محمد علام - كيف خرج توفيق الحكيم من مجلة الرسالة؟..

كتب توفيق الحكيم خاطرة صغيرة في مجلة الرسالة لـ أحمد حسن الزيات بعنوان «تواضع الأديب» قائلا: «إني أرى شعار الأديب الحق هو: تواضعٌ في معاملة الناس، وتعالٍ في معالجة الأفكار. لقد آن الأوان لأذكياء القراء أن يقفوا بالمرصاد لكل أديب يحاول أن يتعاظم بالحط من غيره، وأن يرفع قدر نفسه بوسائل لا تتصل بجوهر الرسالة العليا للفكر والأدب». 2 مارس 1942م

أثار الحكيم مسألة غرور الأديب، لا في الفكر، بل في السلوك، وسرعان ما خلف ذلك معركة كبيرة وسط دوي الحرب العالمية الثانية المشتعلة في الأرجاء. واشتعل السؤال في ذهن كل قارئ: تُرى من الذي يغمز إليه الحكيم؟ كانت الصحف في ذلك الزمان تتسع لمساحات من البوح، وأمور شخصية، والإشارة إلى زيارة صديق، أو نزهة، هذه المساحة التي استحوذت عليها الآن شبكات التواصل الاجتماعي، ما جعل معظم المجلات تركز على مناقشة الأفكار، وغابت شخصية الأديب، وهذا ربما هو الفارق الجوهري بين عصر الحداثة وما بعدها.

على هذا الأساس، كتب زكي مبارك عن زيارته لتوفيق الحكيم، وأنه سأله بصراحة إن كان يقصده فلماذا أضمر ذلك ولم يعلنه؟. ولكن الحكيم أوضح أن المسألة لا تعنيه، وختم زكي مبارك مقاله بتحذير واضح للحكيم: «لا تخف يا صديقي العزيز، فإن الذي حدثتني أنك تعنيه، لا يملك غير قلمه، والقلم في هذا الزمان يضر أكثر مما ينفع، وهل آذاني غير قلمي؟ أوْضِحْ، أوْضِحْ، فإن لم تفعل فسأنوب عنك في الإيضاح. صنع الزمن ما صنع، واستطال الدهر ما استطال، فمن يعزيني وقد استباح أن يكتب كلمة تُوهم أنه أكبر من أن يكون صديقي؟». 13 أبريل 1942م

كان الحكيم يفكر في الطريقة التي استقبل بها العقاد إهداء طه حسين كتابه دعاء الكروان، لما فيها من الجفاء والتعالي غير المبرر، ودعا في مقالة بعنوان «الصفاء بين الأدباء» إلى أن يودع الأدباء ما بينهم من ضغينة، وأن تكون خلافاتهم فقط في الأفكار وألا ينعكس ذلك على معاملتهم الشخصية لبعضهم، وأن يكون الأدب قبل كل شيء مودة ورحمة بين الأدباء.

ربما كانت هذه الدعوة في ذاتها لتمر مرور الكرام، لكن وضع اسم العقاد محل انتقاد وتقويم، أمر كاف لإشعال جنونه، خاصة وأن الحكيم عبّر عن ذلك باتهامات واضحة. قال الحكيم: «استأت في نفسي من الأستاذ العقاد بعض الاستياء، وأنا الذي يعتقد دائمًا أنه يخفي وراء قناع الكِبر والتكبر نفسا طيبة تتفجر إذا اطمأنت بأجمل عاطفة وأنبل إحساس، فإن الذي يستطيع التأثير في نفوسنا بكتاباته عن الكلب «بيجو» لابد أن يحمل نفسا خليقة أن تفيض بالمودة نحو إنسان!» 20 أبريل 1942م

ولم يرد العقاد على اتهامه بالكِبْر أو التكبّر، فهو لا يجد من هذه الصفة تهمة يتنصل منها، بل كانت مصدر اعتزاز وفخر له طوال حضوره الثقافي، وعلّقَ على مسألة غياب الرقة في أسلوبه وسخر من الأديب الفلاح زكي مبارك، ومن هذه الملاحظة الساذجة أن تصدر من الحكيم، لأنها إذ صدرت منه نفت عنه صفة الأديب، وهو ما ذهب إليه بقوة مُقرًا بأن طه حسين رفع من شأن توفيق الحكيم أكثر مما ينبغي حين كتب عنه، وتساءل العقاد لماذا ينكر الحكيم طوال الوقت دور الناقد في التنبيه للأدب الجيد ولماذا يتنكر لكل من تنبهوا له قبل شهرته؟.

كيف يمكننا أن نتقبل الاختلاف؟ نقاش واحد حول نقطة بسيطة كالغرور والتواضع، أثارت كل هذه الأزمة؟ لقد أشار الحكيم في مقالاته هذه إلى شيء مهم للغاية، وهو غياب الصداقات العظيمة بين الأدباء، وهو بعد ستين عامًا ما يجعلنا نتساءل عن سبب غياب ما خلفه الأصدقاء من رسائل وآثار مثلما ترك الغربُ أمثلة عديدة على ذلك، ولعلنا نجد أن رجال الفكر والأدب في الحضارات الكبرى جمعت بينهم صداقات عظيمة، ولذلك علق على ما كتبه العقاد قائلًا: «لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل "هملت": تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون تبين الوجوه، فطعنت صديقًا وأنت لا تدري».

