم ذلك في خفض السعر مرة أخرى، كما أنه يساهم لو تم في تخفيف الزحام يوم السوق، ويمكن للشباب عمل مشروعات تجارية بسيطة مثل بيع المثلجات وعمل عربات لبيع السندوتشات، وكذا عمل كتيب بأنواع الحمام وطريقة تربيته لجذب قطاع أكبرمن الشباب لهذه الهواية اللطيفة.
أخيرا؛ فالسوق كتجربة حية لعرض البضاعة من المنتج إلى المستهلك مباشرة، قابلة للتعميم على سلع مختلفة يمكن جلبها إلى السوق دون وسيط، لعل هذا يساهم في خفض السعر ورواج الحركة التجارية، وكذا يمكن انضمام أصحاب هوايات أخرى إلى السوق عن طريق المحافظة أو المجلس المحلي لإثراء الحركة الثقافية ولجذب الشباب إلى ما يفيد.
مصطفى نصر: في الإسكندرية.. فاتنة تجتذب الباعة إلى «عقداية»
نشأتُ في حي «سوق عقداية» في شارع اسمه «ابن الهايم» وهو يبدأ من شارع الملك وينتهي عند الباب الخلفي لجامع سلطان الشهير في حي كرموز.
وقد سألت المرحوم عبد العليم القباني عن سبب تسمية هذه المنطقة بكلمة «سوق» فقال إن عقداية هذه كانت امرأة جميلة، عشقها الكثير من الرجال، فأتوا لبيتها من قراهم ومدنهم القريبة، حاملين ما تنتجه أراضيهم وما تبيعه دكاكينهم، فيفرشونها حول بيتها، حتى تكوَّن سوق عقداية.
لكننا عندما سكنا الحي، لم نجد به شيئا مميزا غير تجارة المخدرات على قارعة الطريق. لا أذكر الأسواق التي كانت أمي تشتري منها خلال إقامتنا في «سوق عقداية»، وأعتقد أنها كانت تشتري من «سوق البياصة» لأنه أقرب سوق لبيتنا.
ماتت أمي فجأة في بداية عام 1956 فانتقلنا إلى حي راغب باشا، في بيت كان أبي اشتراه هناك، ولم نكن نسكنه.
ساكن الدور الأرضي وهو بلدياتنا اقترب من أبي في القهوة التي يجلسان عليها معا، وقال له:
ــ أعلم أنك تريد أن تسكن قريبا من جدة أولادك، لذا، سأترك لك سكني.
وبالفعل، ترك الرجل مسكنه، وسكن في بيت قريب من بيتنا.
كنا نقضي جل وقتنا في بيت جدتي في غربال، وفي المساء نذهب لبيتنا في حي راغب باشا، لننام مع والدنا.
كانت جدتي تشتري خضارها وفاكهتها من باعة في الحي، صالح وهو يمتلك دكانا في شارع، تحول بعد ذلك إلى سوق سمي بسوق «المراغية» ــ حيث معظم سكان المنطقة من بلدتنا المراغة ــ وتشتري أكثر، من محمود لأن أسعاره أقل، وهو يسكن في شارع الأمير أحمد رفعت الذي تتفرع منه الحارة التي تسكنها جدتي. وتشتري أيضا من سيدة اسمها «بخاتة» تضع عربتها أمام باب بيتها، وتبيع خضار أكثر رخصا، فهي لا تبيع سوى الخيار والباذنجان والطماطم والفلفل الحار الذي تفضله جدتي.
تزوج أبي بعد موت أمي بأقل من عام، بفتاة عذراء وافدة من الصعيد. وبذلك ارتبطنا ببيت أبي أكثر، خاصة أن جدتي اضطرت لأن تسافر هي وزوجها وابنها إلى الصعيد وتعيش فيه.
سوق البياصة
«البياصة» باللهجة الإسكندرانية كلمة محرّفة عن كلمة lapiazza الإيطالية التي تعني «الميدان» أو «الساحة»، فقد كانت العمارة المصرية تعتمد على الإيطاليين الذين يعيشون في مصر، خاصة في الإسكندرية. ويقولون إن الميدان أو «البياصة» التي تكونت في منطقة كرموز، جاءت نتيجة لرمي قنابل من الطائرات الألمانية على مدينة الإسكندرية في الحرب العالمية الثانية.
ومنطقة بياصة كرموز تقع في آخر شارع الروضة الذي يبدأ من شارع يوسف الحكيم المشهور هناك باسم «شارع 12» مخترقا جبل ناعسة، وينتهي في البياصة. (هناك بياصات أخرى في الإسكندرية مثل بياصة الشوام في شارع العطارين والتي تكونت بقرار من الخديو عباس حلمي الثاني خدمة لأهالى المنطقة، بعد تعويض أصحاب البيوت هناك) وقد كنا نخاف من الذهاب لشراء الخضار والفاكهة من سوق النصارى، فأسعاره أغلى، لكن أسعار البياصة في متناول يدنا.
تنتهي البياصة عند ميدان باب سدرة المؤدي لمدافن عمود السواري. (منطقة مشهورة بباعة الأخشاب والنوافذ والأبواب القديمة).
ومنذ بداية البياصة لآخرها تقع دكاكين الجزارين التي تبيع اللحوم البلدية، وتبيع «السقط» وهي فشة وكوارع وأمعاء الحيوان المذبوح. وكانت رءوس الحيوانات تعلق في واجهة الدكاكين، وشاهدت حمارا، يرجف ويرجع للخلف في جزع خوفا من هذه الرءوس الكثيرة المعلقة. وكان لي زميل في العمل يسكن قريبا جدا من «البياصة» ونشرت الجرائد خبرا عن القبض على جزار هناك يذبح الحمير ويبيع لحمها، فقال زميلي في أسى:
ــ إنه الجزار الذي اشتري اللحم منه منذ سنوات طويلة.
ثم أكمل حزينا:
ــ لقد أكلت وحدي أكثر من عشرة حمير.
سوق النصارى
نسبة كبيرة من تجار الخضار والفاكهة من المسيحيين، صعايدة يأتون من مدن الصعيد، ويمارسون هذه المهنة مثل أقاربهم الذين سبقوهم للإسكندرية.
يبدأ سوق النصارى من شارع راغب باشا، وكان ينتهي عند شارع العطارين، بضائعه أكثر جودة وأغلى سعرا.
وفي ميدان الشهداء، الذي اشتهر باسم «محطة مصر»، لأنه يقع أمام مبني محطة القطار. كان باعة السمك يقفون فوق الرصيف الذي يبدأ من شارع ابن الخطاب حتى بداية مستشفى أحمد ماهر هناك، يضعون الأسماك، خاصة القراميط والحناش في أوان واسعة مملوءة بالماء، ليرى المشترون السمك وهو يعوم ويلعب.
لكن بمرور الوقت كبر السوق ووصل حتى محطة مصر، وتغير اسمه من سوق النصارى إلى سوق محطة مصر، فكل المنطقة تحولت لسوق تباع فيه كل أنواع الخضراوات والفاكهة والأسماك واللحوم. وتحولت معظم المحلات هناك إلى متاجر لبيع البقالة واللحوم والأسماك.
وقد حاولت الشرطة أكثر من مرة، أن تمنع الباعة من الوقوف في الميدان، ووضعت قوات كثيرة العدد، لكي تعين السيارات على الحركة هناك، لكن الشرطة فشلت وأعلنت استسلامها.
وقد تحولت كل الشوارع والأزقة حول الميدان إلى سوق.
ومن الشائع هناك أن تتحول كل المحلات التي كانت تمارس خدمة، مثل الحلاقة والسباكة.. إلخ إلى محلات لبيع الخضار والفاكهة والطيور. بل إن الكثير من مستأجري الأدوار الأرضية، حولوا شققهم لدكاكين، ومارسوا التجارة واغتنوا بشكل مغالى فيه.
الملاحة الكبيرة والصغيرة
حكى لي صديق كان طالبا في معهد السينما قسم السيناريو، إن الممثل السكندري الكبير محمود مرسي، درَّس لهم لمدة قصيرة، فكان يسألهم عن الفرق بين «البقال والزيات» فالبقال هو الذي يبيع الجبن والحلاوة والبسطرمة والبيض.. إلخ. إنما الزيات، يأتي ببراميل الزيت، ويملأ منها جراكن وزجاجات الزيت ويبيعها للجمهور، ويبيع أيضا الجاز وأشياء أخرى. وعاش محمود مرسي فترة من الزمن قريبا من سينما الجمهورية بشارع إيزيس، فحكى عن أمه التي كانت تأخذ «المصفاة» لتشتري السمك من الملاحة. ولابد من «المصفاة»، لكي لا تحتفظ بالماء.
وكنا نصل للملاحة الكبيرة عن طريق حي غيط العنب، فنجد بعده عربات البضاعة واقفة على شريط القطارات الذاهبة لغرب الإسكندرية، فنمر من تحتها، ونسير حتى بحيرة مريوط نجد هناك كميات هائلة معروضة عن طريق الصيادين، فتملأ كل امرأة «مصفتها» بالسمك، وتعود للبيت.
