سعدي يوسف - حانة لامبيانس.. قصة قصيرة

كان ضحىً ربيعيٌّ غريبٌ ينتشر في شوارع المدينة، وفي السماء التي لا يُلمح فيها سوى قطع صغيرة من غيوم بيض عالية جداً... أما جبل "تسالة" الغائم عادة، فيبدو شديد الوضوح، حتى ليتخيل المرء ـ دون جهد ـ ممراته الضيقة، المحفوفة بأشجار الصنوبر والعفص... حتى الأشجار الجرداء المتشققة اللحاء في الشارع الذي يصل بين وسط المدينة وثكنات الدرك الوطني، تبدو كأنها سوف تنفتق فجأة عن براعم خضر ذات زغب أبيض.
كان يوم أربعاء.
ازحت ستائر الحبال المنظومة خرَزا من البلاستيك الملون، ودخلت "لامبيانس"، مخلفاً ورائي، للحظةٍ قصيرةٍ، الصوتَ اللدن لارتطام الخرز ببعضها، وجلست في ركن من الحانة، ثم طلبت رُبع زجاجة من النبيذ الوردي. وأخرجتُ كتاباً.
يوسف كان وحده.

حين جلس معي، بعد أن وضع الزجاجة والكأس، ابتسم (وجهٌ نحيلٌ مثلثٌ حليق)، وفتح الزجاجة (أصابعه طويلة معروقة)، وأدناها مني (كمّاه نظيفان ومتآكلان)، نظرت إليه (عيناه صغيرتان لامعتان)، وصببتُ له كأساً صغيرةً (قميصه قطني ذو مربعات).
قال لي: لا أشرب. شكراً.
ـ بيرة... شيئاً آخر.
ـ لا أشرب أبداً... لا أشرب أي كحول.
كان النبيذ البارد ذا مذاق أقرب إلى الحلاوة. أحسستُ بعد أن اتممت شرب الكأس الأولى أنني بحاجة حقيقية إلى كأس ثانية.
قال يوسف: ماذا تقرأ؟
قلت: أحاول قراءة كتاب باللغة الفرنسية.
ـ ونحن نريد أن نتعلم العربية.
صببت لي كأساً ثانية. كان يوسف يراقبني مبتسماً.
قال: إنك لا تخفي شيئاً.
ـ لأني أعرف أشياء كثيرة.
ـ هل تعرفني؟
ـ نعم.
ـ من حدثك عني؟
ـ كثيرون.
ـ سمعت أنك تكتب...
ـ قليلاً.
ـ ستزورني إذن؟
* * *
أطلقت عجوز إسبانية جالسة على مقعد في الساحة المواجهة لقصر العدل صرخةً حادة، واختطفتْ سلتها الخيزران الفارغة، مندفعة نحو شبكة الأزقة التي تصل بين الساحة والبوليفار المحاذي لعمارة دي لاتر دي تاسيني البعيدة، وهي تتمتم في شبه تشنج: القنابل! القنابل!
بينما مزقت انفجارات أخرى زجاجَ السيارات الواقفة في الشارع المحاذي لمقهى الكاميرون. وانطلق من أعلى المسرح البلدي صوتُ صفارة الإنذار.
في حين اندفعت سيارتان للإسعاف وهما تطلقان أبواقهما الموحشة. ومن ناحية الثكنات قرب الحديقة العامة، جاءت ناقلتا جنود وسيارةُ إسعاف. كان يوم أحد.
وفي مقهى الكاميرون المزدحم ينتظر الأوربيون نتائج اليانصيب الكبير بين كؤوس الريكار والرقصات السريعة التي تتخلل هذه الكؤوس. وفي الجهة المقابلة، في وسط المدينة تماماً، يرتفع على جدار عال شعار منظمة الجيش السري الفرنسية، بحروف ضخمة: ORGANISATION AVENIR STABILITE في واحدة من هذه اللحظات، انفجرت السلة الموضوعة أسفل الكونتوار، في مقهى الكاميرون. وتطايرت عشرات القناني والألواح ومصابيح الثريات شظايا مسنونةً ملأت المقهى بركام من الأجساد والملابس الممزقة والمحترقة، بينما ظل الحاكي وحده يكرر مقطعاً أخيراً من موسيقى راقصة.
