باسم عبد الحميد حمودي - الدبلوماسي القاص عطا أمين .. البحث صاحب قصص الرؤيا

درجت منذ فترة على العمل على أزاحة الستار عن جهود ادباء وكتاب وقصاصين من ساردي الاعمال الاولى في القصة العراقية (أو غيرها من الوان الادب) وكان من عادتي أن أسلط الضوء على أجزاء من الحياة الشخصية للقاص أو الكاتب لأقتران ذلك في رأيي برؤية الكاتب أو تطلعاته ,رغم أن ذلك لاينطبق على ادب كل مبدع بعامة.

القاص عطا أمين واحد من أوائل من نشطوا في كتابة القصة العراقية الحديثة ولم تكشف الدراسات النقدية الاولى عنهم حتى كانت رسالة الماجستيرالتي أعدها الناقد الرائد د. عبد الاله أحمد صالح (رحمه الله) عام 1966 وصدرت مطبوعة تحت عنوان (نشأة القصة وتطورهافي العراق1908-1939) وكشف فيها عن دور أمين في تشييدجزء من تأسيس بناء القصة الحديثة في العراق.

الحياة العامة لعطا أمين

لالقاء الضوء على الحياة العامة لعطا امين نقول انه تخرج في كلية الحقوق العراقية وعمل في البلاط الملكي وتزوج واحدة من أخوات الملك فيصل الاول وعمل في السلك الدبلوماسي وصار سفيرا في عدد من الدول.

ولتوثيق ذلك نقول أنه ورد في ص60 من الجزء الاول من كتاب(ذاكرة الورق) لمحمود خالص عن يوميات يوم الجمعة 19 تشرين الثاني 1920 ما يلي : ( الساعة 2-5 بعد الظهر أحتفل طلاب مدرسة الحقوق في بغداد بمدرس الاقتصاد أحمد حلمي المصري في مطعم رويال سينما وقد خطب سليمان السنوي وعباس العزاوي وعطا أمين وعدوا ما للمحتفل به من الصفات العالية…. وبعد تناول الشاي خطب (المحتفى به) خطبة وجيزة كانت صادرة من قلب تناهى في الرقة…)

وذلك يعني أن عطا كان طالبا أيامها في مدرسة الحقوق، ويقول سليمان فيضي(المدرس في مدرسة الحقوق) في مذكراته (ص270) أن الطالب عطا أمين قد أعانه في طبع محاضراته في كتاب له سماه (الحقوق الدستورية) ، وكان عطا طالبا في الصف الثاني في السنة الدراسية 20/21 مع الطلبة :خيري السنوي- نجيب الراوي- فخري الطبقجلي- عبد الرسول عبد الحسين- علي غالب العزاوي- علي محمود الشيخ علي- يوسف الكبير- كاظم الدجيلي- عبد الكريم بافي – طالب مشتاق – أحمد مختار بابان وغيرهم.

يقول سليمان فيضي في مذكراته (ص303) انه في الثاني من تموز 1921 اقيم في بغداد حفل تعارف للشخصيات العراقية الوافدة الى بغداد عند تتويج الملك فيصل الاول، وكان من خطباء الحفل : محمد حسن كبة عن الشبيبة الجعفرية وعبد الله النعمة عن وفد الموصل وشاكر النعمة عن وفد البصرة وعطا أمين والداعي لهذا الحفل وكاتب المذكرات سليمان فيضي وقد ورد في ص102 من كتاب (وريثة العروش) الذي حرره هلال الشيخ علي نقلا عن لسان الاميرة بديعة بنت الملك علي قولها: (كانت عمتي سرة (لها تسمية اخرى بأسم :سارة) شقيقة عمي الامير زيد متزوجة من عطا أمين سفير العراق في باريس) وهي هنا لاتذكر السنة ولا ظروف هذا الزواج، لكن الثابت أن عطا أمين له أبنة من زوجة ثانية

من غير هذا الزواج معروفة في سنوات ظهور فطينة النائب وماهرة النقشبندي وسواهما هي السيدة ابتهاج عطا امين التي نشرت قصائد كثيرة لم يجمعها ديوان.