وإذا تعذر الذهاب للملاحة الكبيرة، نكتفي بالملاحة الصغيرة في حي غيط العنب، فبعد كوبري راغب مباشرة، نجد باعة السمك أمام عربات اليد يعرضون كل أنواع السمك. (لم تعد هناك ملاحة كبيرة) فقد تم ردم معظم مناطق بحيرة مريوط.
والسوق في غيط العنب انتقل لخلف نقطة الشرطة هناك، فخلفها تماما يبيعون الخضراوات، والشارع الموازي له يبيع الأسماك. أما الفواكه فهي متناثرة على الصفين، قبل كوبري راغب باشا وبعده.
سوق الجمعة
اكتشفت سوق الجمعة في بداية عام 2000، وواظبت على الذهاب إليه بعد ظهر كل يوم خميس. فهو يبدأ من يوم الأربعاء وينتهي قرب مغرب يوم الجمعة، تأتي عربات النصف نقل والسيارات الكبيرة والكارو التي تجرها الخيول والحمير إلى منطقة تبدأ من مينا البصل، تعرض كل مخلفات البيوت من أثاث قديم، وأجهزة (تليفزيونات، وبوتاجازات، وثلاجات... إلخ) وعِدد صغيرة، وكتب ومجلات وجرائد.. كل شيء يباع فيها. ولأن أي بائع في حاجة لتجمع الناس، فيأتي إليه باعة الأكل والشرب من سندوتشات ومثلجات... إلخ.
كنا مجموعة من الأصدقاء، نتفق ونتقابل هناك، ونتبع طريقة ماكرة في الشراء، فالبائع لو أحس بمدى حاجتك للسلعة، سيرفع من ثمنها، فنتظاهر بعدم اهتمامنا بما نريد، ونهتم أكثر بما لا نريد شراءه، ثم نتظاهر بأننا وجدنا ما نريد صدفة، فنعطي للبائع ثمنا قليلا، ونحن نعلم أنه سيرفض. لكن زميلًا آخر يذهب إليه وحده، ويعرض نفس الثمن، وثالث ورابع، فيحس البائع أن هذا هو ثمنها الحقيقي، فيبيعها. فالباعة هناك لا يعرفون قيمة الأشياء التي يعرضونها، فهم يشترونها من «السريحة» الذين يطوفون على البيوت منادين «حاجة قديمة للبيع».
كنت أهتم أكثر بالكتب والمجلات، وهم لا يعرفون شيئا عنها. فقد أمسكت بمجلة المجلة وسط أدوات وعِدد غالية الثمن، فذكر مساعد صاحب الفرش ثمنا عاليا جدا، لأنه يرى كتابا كثير الصفحات، فتركته ومشيت، فقال صاحب الفرش مبتسما: طيب عايزه بكام؟
قلت: خمسون قرشا.
فضاق بقولي. وشرد بعض الوقت، وألقى بالمجلة بجواره.
وذهبت بالصدفة يوم الجمعة أيضا. فوجدته قد عاد بالمتبقي من بضاعته، والمجلة ملقاة في الشارع بعد أن نزع غلافها. فأخذتها وهي مازالت عنده.
في سوق الجمعة، تجد أشياء غريبة، إطارات صور بزجاجها بأسعار رخيصة، المؤلم والذي لا أعرف له تفسيرا حتى الآن، إن هناك إطارات داخلها صور رجال ونساء. من استطاع أن يبيع صور أمه وأبيه؟ قال زميلي:
ــ أكيد زوجة الابن باعت الصور بعد موت حماها وحماتها.
يبيعون هناك أحذية جديدة وفي حالة جيدة، وجاء تليفزيون الإسكندرية لينقل ما يحدث في السوق، فصوَّر الأحذية المعروضة للبيع، فقال زميلي للمصور:
ــ كلها مسروقة من المساجد.
فجرى إلى المخرج وأخبره بذلك.
وكنا نعلم إن بعد العيدين (الفطر والأضحي) سنجد أحذية كثيرة جدا، وجديدة وغالية الثمن، تم سرقتها وقت صلاة العيد.
جميل عبد الرحمن: أسواق سوهاج بنكهة فرعونية
نبذة تاريخية موجزة
سوهاج إحدى وردات المجد القديم وأنقى تمائم (الشمس)، سوهاج أو «سوهاي» كما كانت تسمى في التاريخ الفرعوني القديم... ولم يكن إقليم سوهاج في هذا العصر يمثل وحدة إدارية مستقلة.. لكنه كان يتكون من مقاطعتين ونصف من مقاطعات الصعيد وهي:
1- المقاطعة الثامنة:
كانت تدعى باللغة المصرية القديمة «تاور» ومعناها الأرض العظيمة.. وكانت عاصمتها مدينة (طينة) التي يرجح الأثريون أنها قرية (التينة) الحالية القريبة من برديس.
وأطلق على (طينة) دينيا «بيت أنحور» وسرعان ما حلت محلها (العرابة المدفونة) واسمها (أبيدوس) ومن آلهتها (أوزوريس).
2- المقاطعة التاسعة:
وأسموها مقاطعة (مين) نسبة للإله الذي يعبد فيها والذي يعتبره المصريون القدماء إله الخصب والنماء وكانت عاصمتها السياسية تسمى (أبو) وهي مدينة أخميم الحالية وكانت تسمى دينيًا (برمين) أي بيت الإله «مين» وقد امتد نفوذه إلى المقاطعة الخامسة (فقط) فصار يعبد فيها.
ومدينة أخميم تحوي في باطن أرضها مدينة فرعونية كاملة طمرتها عوامل التعرية وهذا ما عرض آثارنا للسلب والنهب والسرقة.
ومن أهم المدن التابعة لهذه المقاطعة:
جرجا: وكانت تسمي (مري أمون رعسيس) ويعني ذلك مؤسسة رعمسيس الثاني محبوب آمون - وكان الإله آمون هو الصورة المنظورة للإله (مين).
أدريبة: ومعناها بالمصرية القديمة (حات ربيت) وبالقبطية معناها (أقريبة) وتقع غرب سوهاج بجوار الدير الأبيض (دير أبي شنودة).
3- المقاطعة العاشرة:
واسمها «واز» أي صولجان الآلهة وتقع على ضفتي النيل شمالى المقاطعة التاسعة وعاصمتها الدينية (بروازيت) وهي قرية (كوم شقاو) الحالية التابعة لمركز طما، وعاصمتها السياسية أطلق عليها اسم (ثيو) وهي (أبو تيج) حاليًا التابعة لمحافظة أسيوط، وانقسمت هذه المقاطعة قسمين في عهد الأسرة التاسعة عشرة.. قسم على الشاطيء الأيمن، والقسم الآخر على الشاطيء الأيسر.

الأسواق
نشأت قديمًا حتى قبل اختراع العملات لتبادل السلع والخدمات بين البشر ليتكامل الكون مصداقًا لقول الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة = بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
1- سوق الاثنين:
ولعل تسميته تدل عليه، فهو يقام يوم الاثنين من كل أسبوع، ليتسوق الناس حاجياتهم، ومستلزماتهم الأسبوعية وربما لشهر قادم، كل حسب مقدرته.
ويقع هذا السوق في أهم ميادين سوهاج، وهو ميدان «الشهيد عبد المنعم رياض» ويقصده الناس من كل مكان بالمحافظة منذ الصباح الباكر، ويزدحم الميدان والشوارع المتاخمة له ازدحامًا شديدًا- حتى أن حركة المرور ترتبك في هذا اليوم- خاصة أن بعض الأسواق ألغيت أو اختصرت (كسوق الجزيرة) «جزيرة شندويل» وكان يعرف بسوق البرين (البر الشرقي والبر الغربي) ويقام يوم السبت من كل أسبوع، وجزيرة شندويل تبتعد عن مدينة سوهاج بعشرة كيلو مترات ويسهل الوصول للسوق عن طريق السيارات و«الميكروباص».. وتمتاز هذه الأسواق بانخفاض أسعارها عن الأيام العادية - وسوق الاثنين.. به كل ما يلزم البيت من التموين والخضر والفاكهة وصابون التواليت وصابون الغسيل ومسحوق الغسيل والخضر والفاكهة (فاكهة الصيف) و(فاكهة الشتاء).. وبه أماكن لبيع الأقمشة والملابس الجاهزة والأدوات المنزلية والصيني والألومنيوم وغيرها والسجاد والموكيت (المستورد والمصري).
هذا فضلًا عن بيع (الجبن القريش) والطيور بجميع أنواعها - واللحوم والأسماك - حتى الأحذية الرجالى والحريمي وأحذية الأطفال و(شباشب الحمام).. وكل ما يلزم الإنسان ابتداء من «بامبرز» الأطفال، حتى يصيروا شبابًا وشيبًا.
2- سوق القيسارية:
ومعنى كلمة قيسارية لغويًا البازار أو السوق الكبير الذي تباع فيه الأثواب ونحوها في المدن العتيقة.