في البارات والساحة المجاورة انبطح الناس أرضاً.
وفي الساحة المواجهة لقصر العدل حيث تقف الدراجاتُ الهوائية في صف مستقيم، مثل أسلاك شائكة ذات عمق، اندفعت دراجةٌ متجهة إلى الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفية.وكان فوقها فتى جزائريٌّ نحيل.
ـ إنه هو... إنه هو...
سيارة الإطفاء تقتحم الجمعَ الذاهل، المحتشد الآن حول مقهى الكاميرون الذي يلفه الدخان، وينزل رجال مسرعون من سيارتي الإسعاف فاتحين البابين الخلفيين، ويهبط جنودُ الفرقة الأجنبية قافزين من الناقلتين مدججين بالسلاح، ويسيطرون في خطة مرسومة على المنطقة الممتدة بين وسط المدينة ومرقص الأميركان.
ـ إنه هو... إنه هو...
عشرات الأيدي تشير باتجاه الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفة، حيث اندفعت الدراجة الهوائية قبل قليل.
إحدى سيارتي الإسعاف تبتعد عن "الكاميرون" وهي تطلق أنينها المتقطع المفضوح، وجنود الفرقة الأجنبية يدققون هويات الناس. في حين تسرع سيدة فرنسية وراء كلبها الذي يقطع الشارع نحو السوق المركزي، وهو يتلفّت.
* * *
بين السوق المركزي ودار البلدية تقع حانة "لامبيانس"، وبالضبط في الفرع الثاني قبل دار البلدية بالنسبة للقادم من السوق. تفتح الحانة منذ الصباح الباكر لتقدم القهوة والحليب وخبز الأهلة، أو كؤوساً صغيرة من النبيذ الأحمر لزائري الصباح المعتادين. وبين الثامنة والثانية عشرة تقفر الحانة إلا من متشرد أو اثنين، أو جندي سابق في جيش التحرير، أو فلاج جاء المدينة من المزارع القريبة. أما الغجري الذي يطوف المدينة بائعاً اللوزَ المملح فيتخذها محطة استراحة ثابتة يشرب فيها كل ظهيرة، زجاجة بيرة متوسطة. وبين الثانية عشرة ظهراً والثانية تزدحم الحانة بالمتعجلين ممن يشربون على دفعة واحدة كأساً أو كأسين من النبيذ أو الريكار أو عرق الكريستال، أو زجاجة البيرة الصغيرة التي تملأ كأساً واحدة بالتمام. في هذا الوقت القصير المخصص للغداء والاستراحة قبل الشوط الثاني للعمل.
وفي المساء، ابتداء من السادسة، يقدَّم السردين المشوي مع النبيذ والريكار والكريستال والبيرة. سردينتان لكل كأس، وتشتعل الأضواء في واجهة الحانة وداخلها، وتتعالى الأغنيات المسجلة... ويمتلئ الجو برائحة الدخان والصوف، فالفلاحون وجنودُ جيش التحرير السابقون ذوو البرانس الخشنة وغطاءات الرأس الضيقة هم الزبائن الأكثر ثباتاً وإن كانوا الأقل إنفاقاً... كما تضفي رائحة السردين المشوي وشبكةُ الصيد التي تتدلى منها أغلفة الأسطوانات الفارغة فوق صف القناني الطويل جواً من الرطوبة البحرية الكثيفة، في مدينة تبعد 80 كيلومتراً عن البحر.