يذكر محررو (الدليل العراقي الرسمي لسنة 1936) في ص914 من فصل (معجم الاعلام) عن عطا أمين ما يلي : (ولد في بغداد في 15 كانون الاول1887 وأتم دراسته في كلية الحقوق العراقية، وقد عين مساعدا لسكرتير جلالة الملك 1921 (المقصود الملك فيصل الاول) فسكرتيرا للممثلية السياسية في لندن سنة 1925 فمدونا في وزارة العدلية 1927 وأعيد سنة 1928 الى الخدمة الخارجية فنقل كسكرتير أول في المفوضيات العراقية في لندن وأنقرة وروما وفي سنة 1935 رفع الى وظيفة مشاور المفوضية في لندن وقام مرات متعددة بأعمال المفوضية في تركيا وأنكلترا، وهو فضلا على ذلك من الادباء والكتاب المعروفين)

يقول مزاحم الامين الباججي في مذكراته التي اعدها للطبع وحررها ولده عدنان الباججي (ص48) عن يوم21مارس1924 ما نصه :(كنت مدعوا في عقد قران عطا أمين أحد كتاب البلاط وعند خروجي لاقيت جعفر العسكري رئيس الوزراء) وهو بذلك يوضح مكانة عطا وأقبال القادة على حفله.

من ذلك يتبين لنا أن القاص عطا أمين قد دخل معترك السياسة والدبلوماسية والادب من أوسع الابواب وأكثرها أحتكاكا بطبقة الحكم ولكنه بدا حياته الأدبية منطلقا من قصص الرؤيا.

قصص عطا أمين

ورد في كتاب(فهرست القصة العراقية)للاستاذ عبد الاله احمد ط1سنة 1973 وفي ص210 وتحت بند (عطاء امين) عناوين القصص التالية :

-كيف يرتقي العراق-(رؤيا صادقة)-دار السلام (م)- العددان 17-18-مج2 – السنة2-آب، أيلول 1919

-لوحة من الواح الدهر، أو فصل من رواية الحياة-دار السلام-العدد 1 – مج3- السنة 3-ك2 1920

-عاقبة الحياة- دار السلام – الاعداد 8، 9،10 – مج3 السنة3نيسان1920

وفي الصفحة207 من ذات الكتاب وتحت بند (عراقي أمين) ذكر د. عبد ألاله أحمد قصتي:وقفة على ديالى- وحديث مع فينوس – العراق- الاعداد283-284-286 – السنة1-أيار 1921

هكذا لم يذكر المفهرس سوى هذه القصص لعطا امين الذي كتب معظمها تحت توقيع عراقي امين.

ويبدأ عبد الاله أحمد في كتابه (نشأة القصة وتطورها في العراق1908- 1939) حديثه عن ما أسماه بقصص الرؤيا متسائلا (ص37) :

(لماذا أتجهت المحاولات البدائية في القصة العراقية نحو الرؤيا ؟) ويجيب : (الواقع أن الرؤيا بالذات كانت وسيلة يستعين بها الشعب غالبا ويؤمن بها لكشف حجب المستقبل الغامضة))بعد خروج العراق من الدولة العثمانية ودخول الانكليز ارضه تبعا لذلك مقوما بشكل سريع لوضع العراق الثقافي والسياسي آنذاك حيث يشير الى أن معظم المثقفين العراقيين في العقود الاولى من القرن العشرين يعرفون اللغة التركية بسبب الهيمنة التركية السابقة على العراق، ويرى الباحث ان أنتشار قصص الرؤيا(ص39) جاء نتيجة انتشار رواية الكاتب التركي نامق كمال (الرؤيا) التي ترجمها الى العربية عام 1909 الشاعر معروف الرصافي والتي كانت توجهاتها الفكرية تلائم توجهات الشباب العراقي المثقف الساعي الى الحرية، وينبغي أن نشير هنا الى أن نامق كمال كان مثقفا مستنيرا وقام بترجمة أعمال مونتيسكيو من الفرنسية الى التركية آنذاك.