ويعتبر أقدم أسواق سوهاج التاريخية ويقع هذا السوق ما بين مسجد العارف بالله والمستشفى العام، وميدان الشهيد عبدالمنعم رياض ومسجد القطب - بل ويتوسط المحافظة ليجاور محطة القطار - وله مدخلان: أولهما من ناحية الشهيد عبد المنعم رياض، والآخر من امتداد ميدان الشهيد عبد المنعم رياض ومنطقة الشيخ خضر.
وهذا السوق يشمل مجموعات من المحلات والشوارع المتداخلة، ويميزها الأسلوب المعماري القديم وربما يرجع إلى العصر المملوكي وربما ما قبله.
وللقيسارية أسقف خشبية يستظل بها الباعة وأصحاب المحلات والجمهور - وبها محال لتجارة الجملة ومحال لتجارة التجزئة، والسوق مزدحم طوال الأسبوع خاصة يومي الأحد والخميس - وبه شوارع تتلاحم بها محلات الصاغة ومحلات صناعة الأحذية التي ما يزال البعض يحافظ على صنعته ويورثها لبعض أبنائه لأن لها (زبونها) وإن قل لكنه مايزال موجودًا.
وكثيرًا ما تندلع (زغاريد) النساء عند شراء (شبكة العروس) ويقدم صاحب محل الصاغة المشروب المثلج لأهل العروسين وللقادمين معهم وسط دقات الطبول واندلاع موجة الأفراح.
وفي شارع الملابس والأقمشة يزدحم الناس خاصة قبل الأعياد- وبدء العام الدراسي وفي المناسبات كشراء الهدايا لعيد الأم.
ولم تحرم القيسارية الفقراء من ستر فقرهم فهناك محال لبيع (الذهب القشرة) وما يسمى (الذهب الصيني).
ومحال أخرى للأحذية (أحذية النساء وأخرى لأحذية الرجال وثالثة للأطفال) تستوعب مختلف مستويات الدخول - المتدنية والعالية.
هذا فضلًا عن محال العطارة المنتشرة وتفوح منها رائحة البخور والمسك والمستكة والحبهان و(اللبان الدكر) وغير ذلك.
ويسطع محل الأديب الكبير حسين علام العطار الشاب والكهل بوجوده المؤثر... مثلما كان يسطع في بورسعيد محل العطارة الأشهر للمرحوم الشاعر الكبير حامد البلاسي كبير العطارين بهذه المدينة، وأشبه الناس في ملامحه الجميلة بالشاعر الكبير الراحل أستاذي محمد الجيار.
والغريب أنهما تشابها في الملامح والشاعرية من حيث عشقهما للصورة الشعرية المجنحة التي تحدث الدهشة وتبقى دليلًا على ثراء الشاعرية.
وتستطيع أن تجد قطن التنجيد يباع في القيسارية وتباع أيضًا (مراتب ومخدات وألحفة ووسائد وخداديات) جاهزة وتباع أيضًا الطنافس بألوانها الزاهية وأنواعها لمختلف الطبقات والدخول، بمعنى أن جهاز العروس من الممكن أن يشترى من هذا السوق، فهناك محال للموبيليات (حسب مستويات الدخول).
ويوجد بالقيسارية مسجد محمد على بك الكبير الأثري الذي يعود إنشاؤه للعصر المملوكي وواجهته يحيط بها بناء خشبي مزخرف يميز جماليات هذا العصر، ويوجد بالمسجد فناء كبير يجتمع فيه الناس، تارة للصلاة وأخرى للراحة من عناء التجوال بالقيسارية الممتدة الشوارع والاتجاه والأنحاء.
ولا ننسى مهنة الحدادة، فلها نصيب من هذه القيسارية - وفي القيسارية الحديثة الامتداد - توجد محال فخمة للأدوات المنزلية ومحال أخرى للزجاج، ومحال أخرى للملابس الجاهزة - ويقال أن هذه المحال دخيلة على القيسارية خاصة بعد نزوح العمالة إلى دول الخليج - وشراء بعض العمال لمحال متاخمة للقيسارية يبيعون فيها هذه الملابس.
ولم تحرم امتدادات القيسارية الناس من شوادر بيع السمك... وأيضًا من محال لبيع (الملوحة) و(السمك المملح) و(الرنجة والسردين) وغيرها.
ومحال أخرى للجزارة وبيع اللحوم ومحال لبيع الفاكهة والخضراوات وكل ما يلزم البيت. وفي شهر رمضان تقام الأفران لصناعة الكنافة البلدي التي يغرم بها الكثيرون من أهل سوهاج - رغم وجود الأفران للكنافة (الرفيعة) التي تعتمد عليها (محال الحلوانية) طوال العام.
ومحافظة سوهاج.... ثرية بأسواقها خاصة في مراكزها مثل:
1- سوق جرجا:
وكانت تسمى بالمصرية القديمة (مري آمون رعسيس) ويقام يوم الخميس وهو سوق كبير- نظرًا لطبيعة جرجا التجارية - ومتنوع وبه كل ما تطيب له النفس وتباع به كل ألوان الطيب.
2- سوق المنشاة:
واسمها الفرعوني القديم (نشت) ويقام يوم الثلاثاء وبه نفس زخم ومقومات الأسواق.
3- سوق أخميم:
وهي مقاطعة (مين) أو (أبو) في العصر الفرعوني القديم - ويقام يوم الأربعاء من كل أسبوع وأهل أخميم حاذقون في البيع والشراء ولا ننسى أنها كانت تسمى (مانشستر قبل التاريخ) لاشتهارها بصناعة الحرير الطبيعي والأكلمة والسجاد، والملاءات والكوفرتات، وتوجد الأنوال اليدوية في كثير من البيوت، وخصص لها مصنع صغير يضم أصحاب هذه الحرف في مدينة الكوثر التابعة لأخميم ويقول المثل الشعبي أنه يباع في هذا السوق من الإبرة للصاروخ.
4- سوق جزيرة شندويل:
وكان يقام يوم السبت وتقلص نشاطه وكان يقام على الطريق الزراعي السريع سوهاج أسيوط ويسمى بسوق البرين (البر الشرقي والبر والغربي).
5- سوق طما:
ويسمى سوق الأربعاء، ويتشابه مع سوق الاثنين بسوهاج حيث يفد إليه التجار من محافظة أسيوط بمختلف مراكزها.
6- سوق جهينة:
ويقام يوم الأربعاء ويلتقي فيه تجار المراكز الشمالية طما وطهطا والمراغة وجهينة، وتجار مركز الغنايم التابع لمحافظة أسيوط.
7- سوق ساقلته:
ويسمى بسوق الأحد، ويقام بمركز ساقلته شرق النيل على الطريق الزراعي السريع الشرقي دار السلام أسيوط، ويعتمد أهل مركزي طهطا ودار السلام على أسواق جرجا، وذلك بعبور النيل عن طريق المعديات.
وتبقى كلمة أخيرة؛ هي مطلب من معالى الدكتور الوزير أيمن عبدالمنعم محافظ سوهاج اليقظ النشيط المستجيب لمواطني المحافظة في كل ما يعن لهم، وتتمثل في صدور الأمر ببسط الحماية على سوق الاثنين بسوهاج من المندسين وسط الزحام من اللصوص والبلطجية وأن يطلق الأمن رجاله لتأمين المواطنين، والتخفيف من حدة الزحام والارتباك المروري وأن ينشط رجال التموين لمراقبة الأسعار وضبط الغش التجاري ببيع بضائع فاسدة للمواطنين البسطاء مستغلين الحالة الاقتصادية المتدنية لهم.
تيسير النجار: «الحَر» يهزم الأسعار في أسوان
يوم الأربعاء في قرية الأعقاب يفيض بالحياة في أزقة قريتنا الصغيرة، تزدحم الطرق بالتكاتك أو التروسيكلات التي تم إغلاقها ووضع لوحين من الخشب في الجانبين يُستخدمان مثل الدكك، يصير في مجمله يتشابه مع السيارة الكابوت، لدينا سوق متنقل، ذات الباعة يرتحلون ببضائعهم على مدار الأسبوع في قرى منطقتنا، عادة تذهب السيدات إليه ويعودن بالتكاتك إلى أمام المنازل، لأنهن لا يتمكن من صعود الجبال بالحمل الثقيل، يشترين ما يكفي إلى يوم الأربعاء القادم أو الذي يليه، بالرغم من تذمرهن من غلاء الأسعار، تنتظر بعضهن وشوك السوق على الانتهاء حيث تنخفض الأسعار خشية من البائع أن تفسد الخضراوات والفاكهة من شدة الحرارة، يملأن حقائبهن ويفرحن بالمكاسب.
يقع السوق في منطقة واسعة بجوار السكة الحديدية، غالبًا ما تكون قريبة من المزلقان، يفرش الجميع ما لديه على الأرض، يصيح بعلو صوته، لا يقتصر على الخضراوات والفاكهة، التي تقلبها النساء بين أيديهن، تقضم بعضهن ثمرة أو أكثر، ثم تضعها فوق كومة الخضراوات غير عابئة إلى نظرة البائع، أو تأكلها حتى النهاية ثم تشتري، سألت البائع إن كان ذلك لا يزعجه أم لا يلحظه؟ ضحك وأكد أن فرحته بجعلها زبونة دائمة تجعله يتغاضى عن ذلك.