إن رواد الحانة يبدون غرباء على الأثاث والديكور الخشبي الثقيل هنا: المقاعد الطويلة الثابتة، والموائد العريضة المستقرة والجدران المكسوة بخشب من لون المقاعد والموائد، والثريات الخشبية الضخمة التي تتدلى منها المصابيح.. الكونتوار وحده ـ حيث يزدحم الرواد ـ هو الجزء الأكثر ملاءمة لهم في "لامبيانس"، إذ يمتد من مدخل الحانة مباشرة حتى الباب الداخلي المؤدي إلى باحة صغيرة ملحقة، محتلاً ثلث مساحة الحانة تقريباً، مما يضمن للرواد حرية الحركة، وللحانة قدراً من الاستيعاب يعوض عن ثلثي المساحة اللذين تحتلهما الموائدُ المستقرة الثلاث والمقاعد الطويلة المحدودة التي تجاورها بشكل متواز.
وراء الكونتوار يقف يوسف دائماً يبتسم، ويتحدث قليلاً، ويدير الآلة الحاسبة، وأمام يوسف يقف كل مساء الفلاحون وجنود جيش التحرير السابقون. يقفون كل ليلة بالعشرات، ويختفون بالعشرات في الشوارع المعتمة والطرق الريفية، صاخبين أو صامتين، متحصنين ببرانسهم وجلود وجوههم الخشنة،ملقين على يوسف تحيةً أخيرة، ونظرة اعتذار متبادل، متفاهم عليها مسبقاً، وحين يختفي آخرهم متعثراً في الضوء المتضائل خارج الحانة يتنهد يوسف، ويصب لنفسه قدحاً صغيراً آخر من الماء المعدني، ثم يبدأ بتوزيع الدخل، بينما يتابع رجلان تنظيف الكونتوار والأرضية الملاصقة له من البقايا الدقيقة للسردين المشوي وأعقاب السجائر والثقاب.
في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل يطفيء يوسف أضواء (لامبيانس)، ويختفي هو أيضاً في منعطف الفرع، بين صيدلية علال ووكالة شركة فيليبس، متجهاً إلى منزله، صامت الخطى، نحيلاً، مثل قط حذر.
* * *
بعد أقل من ثلاثة كيلو مترات من الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفية، يختفي آخر عمارات المدينة، ويظهر الريف فجأة، واسعاً، مترامياً، لا نهائياً.
إن منطقة التلال المتموجة تبدأ هنا بمرتفع بسيط لا يكاد المرء يحسه، ولكنه يفصل في الواقع، المدينة عن الريف.
قدكان يوسف ترك دراجته الهوائية خلف مرآب مهمل لتصليح الآلات الزراعية، وحاد عن الطريق المعبد إلى حيث حقول القمح المسنبل العالي المتأرجح بوقار تحت ريح خفيفة.
كانت ساقاه تؤلمانه.
وفي الدورات الأخيرة لعجلتي الدراجة أحس أن ساقيه منفصلتان تماماً عن إرادته، وكان عرقٌ بارد لزج يتجمع بين قدميه وباطن حذائه حتى ظن أن حذاءه سينزلق ويسقط، كانت ساقاه قطعتي لحم مستطيلتين تتدليان إلى جانبي الدراجة دون نبض أو استجابة.
لو تأخر الانفجار خمس دقائق فقط، لما أمكن لتلك العجوز الإسبانية أن تشير إلى دراجته المبتعدة:
ـ إنه هو... إنه...
بل لما احتاج إلى الدراجة نفسها، كان بإمكانه ـ لو تم الأمر كما أراد ـ أن يبلغ في تلك الدقائق الخمس الحيَّ العربي، وأن يدخل أول دار أو آخر دار، يبقى فيها ما يشاء حتى تدبر أمره الجبهة. هذه الدراجة الملقاة هي السبب في المشكلة كلها، كان يستطيع أن يحمل السلة بيده، ويضعها في المكان المقرر من مقهى الكاميرون قبل خمس دقائق من الانفجار أو حتى أقل، لكن العجلة الخلفية كانت تحتاج إلى نفخ، العجلة الخلفية في الحقيقة هي السبب.