ويجد الباحث الناقد في سعيي عطا امين في كتابة قصص الرؤيا نوعا من الخلط بين الاداء القصصي فنيا والاداء المقالي الذي يستهدف دورا سياسيا واجتماعيا لهذا الادب .، ونحن نجد أن أمين بدأ بكتابة الخاطرة القصصية التي تمثلت بداية بأقاصيص الرؤيا منذ نشره رؤيا كيف يرتقي العراق في أيلول 1919، ثم كتب القصة القصيرة ونشر أولى تجاربه تحت عنوان (عاقبة الحياة) في نيسان 1920.

ومن هذه الاعمال القليلة لعطا أمين تكونت عند الباحث د. أحمد فكرة تأثير أمين على تيار القصة العراقية الحديثة عبر هذه الكتابات القليلة التي كانت باكورة نهضة قصصية عراقية في زمن لم يكن الكثير من أصحاب القلم يعولون كثيرا على هذا اللون من الادب في وقت كان الشعر فيه سيدا، فيما كانت المقالة الادبية والسياسية سيدة المادة النثرية، ونحن نتحدث هنا عن كتابات سبقت زمننا هذا بحوالي المائة عام.

من هذه المحاولات الابداعية لامين قصته المنسوجة على انها من ادب الرؤيا (كيف يرتقي العراق ؟) المنشورة عام1919 حيث يجول الكاتب في حلم يقظة يقوده مع صديق له اسماه الوطني الى بابل القديمة حيث كانت ليلتقي في الطبقة السادسة من البرج بالاستاذ الكاهن بيروس علامة ذاك البرج والمنجم الكلداني الذي يستجيب الى اسئلة القاص عن مستقبل العراق ويطلعه على التاريخ العراقي القديم من خلال عرض بانورامي عبرنافذة مر منها التاريخ العراقي، ويتم العرض المتخيل بعد سؤال وجهه الكاتب للكاهن عن مصير بغداد.

يقول راوي القصة (وهو الراوي العليم المتدخل في الحدث) :

(نظرت الى النافذة فأنيرت وظهرخلفها (وادي الفراتين) في قديم الزمان، وعليه بعض المدن البسيطةوالأقوام القديمة. قرأت كلمة (الشمريين) في الجنوب و(الاكديين) في الشمال ثم رأيت في أعاليجزيرة العرب أقواما مخيمين في البادية بين العراق والشام قرأت كلمة (أموريين) فوقهم، فأقبل شيخ منهم الى ذلك الوادي فأنشأدولةجديدة، وأتخذ بلدة على الفرات عاصمة له فقرأت أسمها فأذا هو (باب ايلو) أي باب الله وعلمت أنها بابل التي أناىفيها انقلبت الادوار التاريخية حتى رأيت أناسا يخططون مدينة على شاطئ نهر قريب من الفرات وأذا هي مدورة الشكل) فعلم أنها مدينته (بغداد) فالحف على الكاهن بالسؤال عن مصيرها ومستقبلها، فيقوم الكاهن بأجراء عدة عمليات سحرية في غرفة اخرى أذ يتكشف أمامهماضي بغداد ومستقبلها الكثير المرارة فيناجيها بقوله :(ارى نجمك في السماء سعيدا وحظك على الارض حسنا ومستقبلك في عالم الغيب زاهرا وتكون بغداد لندن الثانية ولكن بشرط).