لا يخلو السوق من تجارة الدواجن بأنواعها والأسماك النيلية طبعًا، تجارة الأغلال والأعلاف والبقول، سيارات نقل يتم توصيل أعمدة حديدية بها على الجوانب، ووضع قطع من القماش، حتى تصير دكانًا صغيرًا أو تماثله قليلاً، منتجات الألبان المصنوعة في المنازل ترصها عجوز أمامها، كذلك بعض الأشياء المصنوعة يدويًا.. أما أسواق الماشية لها أيام وأماكن محددة ولا تتنقل بين النجوع مثل عربات النقل الصغيرة، يوجد في مركز دراو نجع الغابة سوق تباع فيه الجمال وذلك في يومي السبت والأحد، أما يوم الثلاثاء فتباع الأبقار والأغنام والحمير والجاموس، على مقربة منه سوق لبيع الخضراوات والفاكهة والملابس أيضًا، يوم الأربعاء يوجد في مركز إدفو منطقة حاجر سوق لبيع الأبقار والأغنام والجاموس، وفي يوم الخميس تباع الأبقار وخلافها في سوق بوير في مركز كوم أمبو، أما يوم الاثنين فهناك سوق في مركز نصر النوبة للخضراوات والفاكهة وتباع الماشية في المواسم.
يوجد سوق لتجارة الأغنام والماعز في مركز أسوان بجوار مستشفي أسوان العام في منطقة البشارية وذلك يوم الخميس، كان السوق شاملًا الخضار والفاكهة أيضًا لكن تم الفصل بينهما، صارت تجارة الخضار والفاكهة والملابس يوم الجمعة في ذات المكان.
د.محمد أبو الفضل بدران: «التلات» بقفط و«الراين» ببون
ارتبط السوق بمخيلة الطفل الذي كنتُه بالفُرجة والزحام، يقع السوق في منطقة «الدفادف» وهي منطقة بها آثار فرعونية ورومانية، السّير فيها مُخيف لأنها فضاء لا تلمح فيه سوى بقايا أعمدة فرعونية منقوشة وبقايا جدران رومانية، أذهب إلى سوق «التلات» بصحبة أبي أو أحد إخوتي، لفت نظري بائع الصّور .. خطّاط وفنّان اشتريت صورًا منه علّقناها في المضيفة «المندرة» الصورة التي علِقت في ذهني صورة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهو يهمّ بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، بينما نرى في خلفية الصورة جبريل عليه السلام وهو يسبح في الفضاء ممسكًا كبشًا «خروفًا» فداء لسيدنا إسماعيل ... كيف كانت نظرات الأب وكيف كان امتثال الابن والفداء العظيم، أراد الفنان الشعبي أن ينقل الآية الكريمة «وفديناه بذِبح عظيم»، كما رأيت لوحة المعراج، والبراق يهيم في السماء وعليه النور المحمدي؛ صورة أخرى لسيدنا موسى عليه السلام والسحرة أمامه وهو يرمي بعصاه، صور كثيرة ظهر فيها الأنبياء ولم نسمع بتحريم أحد لهذا التصوير أو تحليله، كان الذهن الجمعي يعرف أن هذه الصور تخييل وتقريب تجسيدي فني للأحداث المقدسة، كانت أوراقا عادية ملوّنة تعارف الناس فيما بينهم على أنها رموز فنية لا تهز قداسة شخصياتها امتلأت بها جدران بيتنا، مع آيات قرآنية مخطوطة بخط وزخارف مُبهرة. كان الرجل البائع يستند على حائط كرم نخيل، ويبدأ في فتح محابره السوداء والحمراء والزرقاء والخضراء، أحبار صنعها من الزَّعفران وقَرضِ السُّنط وهو شجر يُستخرج منه الصمغ ومنتشر في الصعيد، كيف كان يلوّن هذه الأحبار، لا أدري.
يتجمع حوله نفرٌ يودون أن يكتب لهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحِكَمًا يحفظونها .. يبدأ في زركشة حواف الورقة وتلوينها، ثم يكتب المطلوب، أحيانا كانوا يودّون كتابة أسمائهم .. لم يكن يخيّرهم في نوع الخط لأنه يرى أنه حق أصيل للخطّاط حسب حروف وشكل الكلمات وتشكيل الحروف، كم كان فنانا مُبهرا للطفل الذي كنتُه ... كنت أرقبه وهو يضع الريشة في المحبرة خاطَّا الحروف وكأنه يقفز بينها راقصا.
سُوقنا يُقام كلّ ثلاثاء .. يتجمع الرجال في سوق الغنم .. يشتري أربعة رجال خروفا يُسلمونهُ للجزار الذي يذبحه ويقسّمه بينهم، ولم يكن لدى الجزار ميزان لكنه يلقي كلّ رُبع في جهة، ثم يُجري القُرعة بينهم، كان سوق أبنود يقام يوم الأربعاء أسبوعيا ويهتم أكثر بالعجول والأبقار.
في مدينة بون بألمانيا بحثتُ عن السوق الذي كان يُقام في الأسبوع الأخير من كل شهر في منطقة تُسمي «راين أوَا» كان هذا السوق يجمع كل الأشياء التي يرغب أصحابها في التخلص منها ويبيعونها بثمن زهيد يصل إلى ما يساوي «قرش صاغ» واحد.
تجد الكتب التي قرأها مالكوها ويودّون أن ينتفع غيرهم بها، يعرضونها ولك أن تُقلّب وتشتري «ببلاش» الكتابَ الذي تُحبّه. هنا تجد أدوات الزراعة للحدائق، وأدوات الزينة، وأدوات «العِدّة» من شواكيش ومفكّات، كما تجد صورًا قديمة لألمانيا قبل الحرب العالمية، «صور أبيض وأسود» منظر الرّسام الألماني في السوق راسمًا من يتوقف أمامه يشيع البهجة لدى الناس، جلست فتاة أمامه وبدأ في رسم ملامحها، وهنا تذكرت فنان اللوحات بسوق التلات. أتجول في السوق في بون وعقلي يبحث عن سوق «التلات».
عبده خال (السعودية): «سوق باب شريف» نبت حين كانت مدينة جدة خائفة من الغرباء
مدينة جدة كبقية المدن المتجذرة في التاريخ، مدن تخاف من إعادة أسطورة مدينة طروادة، فأبقت الحذر منتصبا على قلاعه، ومدينة جدة كانت خائفة تستر خوفها بثمانية أبواب رئيسة تمنع أي مفاجأة يمكن لها التسلل والعبث بطمأنينة المدينة، كانت هذه هي الوسيلة لتحصن المدن أمام الغرباء والغزاة بوضع أبواب وحصون وقلاع ترصد أي خوف يقبع خلف أسوارها.
النمو السكاني فض بكارة الحرص وأسقط استراتيجية الخوف، فأخذ الناس يقفزون أسوار الخشية باحثين عن فضاء مكاني متسع، هذا القفز المتوالى ولد حيا صغيرا أمام كل باب تخندقت خلفه مدينة جدة، ومع انهيار الزمن القديم، وتداعي فكرة تخندق المدن تعرت مدينة جدة عن أسوارها وأبوابها الثمانية «باب بمكة، وباب المدينة، وباب شريف وباب جديد وباب البنط وباب المغاربة وباب الصبة».
وتماشيا مع الأساطير وجدت مدينة جدة نفسها عارية فالتحفت بالأسواق التي نشأت أمام كل باب من أبوابها الثمانية ولكي لا تظهر سوءتها حثت الناس أن يمشوا في مناكب أسواقها والانشغال بما يلهيهم عن مدينة غدت مستباحة الأركان.
هذه المعلومة شربتها متأخرا، فأنا طفل قروي «قدم من أقاصي جنوب الجزيرة العربية» ليجد نفسه يشم نسائم الحجاز بجوار أسرة صغيرة ارتضت ان تغرس وجودها في حي الهنداوية الذي يمتد من حلق سوق باب شريف ويسهب بالابتعاد لجنوب مدينة جدة، وكأن هذا الحي غدا المصدر الغذائي لجوف السوق.
حي ولد من أصلاب المغتربين والمهاجرين والزائرين لبيت الله الحرام، فطاب لهم المكوث فاستقروا واختلطوا بهذا الحي، أعراق مختلفة انصبت بين شوارعه وأزقته وبرحاته، غدا حيا أمميا له من كل عرق نصيب، فسكنه «المصري واليماني والسوداني والشامي والمغربي والأفغاني والجاوة والبخاري والتركستاني والتركي والألباني والإيراني والتشادي والنيجيري والحبشي والاريتيري والهندي والباكستاني والصيني والبنجلاديشي، يضاف إليهم أهل البلد القادمون من جميع أنحاء المملكة» هذه الأعراق النافرة من بقاع الأرض استقرت وانصهرت في هذا الحي مكونة عجينة اجتماعية لها معدة تهضم كل الاختلافات من اللون إلى اللغة إلى الديانة إلى المأكولات والعطورات والحلويات والأهازيج والرقصات والحكايات ... عالم مكتظ بالحياة، هذه الأعراق تجمعت بنفس العشوائية والتنوع في كل حي من أحياء جدة وخلقت نمطا معيشيا يشار إلى كل ساكن به لقب «جداوي» نسبة للمدينة، اعترك سكان حي الهنداوية بجميع تلونهم وخصائصهم داخل سوق باب شريف.