بلغ يوسف حدودَ الأرض اللامنتهية المتماوجة بالسنابل ذات الإبر السود الهشة. كانت موجةٌ دخانية السواد تتحرك على أرضية صفراء من السيقان الملتحمة العالية... ومن وراء المرتفع اليسير الفاصل بين سهل المدينة والأراضي المتموجة التي تحتضن يوسف الآن، سمعَ هدير السيارات العسكرية. ألقى يوسف بنفسه على الأرض التي تغطيها السنابل العالية، وسمع دقات قلبه عنيفةً متلاحقةً حتى لقد خشي أن يسمعها أحد، ولأول مرة شعر بالعطش يخز حلقَه المتخشب. وزحف منبطحاً إلى أعماق السنابل.
مرقت ثلاث سيارات عسكرية.
واستدلَّ من طبيعة صوت هذه السيارات أنها ستسير مسافة أبعد. كانت الشمس حادة باهرة، وكانت الأرض التي وضع عليها وجهه حارةً ذات رائحة نفاذة تملأ أنفه، وتتسلل إلى رأسه مثل شاي الأعشاب الدافئ، أحس بهدوء غير مفاجئ، واستطاع ريقُه أن يبلل حلقه قليلاً.
وأبعدَ عن نفسه فكرةَ نومٍ بعيدة.
* * *
في المساء المبكر الممطر تتضوع حانة (لامبيانس) برائحة الخشب والقهوة، قبل أن تغمر رائحةُ السردين المشوي والصوف سحبَ الدخان المعلقة بين رؤوس الزبائن والسقف. هذه السحب التي تتجه ببطء، نحو مسرب الباب الموارب، بين الحانة والباحة الداخلية.
كان يوسف وحده.
اعتدلتُ على كرسي عال دون مسند، معتمداً بمرفق على الكونتوار وطلبتُ زجاجة بيرة صغيرة، ابتسم يوسف، وهو يفتح الزجاجة ويدنيها مني:
ـ لم يحن وقت السردين.
ـ شكراً.
فجأة، غادر يوسف مكانه وراء الكونتوار، مقترباً من الباب الخارجي:
ـ مرحباً... مرحباً... سي محمود.
جلس سي محمود إلى جانبي، على كرسي عال آخر، وأنزل بحركة بطيئةٍ قلنسوةَ بُرنسِه، كاشفاً كومةً من الشعر الجعد المضطرب، والتفت إلي:
ـ لا بأس.
ـ لا بأس.
صب يوسف كأس قهوة كبيرة، وقدمه إلى سي محمود:
ـ كيف حالك سي محمود؟
ـ لا بأس.
ـ والفلاحة؟
ـ...
ـ كنتَ في السجن تحن إليها. إنني أتذكر ذلك.
ـ لأنني كنتُ في السجن.
ـ والآن؟
ـ لقد تعلمتُ. علمني الذين لم يكونوا في السجن.
صب يوسف لنفسه قدحاً من الماء المعدني، وشرب نصفه مسرعاً، ثم اقترب برأسه من سي محمود:
ـ أتدخن؟
ـ لا. لقد تركت.
ـ لماذا؟
ـ اردت أن أُدخل أخي إلى الثانوية.
ـ أهو في الثانوية الآن؟
لم يُقبَل.
ـ لماذا؟
ـ دبرتُ ثمن الكتب، ولم أدبر ثمن الملابس، إنهم يريدون لأنفسهم كل شيء!
ـ مَن؟
ـ الاشتراكيون.
* * *
سياراتٌ عسكرية أخرى تندفع في الشارع الواسع الذي يشق حقولَ القمح المتموجة، وناقلةُ جنود تتوقف ويهبط منها عدد من أفراد الفرقة الأجنبية ثم ينتشرون في المنطقة بحذر.