ونفى الحكيم عن نفسه أن يكون لطه حسين أي فضل في الرفع من قدره، وأنه في غنى عن الحديث عن العميد الذي سرقته السياسة من الأدباء، وصار من رجال السلطة لا من رجال الفكر، وأخذ يعدد كيف احتفى الغرب به قبل أن يقرأه طه حسين أو يسمع عنه.

ويبدو أن دفاع الحكيم عن نفسه أفحم العقاد فانسحب من الحلبة، لكنه شحن ضده زكي مبارك الذي ركز على نقطتين، الأولى هي كيف يسكت القلم عن طه حسين لمجرد أنه يشغل منصبًا سياسيًا؟ والثانية هي مكانة الأديب والقاضي في الحياة. ذلك لأن الحكيم قال أنه فضّل الاشتغال بالأدب والصحافة على أن يكون قاضيًا، وما يحمله حديثه عن أن القاضي أفضل دخلًا ومكانة من الأديب، وبرز سؤال ظل حديث الصحف لفترة، أيهما مسؤول عن الآخر الأديب، أم السياسي؟ وإلى ماذا تنتهي مسؤولية السياسي؟ وإلى أي مدى يحق للأديب أن ينتقد السياسي، وما الفرق بين التقويم والتوجيه؟ وقدم زكي مبارك في مقال بعنوان «طلائع هجوم الصيف.. رجال الأدب ورجال القضاء»، ضربات لا تُصد ولا تُرد وهي التي دفعت "الزيات" أن يُلقبه بـ "المُلاكم الأدبي".

قال زكي مبارك: «أتقول هذا الكلام يا توفيق في مجلة مثل الرسالة هي عنوان الفحولة الأدبية، ثم تنتظر أن نراعي أحزانك فلا نرد عليك؟ أتعتقد مؤمنًا أن القاضي يخدم العدالة أكثر مما يخدمها الكاتب؟ أيهون الأدب على أهله إلى هذا الحد من الهوان البغيض؟ أيكون اليأس من الاقتران بامرأة لها سيارة وعمارة، باعثًا على الضجر من صحبة الكتاب والخطباء والشعراء؟ أيكون نفوذ طه حسين شيئا يُخاف فُتحبّر فيه المقالات الطوال العراض؟ لو كان بيدي شيء من الأمر لقضيت بنفي توفيق الحكيم إلى جزيرة واق الواق… أنت في جماعتنا دخيل يا توفيق، لأنك تقدم علينا رجال القضاء ولأنك تهيب أصحاب النفوذ وبين النفوذ والنفوس جناس معلول… نفيانك نفيانك، ولن نلتفت إليك بعد اليوم إلا أن تُستاب فتتوب... عندنا نفوذ لا يقاس إليه النفوذ، عندنا أرواح وقلوب، عندنا نار تصهر روحك حين تريد فهل ترجع إلى عشك أيها العصفور من الشرق؟».

ووجد الحكيم أنه يتورط كل مرة في خصومة جديدة بمشكلة أكبر، وهو ما كان يريد سوى أن يشهد حياة رقيقة كالتي عرفها في فرنسا حيثُ يتواصل الأدباء مع بعضهم بكل لطف رغم اختلاف أفكارهم ومنطلقاتهم، وعلى ذلك وجه مقاله الأخير في مجلة الرسالة، لا إلى العقاد، ولا زكي مبارك، ولا طه حسين، بل لصديقه وصاحب مدير مجلة الرسالة أحمد حسن زيات قائلًا:

«صديقي الزيات، حتى أنت خاب أملي فيك... لا لأني متألم من كلمة نابية نُشرت، فما أكثر السهام التي يرشقني بها الناس في كل ظرف ومناسبة! هنا ونفترق.. وليكن اليوم آخر عهدي بك وبـ (الرسالة) والأدباء لن أكتب لك شيئًا بعد اليوم، ولن أذكر بعد اليوم أديبا بخير ولا بشر، سأصمت عن أشخاصهم صمت القبر، لأنصرف إلى إصدار كتبي لقرائي الأوفياء».

وربما يُثار سؤال حول هذا الموقف الحرج الذي كان فيه الزيات،ماذا لو تكرر الأمر الآن بين صديقين، أحدهما مسؤول عن نشر مقالة تسيء إليه وتكيل له الاتهامات وتهدد بنهاية صداقتهما، فهل سيقبل نشرها؟ أم أنه سيلجأ إلى تصفية الأمر وجها لوجه أولا؟ وربما أن ذلك الجيل كان ينطلق من خلفية المساجلات والمبارزات الشعرية التي حفظت للعرب جزءًا كبيرا من ثقافتهم، وخلدت أدبهم، ولا ضير أن يكون لهذه المساجلات مظهر نثري جديد، يعبر عن ثقافتهم ويخلدهم أيضًا، ربما تكون المسألة برمتها محكومة بعوامل اقتصادية هي التي فرضت على الزيات أن يتخلى عن دوره كأديب ومثقف كبير، وأن ينظر للأمر برمته نظرة التاجر الذي يهمه أن يبيع أكثر كما أشار الحكيم في ثنايا مقاله الأخير قبل رحيله من الرسالة.



أعلى