ومن يمتلك مخيلة خصبة يستطيع تخيل كيف يمكن لسوق يحفل بهذا التنوع الكثيف، كيف يكون.
في أسرتي الصغيرة كنت أنا «المرسول» لجلب كل الاحتياجات اللازمة لأهلي، سواء كان ذلك من دكاكين الحي أو من السوق، تعرفت على المسالك المؤدية لسوق باب شريف في سنوات طفولتي الأولى «كان عمري بين الثامنة والتاسعة»، إذ انطلق من عمق الحي متسلحا بمخيلتي في بناء قصص أبنيها في مخيلتي كي أستطيع اجتياز المسافة الطويلة، يبدأ مشواري للسوق بالتخيل الأول وتتراكم على عموده الحكائي بقية الصور .. أسلك الأزقة المنحنية التي تفضي بعضها لبعض حتى أخرج إلى شارع طارق بن زياد وهو شارع رئيس ممتد يتمدد بلسان طويل متدليا من فم السوق ومنتهيا بآخر بيت قطع ذلك الشارع طاب له أن يجعل قبلة بابه الخارجي سوق باب شريف.
شارع طارق بن زياد تكتظ أمتاره بالمشاة والباعة والسيارات والدراجات النارية والهوائية وتتقاسم ضفتيه الدكاكين والبيوت وجلسات الشباب ومحلات إصلاح الدراجات، والمطابخ وملاعب صغيرة يتلهى بها الأطفال وأشجار اللوز الهندي والنبق والليمون، ويوجد به أماكن متفردة بذاتها، فعلى امتداد الشارع يوجد مركز شرطة وفرن يتخاطف المارة خبزه، ومصنع طوب، ومسجد وحيد، ومدرسة يتيمة ومكتبة قرطاسية وبيت عبد الرزاق الهنداوي الذي سميت الحارة باسمه (الهنداوي) ومقهي (القاهرة) الملاصق للسوق من الجهة الغربية، تعبر كل هذا لتجد نفسك داخل السوق.
أتذكر جيدا تلك الصور، فكلما استلمت قدماي شارع طارق بن زياد أسير ضمن جحافل من البشر تتداخل في غدوها ورواحها وأكون عابرا المقتعدين المزاولين للألعاب الشعبية «كيرم أو ضومنة أو كبت» أسير متلهيا متصاعدا في بناء قصصي المتخيلة، أمشي خلف السقائين وحميرهم المنهكة بصبرها وهي تجر عربات متداعية، وربما تغريني طفولتي مغافلة السقاء لأن أقتعد مؤخرة عربته في غفلة منه .. وعندما أمر بمصلحي العجلات أتمنى لو أني أمتلك دراجة هوائية كي أقطع المسافة في وقت وجيز وربما تصل أمنيتي ان يكون لدي فائض مالي لشراء حلوى أو آيسكريم أو بسكويت يقلل من تشوفي لكل ما تعتقله عيناي من مشهيات .. مشوار طويل أسكب في جنباته حكايات وأحلاما وأمنيات وخوفا.
وما أن أعبر مقهى القاهرة حتى أجد نفسي على أطراف السوق من الجهة الجنوبية حيث يستفتح السوق المتسوقين إليه بفرح الأغاني الصداحة من مكبر صوت جهاز التسجيل لاستريو يبيع أشرطة الاغاني .
من هذا الاستريو كانت أول أغنية أسمعها بصوت طلال مداح ولازالت هذه الاغنية ــ كلما سمعتها ــ أتذكر أول مرة أدخل فيها سوق باب شريف، أتذكرها بمخيلة طفل عليه أن يتحسر في لهفته وشوقه .. وعندما كبرت عرفت أن انتظار العاشق هو موت ما لم يستدرك المعشوق ترميم ما أحدثه من فرقة وتهاون بمعشوقه ... ها هي الكلمات مسطرة في مخيلتي كما لو كانت جدارية من لحن وكلمات وصوت أخاذ:
عيني علينا .. علينا .. تهجر .. وتقسى علينا
عيني علينا .. علينا .. نسهر .. وتنسى توافينا
كم تلوعنا ولا تنصفنا
ولا تتجبر .. ولا تتأمر .. إلا علينا .. علينا
عيني علينا .. علينا
وقبل أن تسلم جسدك للزحام بين لجج المتسوقين تنفحك رائحة السوق، رائحة أخذت من كل شيء جزءا واختلطت مكونة رائحة لا تجدها إلا في سوق باب شريف .. رائحة الناس .. والعطارة والتنباك والسمك والعطور الرديئة والجيدة .. سوق يعيش على كرنفال دائم يبدأ من شارع طارق بن زياد حتى يصب في قلب السوق، طريق حافظ على امتداده من مركز السوق إلى منتهى حي الهنداوية وكأنه الوريد الرئيس لضخ أعداد المتسوقين وتنوع متطلباتهم، طريق ليس نحيلا ولا متسعا يضيق في أماكن ويتخلى عن ضيقه في أماكن أخرى وضفتيه استقرت الدكاكين والمتاجر كل منها له سلعة للعرض، ولا تجد دكانا فارغا، المتسوقون يقبلون على كل سلعة بغرض الشراء أو ترجيح البحث عن السلعة في مكان آخر وتجرى المساومات بأصوات مسموعة إلا أن الضجيج يحولها إلى أصوات لا تستبين مرادها.
تزاحم الأعراق واللغات تشعرك بأنك تائه، فكل جالية تظن أن السوق خاص ببلدها إذ تتوفر السلع والملابس والأحذية والعطور والسبح والمجوهرات وأصناف من المشغولات الذهبية والفضية والأكل والمشرب وأدوات الكيف وأعواد الآراك واللبن والثياب والطواقي والمشالح والعباءات والفساتين .. ومشغولات النساء .. أنواع ملابس النساء، ولأنه سوق مفتوحة (أو بمعنى أصح كان مجتمعا صحيا من غير تلوث المتنطعين) تجد النساء جنبا إلى جنب الرجل وفي الزحام الشديد تتجاور الأكتاف كما تختلط الروائح من غير خشية إذابة كل نوع في الآخر.
كنت أصل لسوق باب شريف عندما كانت الوالدة «رحمها الله» تريد شراء سمك أو أدوات خياطة أو نوع من الملبوسات « تزودني بنوعية القماش» أو شراء ثوب خاص بي .. أعرف تفاصيل ومواقع الأشياء داخل السوق بدءا ببيع الأغاني مرورا بمتاجر الذهب والخياطين وبائعي المرطبات المحلية ومحلات بيع الأقمشة والأحذية والعطارين والأواني المنزلية والصرافة وبسطات «الحجات التشاديات» لبيع الحبحبوه واللوز السوداني والفصفص والقاروا ومباسط بائعي السمك والخضروات والفواكه .. الآن أتذكر أن السوق لم تكن به مكتبة لبيع الكتب أبدا .. كانت تغريني صلصلة النقود المعدنية بأيدي الصرافين وتشدني أنواع عملات العالم، كانت معظم عملات الدول حاضرة لتواجد ذلك الخليط من الأعراق، في تلك الفترة الزمنية كنت ألحظ أن رجال الصرافة لا يكترثون بأموالهم المشرعة أمام أبصار المتسوقين إذ يلقون شرشفا خفيفا على العملات المعروضة ويتجهون للصلاة داخل مسجد السوق «الآن أستطيع القول إننا تلوثنا كثيرا» .
في الجانب الغربي استقر بائعو السمك، ولأن إرسالي أساسا يقوم على شراء سمك فقد تعرفت على أنواع الأسماك منذ ذلك العهد، ولأن أسرتي الصغيرة أدمنوا استهلاك أنواع معينة من الأسماك غدت عيني تقف عليها مباشرة «أسماك الشعور أو البياض أو الكنعد أو الباغة» وأعرف جيدا بقية الأسماك غير المحببة كالناجل والفارس والحريد والقرش والربيص، وأعرف الطازج والفاسد منها إذ أباشر في تقليب السمكة فإذا كانت عينها منطفئة وجلدها خاويا ولون خياشيمها باهتا أو لها رائحة .. ولم أكتسب هذه الخبرة إلا بسبب الضرب الذي أتلقاه من والدتي «رحمها الله» إذا جئت بسمك منتهي الصلاحية .. وكثيرا ما تم معاقبتي.
في سوق باب شريف تواجدت ثلاثة أماكن لعرض الأفلام السينمائية وسني الصغيرة لم تمكنني من ارتيادها وقتئذ حتى إذ استطال بي العمر لسن المراهقة كنت أصلها «في أول سنة ثانوي»، في تلك الفترة شاهدت أفلاما مصرية كثيرة جدا لم يستطع أولادي الآن أن يشاهدوها في الجو السينمائي المتعارف عليه بسبب تحريم السينما على أيدي المتنطعين من رجال الدين.