كانت المسافة الجديدة التي قطعها يوسف زحفاً داخل حقول القمح قد أبعدته كثيراً عن الشارع، إلا أنها منعته في الوقت نفسه من رؤية الشارع بوضوح. رفع رأسه لحظة. ونظر. كان عدد من جنود الفرقة الأجنبية يسيرون في درب ريفي ضيق صاعد، يؤدي إلى غابة بعيدة، بينما سار عدد آخر منهم في طريق يخترق حقول القمح ويؤدي إلى بناية مزرعة يحدها مربعٌ واسعٌ من أشجار الصفصاف. جماعة أخرى تتجه إلى المرآب المهجور حيث ترك دراجته الهوائية.
لو كان يملك سلاحاً لاختلفَ الأمر.
لقد رفضت الجبهة إعطاءه سلاحاً وكررتْ رفضها: إنك في الخامسة عشرة يا يوسف. لكن هؤلاء الجنود الذي يبحثون عنه متأكدون من أنه يحمل سلاحاً.
قبل أسبوع فقط، حين نسف الجسر بين "سيدي الحسن" و"الأمطار" دارت معركة استمرتْ ثلاث ساعات كاملة.
وربما كان بين هؤلاء الجنود من اشترك في تلك المعركة.
العطش يهجم من جديد على حلق يوسف. حاول أن يحد شيئاً يبل الريق، فأحس بتمزق في حلقه.
ونظر بين الثغرات الضئيلة التي تفصل سيقانَ القمح عن بعضها. لم يكن هناك من شيء أخضر، فلقد خشبت الشمسُ كلَّ شيء. واستطاع أخيراً أن ينتزع نبتة دقيقة تكاد تغور في الأرض مختلطة بجذور القمح. وأخذ يعلكها مطبقاً عليها فمه. كان طعمها لاذعاً تشوبه المرارة ولكن فيها بقية من ماء مختزن.
رفع رأسه مرة أخرى.
جماعة من الجنود تدخل حقل القمح.
عاود يوسف الزحف مبتعداً عن موضعه.
تتوقف الجماعة.
السيارات العسكرية تندفع في الشارع الواسع عائدة إلى المدينة، وناقلة الجنود تمتلئ، وتعود هي الأخرى إلى المدينة.
وحينما رفع يوسف رأسه بحذر اقل، رأى الشارع نظيفاً، لامعاً في البعيد، ورأى أشجار التوت المنتظمة على جانبيه، وارتجف قليلاً وهو يتذكر ظلالها الباردة ومطرها الأحمر والأسود والأبيض في أوائل الصيف.
كل شيء صامت حول يوسف.
حتى الشارع، البعيد الآن. لم تمر به سيارة.
وسيقان القمح التي اعتاد حركتها الخفية، ثابتة أمام عينيه الآن.
والسماء زرقاء بشكل عجيب.
ويرهف سمعه.
كان الهدير الخفي قادماً من الأعالي خفياً وواثقاً.
إنها الهليكوبتر!
* * *
جاءت المرأة ضحى.
أزاحت ستائرَ الخرز بعنف غير مقصود، ووقفت بين الكنتوار وأحد الموائد الفارغة، كانت ترتدي العباءة البيضاء، وتبدي إحدى عينيها فقط.
وضعتْ يدها على المائدة الفارغة وسألتني.
ـ أأنت من الكانتينة؟
ـ لا.
ـ أين مولاها؟
ـ سيأتي بعد ساعة.
ـ قل له جاءت فاطمة زوجة سي البكّاي.
بالسلامة.
ـ بالسلامة.
وسمعتُ مرة أخرى الصوت اللدن لارتطام الخرز ببعضها، واختفت العباءة البيضاء بسرعة لم أتوقعها، وفي داخلها المرأة التي جاءت تسأل عن يوسف...
فاطمة زوجة سي البكّاي.
حين عاد يوسف من دار البلدية بعد أن دفع يدل إيجار "لامبيانس"جلس إلى جانبي على المقعد الطويل صامتاً.
قلت له: جاءت امرأة قبل قليل تسأل عنك.
ـ ماذا أرادت؟
ـ لم تخبرني. قالت فقط، إن اسمها فاطمة، وإنها زوجة سي البكّاي.