هنا يضع المؤرخ والكاهن الكلداني البابلي شرطه عمليا حيث يقود من يحاوره الى غرفة اخرى من غرف برج بابل ويعطيه منها بعض الاشياء وهويقول له وقد قاربت الرؤيا على النهاية :

(اسمع ياولدي هذه علبة فيها بذورباركتها الآلهة وهذه كأس فيها(ماء) من مياه المعابد. وهذه قطعة ثوب فيها(تراب)من ردهات الهياكل وهذه آلة تأمر الرياح بتسيير السفائن والمراكب، وهذا كتاب فيه علوم الأولين والآخرين! خذها بيدك، وأهدها لأهل بلدك وقل لهم (هذا هو دواؤكم) والسلام) ثم يضع عطا أمين في نهاية النص رقم (1) اشارة الى هامش مدون اسفل النص يقول فيه (كل ما في القصة من الاخبار والاوصاف والصلوات حقيقية لا دخل فيها للخيال)!.

هو بذلك ينسف رغبة القارئ باعتبار ما قرأه مجرد خيال جامح يريد رقي العراق عن طريق كاهن وعراف أفتراضي ليحيلنا الى واقع موهوم اختار أن يرسمه ويريد أن نصدقه وهو يعلم أن هذا الخيط بين الحقيقة والخيال موجود وأن هامشه هذا لن يغير من قناعة القارئ بل ينشط ذاكرته وتوقه الى وجود عراق آمن أزدهرت ارضه وعم ماء الخير فيه وارتفعت اصوات الآلات لتبنيه فقد حصل على العلم من الكتاب المفترض بعد أن جمع الماء والتراب والحديد (آلة تسيير الرياح) وهي رموز وادلة الحياة على الارض.

ان عطا أمين يصنع بهذا النص الذي يصفه ب(القصة) حالة من عرض تاريخي لتحولات العراق وتوق لبغداد وهي تبنى من جديد وقد نشر النص في 24 من آب 1919 والعراق تحت الاحتلال البريطاني.

في قصة (وقفة على ديالى وحديث مع فينوس) التي نشرها الكاتب في مايس 1921 يقدم مجموعة صور عن عشاق حالمين وطائر فقد حبيبته، اشباح تجري وبحر يفور وهو في شهر نيسان شهر فينوس والالهة، وتظهر فينوس امام العاشق المناجي عند النهر فيناجيها جاثيا متمنيا أن تجمع عاشقا بمحبوبته،ويدور التاريخ العراقي داخل النص فنجد ان العاشق هو العراق والمعشوقة هي الحرية وقد اهدرها الغزاة المحتلون حيث تعد فينوس العاشق الشاب بعودة المحبوبة اليه بعد تدخل ولدها كيوبيد.

عطا أمين في هذا النص وسواه يهتم بالحرية مصيرا وبالتاريخ وعاءدائما لاستقبال تحولات النص وحركة شخوصه وهوفيما قدمناه صاحب قضية يستعين من اجلها بالبناء الاسطوري المتلاقي مع احداث تاريخية وشخصيات وبيئة مصنوعة من ثقافته (بابل – الجنائن المعلقة – فينوس – كيوبيد – نهر ديالى – بغداد – التتار-الماء والتراب والحديد والرياح -…الخ.

يجد د. أحمد في تحليلاته لقصص الرؤيا نوعا من التعميم والسذاجة التي دخلت الى الرواية الايقاظية لسليمان فيضي (ص53) ويجدأحمد في نصوص قصص الرؤيا تأثيرها الواضح على المحاولة الروائية التي نشرها المحامي آكوب كبرائيل تحت عنوان (عجائب الزمان في صرح عروس البلدان) وهو امر يدفع الى التأكيد على قدرة هذا البناء السردي على التأثير على كتاب آخرين وقد نشرت(عجائب الزمان) عام 1928.

نخلص من ذلك أن عطا أمين كان يمكن أن يستمروبتوفيق اكثر فنيا لو أنصرف الى الادب دون سواه، لكنه اختار العمل الدبلوماسي سبيلا تاركاتجربة الكتابة بعد تلك المحاولات الناجحة – تبعا لزمنها وثقافة مجتمعها – في فن السرد.



الزمان
أعلى