كنت أخرج من السينما بعد انتهاء الفيلم الثالث «كانت ليلا تعرض ثلاثة أفلام: عربي، إنجليزي، هندي» منذ تلك الفترة لم أحب الأفلام الهندية، فبمجرد أن يبدأ العرض الثالث حتى أتحرك للبيت علني أصل قبل أن يثور غضب والدتي لتغيبي الطويل .. في ذلك الليل عبر سوق باب شريف وكل المتاجر والدكاكين مغلقة .. فيغدو ذلك الشارع الممتد من جوف السوق إلى حينا شارعا مخيفا.
أعلم أن المساحة تضيق عما تخمر بالبال عن سوق باب شريف وربما كانت الدعوة لأن أكتب عن السوق فرصة كي أركز جيدا للاستذكار وكتابة تلك الطفولة الغارقة وسط سوق كان يمثل سفينة نوح.
مصطفى قشنني (المغرب): ذاكرة محشوة بالحكايات
لا أتذكر علاقتي المتشابكة بالأسواق، إلا من خلال ما توحي إلى به من وشائج وجدانية، وثقافية وإبداعية.. الأسواق الحلم والخيال والواقع وما تراكم حولها وفيها من جلبة الهواجس والتوقعات، الأسواق ذاكرة محشوة بحكايات ومرويات تعانق الخيال حد التخوم..
الأسواق الموشومة في ذاكرتي كثيرة، فكل مدينة هي سوق كبير أتحسس نفسي فيه في حضرة ميتافيزيقا الاشياء وأنطولوجيا الحياة.. الأسواق دفق المجاز، وخفة الهواجس حيث أجد الطريق إلى ذاتي وإلى ما أريد. وتبقى أسواق مدينتي - باب سيدي عبد الوهاب من أهم معالم المدينة الألفية مدينة وجدة - التي تقع على مرمى برتقالة أو برتقالتين من الحدود المغربية الجزائرية - فقد سُميت البوابة قديما «باب الرؤوس» لأنها كانت تُعلق وتسْحل على أعمدة جدرانها رؤوس المارقين أو المعتدين، أو المتعاونين مع أزلام الاستعمار الفرنسي الغاشم.
كما حدث في بداية القرن الماضي حيث عُلقت رؤوس أتباع المسمى «بوحمارة» الثائر على النظام والسلطان المخزني وقتئذ.
هذه البوابة هي محج القلب والنفس والهوى، وهي من تشييد الوالي الصالح سيدي عبد الوهاب أحد أعلام المتصوفة الوجديين، وضريحه قائم داخل أسوار المدينة العتيقة، حيث يزوره الكثير من مريديه وإلى الآن... والساحة المحاذية للبوابة هي فضاء فسيح شبيه بساحة أسراغنة بالدار البيضاء (العاصمة الاقتصادية للمغرب) أو بساحة جامع الفنا بمراكش: الساحة الشهيرة التي كانت محل إلهام وخيال لكبار المبدعين والفنانين العالميين، أو السوق الداخلي بطنجة الذي كان محل إلهام للروائي المغربي محمد شكري صاحب «الخبز الحافي»... أسواق ساحة باب سيدي عبد الوهاب فضاء رحب مثل ذلك النهر المتجدد بالجريان والحياة، تحفه دكاكين وأكشاك وأفرشة تعرض مختلف البضائع والمنتوجات المحلية والمستوردة التي تستهوي الزبائن والزوار، الساحة تمتلئ عن آخرها بالحشود البشرية المتدفقة عليها من كل حدب وصوب، خاصة في آخر الأسبوع أو خلال المناسبات الدينية على وجه الخصوص... الجلبة في كل اتجاه وزعيق الباعة وصراخ الناس وضجيج الحياة يعم الآفاق... أعيد عقارب الذاكرة لعقود قريبة مضت، لأتذكر كيف كانت الساحة فضاء للفرجة، تعج بشخصيات فنية شبه أسطورية تأثرت الساحة بحلقاتها الفنية والحكواتية الرائعة. أتذكر أهرام الأغنية البدوية أمثال: أحمد الوكيلي وأحمد لييو وعبد الله المكانة وغيرهم كثير... أتذكر «بوجمعة البوكسور» الذي كانت تلتقي في فضاء حلقته جيوش عرمرم من الشباب والشيوخ لمتابعة مباريات مشوقة في الملاكمة يكون أبطالها من رواد الحلقة نفسها، وحين كان يتوج أحدهم بالنصر على غريمه.. كان يعده «السي بوجمعة» ساخرا ومتهكما غدا سيُجري معك حوارا مباشرا عبر شاشة التليفزيون.. أو يمازح الآخر وأنت سيضعون صورتك على علبة الخميرة أو الكبريت..
كانت الساحة شبيهة بسوق عكاظ.. سلع وتجارة ومرح وطرب، ولعب ولهو.. وزينة وتفاخر.. وتخفيف على النفوس وترويح على القلوب من كرب وضنك الحياة.
حكايات «المسيّح» (الحكواتي) عن سيدنا على ورأس الغول وبطولات سيف ابن دييازان وقصص عنترة وعبلة وسيدنا يوسف وزليخا وحكايات ألف ليلة وليلة التي كانت تخلب النفوس وتطير بالعقول والأذهان إلى عبق الزمن الغابر(...) ما أحنَّ الماضي وما أوجعَ الحاضر، لكن الوقت والزمن هو ما نحن فيه..
الساحة الآن، امتدت أسواقها في اتجاهات جانبية واتخذت مُسميات متعددة، كسوق القدس، وسوق مليلة «المحتلة» وأسواق أخرى كثيرة.. تحمل أسماء جروحنا، أليست أسواقنا تشبهنا تماما، إنها بوصلة أفراحنا وأشجاننا !!.
نوف سمرقندي (المدينة المنورة): المناخة.. هذا سوقكم لا يضيق ولا يُؤخذ فيه خراج
بعض المعالم تظل شاخصة في الذاكرة وإن لم يبق لها أثر مادي محسوس فالذاكرة الجيدة هي الوحيدة القادرة على بعث الأشياء والأشخاص والأماكن وقد تستحضرهم بتفاصيلهم الأكثر دقة، ففي قانون الكون لاشيء يفنى، كل الأشياء قابلة للدوران وإن كان هذا الدوارن هو نوع من استعادة ملمح من ملامح الذاكرة.
وأن ُتحدث قيامة لأثر من خلال الذاكرة قد يعد نوعا من الوفاء لهذا المكان كي تنهض ملامحه على هيئة كلمات لا تموت ولا تفنى.
وأنا استحضر اليسير من ذكرياتي عن سوق المناخة، كان هذا اليسير صدى لاسم تردد في مخيلتي ردحا طويلًا وله ملامح بعيدة وشائبة ترسخت منها حكايات توارثناها حبا وأثرًا بعد أثر.
فالمكان يحمل إرثه الوجداني والحضاري وبعده الديني العميق في نفوس أهل المدينة ولما لم يبق منه سوى حكايات أحببت كنوع من الوفاء ولعلي أستطيع أن أجسده من خلال الكلمات.
ولسوق المناخة قيمة وجدانية غالية فقد خطه الرسول الكريم بنفسه بعد أن استحوذ اليهود على التجارة في أسواق المدينة الأخرى وأراد النبي الأكرم أن يجعل للمسلمين سوقا فأتى سوق بني قينقاع وضرب برجله فقال «هذا سوقكم لا يضيق ولا يؤخذ منه خراج». وقد كان هناك التزام بألا يقام في سوق المناخة بناء كي لا يدفع الباعة الكراء وتزداد أسعار السلع ويظل وقفا للمسلمين أنذاك، وظل لفترة طويلة منذ عهد النبوة وحتى فترة الحكم العثماني عبارة عن أعشاش متلاصقة وصناديق بحيث يسهل إزالتها بما فيها المتاجر وعشة المحتسب.
فكانت المناخة أحد أشهر الأسواق في التاريخ الإسلامي وتعرضت على فترات التاريخ للإزاله عدة مرات ويتم بناؤها من جديد حتى أزيلت تماما في العهد السعودي الحديث بهدف توسعة المسجد النبوي والشريف وأعيد بناؤها بشكل مصغر على جنبات الحرم المدني كنموذج مصغر للسوق القديم يعرض فيه الباعة الجوالون بضائعهم البسيطة
ولفظة المناخة ظهرت متأخرا في القرن العاشر الهجري وأول من أنشأ منطقة المناخة سليمان القانوني حيث بنى فيها القلعة السلطانية الباب الشامي وجعل الساحة وقفا للقوافل القادمة للمدينة وحيث امتدت المناخة من الباب الشامي إلى مسجد الغمامة جنوبا إلى جبل سليع شمالا. وبين مداخل المناخة تكونت عدة أسواق منها: سوق الفلتية (أوراق الشجر والدباغة والجلود)، سوق الخضار، سوق العياشة، سوق الطباخة، سوق السمكرية، سوق العطارين، سوق الحبابة، سوق الغنم، سوق البرسيم، وسوق القفافة، وكانت كلها تحت مظلة واحدة هي سوق المناخة وكان موقعه يمثل المنطقة المركزية الوسطى بين المسجد القديم والأحياء المجاورة. وامتاز السوق بمداخله العديدة وطرقاته المتعرجة والمتداخلة والتي تم هدم جزء منها في عهد فخري باشا أثناء الحرب العالمية الأولى بأمر منه حتى تم بناؤها من جديد بالصفيح في فترة حكم الأشراف وظلت على ذلك البناء حتى بدايات الحكم السعودي.