انتفض يوسف، وقام من مجلسه، واستدار ناحية الباب الخارجي، ثم خطا خطواتٍ نحوه، وعاد إليّ:
ـ يجب أن أذهب الآن، إبقَ هنا إلى أن آتي. لن أتأخر كثيراً . إنك لا تعرف سي البكّاي أو لعلك سمعت به أيضاً؟
ـ لم أسمع به.
ـ لقد قبضوا عليه بعد انفجار "الكاميرون"، ونقلوه إلى قصر الموت في المزرعة الواقعة على الطريق بين "غامبيط" و"دينزي"، وفي المساء بعد أن ألقي علي القبض رأيته. وكان مشلولاً. سي البكاي ما يزال مشلولاً.
لو لم تأت طائرة الهليكوبتر، لو لم تقبض عليّ طائرة الهليكوبتر، لمات سي البكاي، ولدُفن أيضاً في الحفرة الملاصقة للقبو بقصر الموت. لو كنتُ ادري بأن القبض سيلقى علي سريعاً لأخبرتُ سي البكّاي بعدم كتمان اسمي... ولكن لا فائدة. لن يخبرهم باسمي.
هل تعرف كيف يعيش الآن؟
البلدية تتصدق عليه كل شهر. زوجته تذهب إلى دار البلدية كل شهر مع العميان والمساكين، وتقف في الصف الطويل.
ابق هنا. لن أتأخر كثيراً. إنك لا تعرف سي البكّاي.
قبل الثانية عشرة بقليل، دخل الرجلان اللذان يعملان مع يوسف. وحينما لم يجداه، استدار أحدهما ووقف وراء الكونتوار، أما الثاني فقد دخل الباحة، ولم يخرج منها.
سألني الواقف وراء الكونتوار: أين ذهب يوسف؟
قلت: إلى سي البكّاي. ربما ذهب إلى منزله، فقدجاءت زوجة سي البكّاي تسأل عن يوسف.
قال: ولكن سي البكّاي توفي:
ـ متى؟
ـ قبل نصف ساعة. أخبرني بهذا سائق الطبيب.
ـ أين توفي؟
ـ في المستشفى.
ـ كان يوسف يحبه.
تلعثم الواقف وراء الكونتوار قليلاً، ومسح بحركة سريعة إحدى عينيه. وقال: طبعاً. فقد كانا معاً في قصر الموت، ثم نُقلا معاً إلى معتقل "بودان" واستقرا أخيراً في السجن المدني الملاصق لقصر العدل. ومن السجن المدني دخلا قصر العدل، وحوكما معاً. عن قضية مقهى "الكاميرون"، وقد جيء بسي البكّاي المشلول إلى قاعة المحكمة محمولاً على كرسي. وأنت تعلم بالأحكام : السجن لسي البكاي والإعدام ليوسف.
يوسف، كما تعلم، كان صغير السن، يزيد على الخامسة عشرة قليلاً ولا يمكن تنفيذ حكم الإعدام إلا بمن بلغ الثامنة عشرة. وهكذا كان على يوسف أن يقضي في السجن ثلاث سنوات تقريباً حتى يمكن وضع رقبته تحت حد المقصلة. لكن رقبة يوسف لم توضع تحت المقصلة. فقد خرج هو وسي البكّاي من السجن المدني، سوية، بعد اتفاقيات ايفيان.
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة حين دخل صبيٌّ شاحبٌ الحانة. وقال للواقف وراء الكونتوار.
ـ يوسف يقول إنه لن يجيء. يقول أيضاً يجب أن تغلق الحانة اليوم... وأخبرني أنه يريد المفاتيح.
ـ أين يوسف الآن؟
ـ في دار سي البكّاي.
أشاح الرجل بوجهه عن الصبي. وشعرتُ أنه يكتم وراء هدبيه الطويلين رغبة حقيقية بالبكاء.



* عن نافذة في المنزل المغربي.......قصص قصيرة

أعلى