ويشرف السوق على أهم المواقع والآثار المهمة في المدينة حيث أنه كان همزة وصل تربط المنطقة القديمة بالامتداد العمراني الحديث والذي يطل برواشينه الجميلة على ساحاته المكتظة بأصوات الباعة وألحانهم.
ويعد سوق المناخة من أهم المعالم العمرانية التي حرص زوار المدينة في السابق على زيارتها والمرور بها نظرا لما اكتسبه السوق من شهرة. خلال حقب عديدة ومتلاحقة ارتبطت بهذا البلد الطاهر.
وكان الباعة الجوالون من التجار رجالا ونساء يعرضون بضائعهم في أي مكان منه من الصباح ويعودون بها في المساء، وبما أنه كان مكان تجتمع فيه حملات الحجيج اختلطت فيه أصوات الباعة وأصوات الحملدارية «أصحاب الحملات التي تقل حجاج بيت الله إلى المدينة المنورة» ولم يعد مكانا لبيع السلع أو تبادلها ومحطة للإبل أو مركبات النقل حديثا، تعدى الأمر إلى جعله مكانًا للاحتفالات واللقاءات فانتشرت المقاهي بكثرة بين فراغاته وثغوره المتعددة وكان لتوسطه ومركزيته مزارا شبه يومي لسكان الأحياء المجاورة دون استثناء، ففيه تعرض كل سلع الاستهلاك اليومي؛ اللحوم الدواجن والخضراوات والفاكهة والتمور المدينية على اختلاف أنواعها، وتأتي المصنوعات اليدوية لتضفي على المكان هالة الماضي وعبقه الأصيل فتباع فيه سلال الخوص والمكانس التي تصنع من سعف النخيل، وشتلات لليف الطبيعي الذي يستخدم في الاستحمام، وأقفاص الدجاج البلدي والبيض والسمن والتي اختصت بعرضها نساء البادية والقرويات، فكان أشبه بمهرجان تتنوع فيه الفعاليات والبضائع والوجوه من كل الأجناس والألوان والرغبات وإن كان السوق يحمل هوية البقعه الطاهرة فلا يوجد هوية محددة تحت سقيفته.. فتتماهى الأشياء بجماليتها المتعددة وبساطتها والآن وقد أصبح السوق جزءا من الماضي ولأن المدنية لا تقيم أود ضراوتها إلا على أنقاض البسطاء أزالت السوق بتاريخه وأناسه وإن لم تفلح في اجتثاثه من ذاكرة الزمن.
ودائمًا أردد؛ لا يمكن لذاكرة المدنية أن تكون وفية، فالهدم الذي تحمله معاولها لا يبقى ولا يذر ولا يرص حجرا في كتب التاريخ ولا يبني ذاكرة حب تروي عطش الأماكن للعابرين، وأيضا لا يمكن لإرث ظل شاخصا قرابة الألف وأربعمائة سنة أن يمضي هكذا دون أثر، لذلك ظل علما في وجدان كل عاشق للمدينة وساكنها فكتب التاريخ نعيه عن المكان ووقف على أطلال مكان شهد موضع قدم أغلى من وطئ الثرى.
يوسف حمد (السودان): خلق الله القرية.. وصنع الإنسان المدينة وسوقها
حتى سن العاشرة، كان السوق بالنسبة لي شيئا مبهما، ومكانا باهتا لا أستطيع توصيفه إلا كجغرافيا تقع إلى الشمال البعيد من قريتنا الموغلة في الريف. وفي أحسن الحالات وضوحًا، هو المكان المطابق للمدينة المرذولة في عرفنا كقرويين يصارعون من أجل حماية القرية من روح المدينة الصاخب، وربما يستبطنون في ذلك المقولة القديمة: «خلق الله القرية، وصنع الإنسان المدينة».
كان اقترابي من السوق مدعاة للقلق والأرق حين طلبت إليَّ خالتي زينب، في مساء مبكر، أن أرافقها إلى سوق المدينة في صبيحة اليوم التالي، وهو سوق يختلف إليه الآلاف من سكان قرى وسط السودان، يقضون فيه حوائج طارئة ومتعددة؛ يلبونها على مضض وضجر، عرفت هذا من الهم الذي يبديه والدي في كل مناسبة ينوي فيها الذهاب إلى السوق، أما أمي فهي ريفية لا تشتهي السوق أبدًا.
ليلتئذٍ، لم أنم حتى الصَّباح، ولم أستطع في أرقي العاصف أن أحدِّد ملامح للسوق. وعلى مدى سنوات تقترب من الثلاثين، لم أطوِّر أي علاقة بالسُّوق، واحتفظت بقلقي الأوَّل حياله، وأضفت إلى القلق، الإحساس بأن السُّوق هو المكان الذي سيقطع فيه حلقومي، وهاهو القلق والخوف على الحلقوم ينتاباني وأنا ألبي طلب الكتابة عنه هنا.
ترددت كثيرًا في رواية هذه الواقعة التي كان مسرحها سوق مدينة المناقل.. هي واقعة مؤسفة بالنسبة لي، وقد تركت ندبة نفسية عميقة، لا يمكنني نسيانها.. ربما كانت خالتي زينب هي الوحيدة التي تعرفها من بين أفراد عائلتنا الممتدة، بل كان لها دور البطولة الحقيقة؛ لأنها أنقذتني من مصير مجهول بين يدي شخصين أرعنين متسرعين، يلفهما سوء الظن، مثلما يلف أي مرتاد للسوق.
كان ذلك إبان الحقبة التي احتفظت فيها القرية بمكانتها وخصائصها المتفردة عن المدينة، حينما طلبت إليَّ زينب الذهاب معها إلى سوق المدينة؛ لأنها تنوي التقاط صور شخصية لتدبج ضمن أوراقها المطلوبة لامتحان السنة النهائية للثانوية العليا... ركبنا، أنا وهيّ، مع من ركب إلى المدينة في ذاك الصباح، كنا جيشًا من القرويين، سرنا على ظهر شاحنة النقل العملاقة حتى بلغنا سوق المدينة في حدود الساعة التاسعة، تقريبًا.
كانت زينب تحبني، وتجد سعادتها البالغة حين تكتشف فيَّ ما يدل على أنني طفل ذكي وموهوب.. وفي يوم الواقعة، آثرت أن تبلغ بسعادتها الحد الأقصى ونحن نمر على شوارع المدينة؛ ووسيلتها لذلك اختبار قدرتي على القراءة، متذرعة بتدريبي على التقاط الكلمات الجديدة الغريبة على المقرر المدرسي الذي انخرطت فيه قبل سنوات بسيطة. فكانت، بين الفينة والأخرى، تطلب إليَّ قراءة اللافتات التي تصف المتاجر والحوانيت والخدمات بالمدينة، وما كنت أتقاعس في إسعادها وإثبات نبوغي. قرأتُ عليها، بصوت مسموع، لافتات: «بوتيك مصر: إدارة صلاح موسى.. بوتيك زوراتي.. مكتبة النور الثقافية.. أجزخانة الشفاء»، ولافتات أخرى كثيرة تروِّج للسلع وتدعو للاستهلاك!
في طريقنا راجلين إلى مبتغانا داخل السوق، كنت أقرأ عليها كل ما تقع عليه عيني، وهي تضمني ضاحكة مسرورة، وتمطرني بعبارات الإطراء. وهكذا، سرنا نقرأ ونضحك كما لو أننا لا نحمل أمرًا جادًا في هذه الحياة، حتى وصلنا إلي «ستديو السعادة للتصوير الملوَّن».
اُلتقطت لزينب عدة صور في أوضاع مختلفة: صورة بملامح جادة، احتاجت أن تبدو فيها صارمة، وصورة أخرى أطلقت فيها العنان لشعرها حتى انتهى إلى فخذيها وهي جالسة، وصورة عقفت فيها الشعر وجعلته أشبه بعمامة الرجال، وصورة أخيرة ابتسمت فيها وجلست لها في وضع مائل يظهر سلسلة ذهبية بدت منسجمة مع رقبتها. أما أنا؛ فلم أحفل بالتصوير، وأحسست أن لديَّ خالة مستعدة للتنازل عن ريفيتها والإنجرار في روح المدينة ولو عبر شخصية تطبع على الورق.
لم أرغب في التصوير وفضلتُ مواصلة القراءة في ما كتب على حوائط المكان وأبوابه. قرأت جميع العبارات، ولم تعجزني غير كلمة واحدة كتبت على الباب من الخارج. وسبب عجزي هو أنَّ شخصين كانا يتسامران أمام الباب وقد غطى جلباب أحدهما الكلمة التي أنوي قراءتها.
انتظرت ذلك الشخص حتى يتحرك من مكانه، لكن دون جدوي؛ فأصابني الملل. وربما حتى الآن، لا شيء يمكن أن يزعجني ما لم يحجب عني رغبتي في القراءة. ولوضع نهاية لهذا الملل، تحركت ناحية الشخص صاحب الجلباب؛ فلم يعر اقترابي اهتمامًا.. فكرتُ في استئذانه، لكنني تراجعتُ خشية الإحراج؛ فما كان مني إلا أن أزحتُ الجلباب قليلًا حتى تبدو الكلمة المطلوبة واضحة، وهنا أحس بحركتي، فأطبق على رقبتي بقسوة كما لو أنه تدرب على لحظة ينتظرها منذ سنوات.
بماذا كان يفكر صاحب الجلباب سوى أنني صبي نشَّال!
إبراهيم الجبين (سوريا): في القيمرية .. حيث عشت
تعصف برأس المرء حين يعبر سوق القيمرية الدمشقي من أوله الذي بلا بداية، إلى آخره المفتوح على اللانهاية حول الجامع الأموي، أرواح من عاشوا في المكان عبر أزمنة عديدة. ولعله يرتطم بأشباحهم على الدرجات العملاقة التي تصعد به من مقهى النوفرة إلى باب جيرون العتيق.
هناك في القيمرية ملتقى أسرار دمشق والمشرق كله تتقاطع في سوق عريقة. حيث التجار القدامى وباعة الحرير والنحاس والفضة وخشب الجوز والمشمش. حيث بنى مدرسته القيمرية الكبرى الأمير ناصر الدين بن أبي الفوارس في العام 1252 في أواخر العهد الأيوبي، فغلب اسم القيمرية على السوق، بعد أن كانت تدعى سوق «الحريمين».
تصل إلى القيمرية من باب توما المسيحي، وحي العمارة والشاغور وباب شرقي. لتذهب بك خطواتك في كل اتجاه، لكن جميع الاتجاهات تتفرع من القيمرية. ولا تلبث أن تجد نفسك محمولًا بأفياء القيمرية وظلال شجيراتها وطرقها الحجرية، إلى سوق القباقبية وبوابة معبد الإله حدد الآرامي ثم إلى بوابة معبد جوبتير الباقية من زمن دمشق اليونانية والرومانية.
ألم أقل لك إن الأسرار كلها تنفتح أمامك بمجرد سيرك في سوق القيمرية؟ فالحجارة التي تراها ليست مجرد حجارة، لكنها مدونات أنثروبولوجية وثقافية وجغرافية واقتصادية واجتماعية كبرى، تتلاصق وتتجاور، وما عليك سوى أن تتوقف عند كل متر منها، وتراق وتتفكر.
مسرح دمشق المفقود
تتخذ البنية المعمارية للقيمرية شكل الخط المستقيم، وعنه تتفرع طرق ضيقة يمينًا ويساراً، ومن سوق القيمرية، تبدأ رحلة أخرى إن شئت يغلب عليها طابع البحث الهندسي، حيث ما زال الآثاريون يجهدون للعثور على المسرح الروماني الدمشقي ومدرجاته، إذ من المعروف أن لكل مدينة بناها الرومان مسرحًا كان يستخدم لأغراض ثقافية ولضرورات الحكم الأخرى، والذي لطالما مثّل طابع روما وهيبتها. لكننا لا نجد له أثرًا في دمشق، الأمر الذي دفع بكثيرين لافتراض وجوده في هذا المكان أو ذاك تحت العالم الذي نعرفه. ولكن أكثر تلك الاحتمالات قوة تقول إن ذلك المسرح الروماني المفقود يختبئ تحت بيت شهير من بيوت دمشق القديمة، يعرف بين الناس باسم «بيت العقاد» يمكنك أن تصله من القيمرية رغم وجوده في حي البزورية. وقد عرفت ذلك البيت جيداً، فقد تم تحويله قبل سنوات إلى مركز ثقافي، بعد أن اشتراه الدنماركيون. وفيه قدمت محاضرة لي حول علاقة الدراما السورية بالسلطات، بالتعاون مع الباحثة الإيطالية الصديقة دوناتيلا دي لارتي. وحضور عدد من من المخرجين وكتاب الدراما المهمين مثل الأستاذ هيثم حقي وآخرين.
بيت العقاد هذا يعود إلى زمن المماليك في القرن الخامس عشر. حيث ترتفع في صحنه من جهة الشمال لوحة عملاقة تطوقها سبع إطارات زخرفية، وقد صنعت من حجارة ملونة سوداء وحمراء وصفراء، وفي منتصفها ينهض قرصان للشمس السورية وداخل كل منهما خط هندسي عربي اشتهر في الكنائس السورية القديمة. وقد ذهبت شكوك الباحثين والمرممين إلى وجود المسرح الروماني تحت البيت، ظهور جدران وأقواس فوق مستوى الأرض ترجع إلى العهد الروماني. حيث ظن الباحثون والمنقبون أنها مداخل المسرح الروماني العملاق المفقود.

نهر الثقافات
كنهر ثقافي يجري من شرق دمشق إلى غربها، شكلت سوق القيمرية في القرن التاسع عشر عقدة تجارية عالمية، وكانت تسمى «الهند الصغرى» لتمركز التجارة ونفط العالم القديم فيها؛ النسيج. وكان انفتاح السوق على الجامع الأموي الذي يجمع الناس يوميًا وأسبوعياً، دور مهم في رفد مصلى المسجد من الدمشقيين والمهاجرين إلى دمشق، بما يصب في القيمرية من ثقافات جديدة تأتي مع البضائع من كل مكان في الدنيا.
وكان لتعدد الحرف المنتشرة في القيمرية دور كبير في تعدد تلك الثقافات، فكنت لا تجد فيها دينًا واحدًا ولا عرقًا واحداً، بل تجد أسطوات الموزاييك المسلمين قرب صناع الحرير المسلمين بجانب النحاسين اليهود. إذ بعد قليل ستأخذك القيمرية من زمنك إلى أزمنة أخرى مع وصولك باب السلام أو حي الخراب أو حي الجورة. فترى مع المعمار المتعدد سكانًا من هويات وثقافات متعددة أيضًا.
المعلقات البصرية التي تجري مع نهر الثقافات في القيمرية، تتجاوز الألوان والتصاميم، إلى موجات الأشكال والأذواق التي تمثل فكرة المدينة وجوهرها، قبل أن تطلب منك السوق أن تستريح في النوفرة. وهي مقهى دمشقية باتت عالمية اليوم. بفضل شهرتها الكبيرة وتردد السياح عليها. غير أنها قبل ذلك كله، مكان خاص بأهله. فيه تلتقي الحكايات التي يرويها الحكواتي، وكان أبو شادي آخر حكواتي حي عرفته في النوفرة، ومن قبله كان آخرون يروون سيرة الزير سالم وعنتر وعبلة، وخلفية صوتهم صوت خرير ماء النافورة التي اشتقت المقهى اسمها منها، والتي ترويها مياه نهر بانياس أحد فروع بردي السبعة.
على طاولات مقهى النوفرة النحاسية الرشيقة، كتبت روايتي «يوميات يهودي من دمشق» وشربت آلاف فناجين القهوة، وتعلقت بالطاولة القديمة، حتى رجوت مالك المقهى أن يقبل ببيعها لي، فعرض أن يقدمها هدية، لولا أني اعتذرت عن قبول كرمه ودفعت ثمنها، كان مستغربًا إلحاحي على شراء طاولة صغيرة محنية الأرجل مائلة السطح، غير أني وجدتها مثيرة جدا وهي التي تعود إلى مئتي عام مضت وقد رافقتني لسنوات، قبل أن تضيع في دوامة دمشق.
وغير بعيد عن النوفرة، بضعة أمتار فقط، ينهض حمام النوفرة الكبير، حيث صوّرتُ أولى حلقات برنامجي الحواري السياسي «أهل الرأي» وكان ضيفي فيه الصديق الإعلامي المصري الكبير يسري فودة. وكان حديث قديم شيق عن الإعلام والمغامرة وتنظيم القاعدة وأسرار تقال للمرة الأولى على الشاشة.
عن ذلك الحمام الذي يقع قرب الجامع الأموي، يُروى أن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك المسجد حين بنى الجامع الأموي، قال لأهل دمشق «تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة».
تحملك رحلتك الذاتية والعامة من زاوية النوفرة في القيمرية إلى باب البريد والكلاسة. ثم إلى مكتب عنبر القصر اليهودي جنوبًا الذي تحول إلى مدرسة خرّجت أجيالًا من مثقفي ورواد سوريا وبلاد الشام. لتصل إلى سوق مدحت باشا والشارع المستقيم أو ما كان يُسمى في التاريخ القديم لدمشق «فيا ريكتا». وقبل ذلك ستكون قد مشيت على مقربة من دار الحديث مدرسة العلوم العريقة في دمشق وكذلك المدرسة البدرئية والمنكفة حيث يجري كيّ المنسوجات والأقمشة التي تنتجها الأنوال التي ما تزال تسمع صوت بكراتها وهي تجيء وتذهب مبشرة باستمرار الحياة في دمشق رغم الاستبداد والظلاميين وسائر القتلة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى