جميل الشبيبي - في ريادة قصص الرؤيا(*) القاص عطاء أمين (كيف يرتقي العراق؟/ رؤيا صادقة)

يمكننا أن نعدّ رؤيا عطاء أمين (كيف يرتقي العراق؟) المنشورة في بدايات القرن العشرين(1) (آب 1919) قصة رائدة في مجال بناء قصص الرؤيا واكتمال شكلها في القصة العراقية الحديثة. ويأتي تأكيدنا على هذه الريادة من استقراء وفحص لآليات تشكّل قص الرؤيا في كثير من القصص العراقية الحديثة التي نشرت أواخر القرن العشرين، وبالتخصيص تلك القصص التي اهتمت ببناء مدينة رؤيوية باتجاه تسير فيه أنساق السرد نحو عمق التاريخ: إلى مدن اليوتوبيا سواء أكانت تاريخية كبابل وآشور في العراق القديم أو خيالية مثل بصرياثا وأرانجا وأرابخا(2) أو تلك المدن الخيالية التي وردت في الذاكرة الشفاهية للمدن العربية كدومة الجندل ودلمون وإرم ذات العماد...

إن بناء مدينة الرؤيا في السرد العراقي القصير، كان وما يزال أحد الوسائل الفنية التي تلبي حاجات انتمائية، تؤكد علاقة القاص بمجتمعه، وكذلك حاجات إنشائية فنية يبتكر القاص خلالها أساليب جديدة في السرد تخالف المألوف وتدفع بالسرد القصير نحو آفاق غير مألوفة، تسمح بالانفتاح على عوالم جديدة. ولذا فإن دراسة قصص الرؤيا التي نشرت ابتداء من ثمانينات القرن العشرين لقصاصين عراقيين معروفين(3) قد أوضحت الإضافات الجديدة في مكونات السرد القصصي القصير ليستوعب بناءات فنية تستقبل لغات جديدة من أجناس أدبية مجاورة وتسمح بإضافات مبتكرة تتعلق ببنية السارد ومكان وزمان القصة/ الرؤيا، الأمر الذي دفع بعض النقاد إلى إطلاق مصطلحات جديدة على هذا النوع من القصص مثل: «نص»، أو «خطاب قصصي» أو «رؤيا».. بسبب هذا التداخل النصّي الذي كسر رتابة التأليف وأضفى على الجملة القصصية مرونة ذات دلالات مفتوحة يمكنها أن تستوعب بناءات معقدة، تشير إلى رؤى وإمكانات تأويلية، وضعت القصة القصيرة في مفترق طريق...

ولقد أعطى استثمار هذا الشكل من السرد إمكانية إصدار مجموعات قصصية «متضامنة»(4) تكشف رؤيا القاص عبر مجموعة من القصص القصيرة بالاستفادة من أجناس أدبية مجاورة كالأسطورة والملحمة والقصة الخرافية وأيضاً من بناءات لغوية أدبية كالدعاء والحكمة واللغة الصوفية.

إن هذا الاستطراد ضروري لتثبيت الرأي الذي طرحناه بداية، لأن رؤيا القاص عطاء أمين (كيف يرتقي العراق) قصة رائدة في مجال قصص الرؤيا وعلى وفق آلياتها وتشكلها في قصص الرؤيا المعاصرة المنشورة في العراق. وينطلق رأينا في معنى الريادة من اعتبارين، أولهما: أن الريادة هنا تتعلق بهذا النص دون غيره من النصوص التي نشرها الدكتور (عبد الإله أحمد) لهذا القاص في كتابه (نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق) لأننا نعتقد أن الريادة الأدبية يمكن أن تنحصر بعمل أدبي واحد تتجلى فيه قدرة الكاتب في لحظة تاريخية على الرصد والتشكيل لإنتاج عمل فني يحمل بذرة التفتح والتأثير المستقبلي. أما الاعتبار الثاني فيتعلق بهذا التأثير حيث نرى أنه لن يكون مشروطاً في اللحظة التاريخية نفسها بل إنه مرشح لأن يجد مكانته في زمن آخر يمكن أن نطلق عليه مستقبل هذا الإنجاز.

إن تجلي الجديد محكوم بهذين الاعتبارين. فهو يظهر بعمل أو أعمال محدودة، تتعرض في أغلب الأحيان إلى نوع من النقد والتجريح ثم يجد تأثيره في فترة زمنية لاحقة يكون خلالها ضرورة تعبيرية لهذه المرحلة. وبهذا الشكل تتضح الريادة وتترسخ عبر مفهوم التلاقح والاتصال، عبر مصطلح «التناص» سواء أكان واعياً أم غير واع. كما نؤكد أن البناء والتشكيل الذي اقترحه (عطاء أمين) في وقت مبكر جداً في التأليف القصصي قد وجد مكانة واضحة في التأليف القصصي المعاصر لأنه أدرك منذ ذلك الوقت آليات تشكل الرؤيا في القصة القصيرة وقد جسد الكثير منها في رؤياه الموسومة «كيف يرتقي العراق/ رؤيا صادقة» مثل: تعدد الساردين وتعدد لغاتهم وبناء زمان ومكان الرؤيا مما سنشير إليه بشكل مفصل.



العنوان:

بُنيَ العنوان في هذه الرؤيا من مقطعين يؤشر المقطع الأول (كيف يرتقي العراق) على علاقة الكاتب بمجتمعه ويحمل توجيهاً لقراءتها بالشكل الذي يعرّف بالتخلف الحاصل في المكان المصرّح به في تلك الفترة وصولاً إلى المستقبل الذي تطمح الرؤيا لتجسيده. ويتفتح هذا الاستفهام على نزوع يحمل تغييراً متوقعاً لهذا الواقع المتخلف بالاتجاه الذي يُعنى بالإصلاح. أما الوسيلة فيعبر عنها بالمقطع الثاني من العنوان (رؤيا صادقة) وهي إجابة فنية مرنة ذات إمكانات تأويلية تعمل على وفق اتجاهات إيحائية أي إمكانية صياغة أجوبة ذات طابع حلمي فني بالاستفادة من هذا الشكل وعلى وفق الصياغات الأدبية التي كانت معروفة في ذلك الوقت.

إن بنية عنوان هذه الرؤيا بمقطعين يلبي حاجة مباشرة وأخرى غير مباشرة تتعلق الأولى بتوجيه القراءة إلى قارئ بسيط يجهل الأساليب الفنية بما يمتلكه العنوان من طاقة تحريضية تدفع القارئ إلى التعرف على تفاصيل هذه الرؤيا لعله يحظى بإجابة عن الوضع المتخلف الذي يعيشه. في حين يؤشر المقطع الثاني إلى الشكل الأدبي الذي بنيت به هذه القصة وهو شكل يعمل على تحطيم العلاقة مع الواقع في كل جزء من أجزائها بهدف أدبي يستفيد من تقنيات الحلم/ الرؤيا التي تسمح بتجسيد اللامألوف والغريب فيها وكل ذلك له علاقة بالشكل الفني المألوف للكتابات المنتجة في زمن كتابة هذه الرؤيا. غير أن المؤلف يعمل على كسر هذه الإيهامات، والعودة بالرؤيا إلى الواقع في رحلة معاكسة، ويتضح ذلك من إسباغ صفة «الصدق» على هذه الرؤيا في الهامش الأخير الذي وضعه لها والذي يشير إلى أن كل ما ورد في هذه الرؤيا من «أخبار وأوصاف وصلوات حقيقية لا دخل فيها للخيال» وكذلك بالخطابات المباشرة التي وردت على لسان سارد الرؤيا وشخوصها.



بنية الاستهلال:

تطمح بنية الاستهلال في هذه الرؤيا إلى إنشاء منظر عام للطبيعة في منتصف ليلة رؤيوية(5)، بتوظيف جمل اسمية يغلب عليها السجع. تتناص مع آيات من القرآن الكريم، ولا تكشف عن سارد ما، بدليل أن المنظور الذي تنفذ به هذه الجمل، لا يلتزم باتجاه واحد، بل إنه ينتقل من جهة إلى أخرى ودون التزام بالزمن الذي يتشكل فيه هذا المنظور إذ ينتقل من الليل «ليلة صافية الأديم لامعة الكواكب» (ص341) إلى «صبح الربيع وشمسه الذهبية» (341) كما أنه ينتقل من وصف السماء «ذات الأبراج المزركشة» ويعود إلى الأرض «ذات الفجاج مستورة بالحشائش والأشجار» وينتقل بعد ذلك إلى ذكر البحار والأنهار.. وكل ذلك من أجل إنشاء مشهد عام للطبيعة بوجهات نظر مختلفة تُعنى بالشمولية والاتساع في الوصف ويشي باطمئنان النفس الساردة إلى الطبيعة والالتجاء إليها في زمن التعب من الحياة على وفق ما يصرح به السارد الذي يظهر فجأة ليوجّه السرد باتجاه «الرؤيا» بعد أن تعب من التفكير «فكرت كثيراً حتى شعرت بأن الفكر قد تعب والنعاس قد استولى عليّ وعلائم النوم قد بدت» (ص341). ونلاحظ في بنية الاستهلال انتماءها إلى نمط من التأليف كان سائداً آنذاك يفصح عن ضعف في بناء الجملة السردية والاعتماد على الوصف الذي ينتمي بشكله الذي ورد في الاستهلال إلى جنس المقالة الأدبية السائدة آنذاك أيضاً، غير أن ذلك سيتغير حال الدخول في الرؤيا، حيث ينحسر الوصف لصالح السرد وتتضح شخصية السارد ومنظوره ولغته.



بنية السارد:

يظهر السارد بعد الانتهاء من إنشاء المشهد العام، بوجهة نظر دالة على سارد عليم على الرغم من استخدام ضمير المتكلم في التعريف بهذا الظهور، ويبدو ذلك واضحاً في مجموعة المشاهد التي تتجلى بشكل متجاور وتدريجي، فهي مشاهد عامة لا يمكن للذات الساردة لضمير المتكلم «السرد الذاتي» أن تحيط بها، أو تصفها بالشكل الذي وردت فيه كحدائق الورد وبساتين النخيل و«شارعاً عاماً واسعاً مستقيماً يخترق الحدائق والبساتين» (ص341) وهي مشاهد ذات وظيفة وصفية عامة لا يمكن جمعها وتآلفها إلا بوجهات نظر متعددة وأوضاع سردية في اتجاهات مختلفة. ووجهة النظر هذه تعزز بنية الاستهلال الذي أشرنا إليها. غير أن ذلك لا يستمر طويلاً، فحالما يدخل السارد إلى مدينة الرؤيا «ملكة آسيا» أشهر مدن العالم (ص341) نلاحظ تعديلاً واضحاً في تأثيث المكان الجديد ـ الغريب على السارد ـ إذ يتراءى له تدريجياً وبحركة أفقية، باتجاه استكمال هذا التأثيث لمجموعة الأفعال والأوصاف التي حفلت بها جمل المتن الحكائي وعباراته. ويتضح هذا في التغيير الحاصل في حركة السرد بالانتقال من الجمل الاسمية الواصفة إلى الجمل الفعلية التي تشكل الأساس في السرد وبدخول سارد جديد إلى السرد هو «الرجل الوطني»: «رأيت رجلاً وطنياً داخلاً معي فتقربت منه وسلّمت عليه» (ص341) وبدخول السارد الوطني إلى حركة السرد سنرى تغيراً واضحاً في بناء الجملة بما يضفي عليها صفة «الموضوعية» حين يلجأ السارد الجديد إلى استخدام الأرقام ووحدات المساحة في تقديم كشوفه عن سور المدينة ومنشآتها الأخرى: الطول والعرض والارتفاع والمساحة «إن السور الذي يحيط بالمدينة مربع الشكل يبلغ طول كل ضلع منه 15 كيلومتراً وقد رأيتَ ذلك الخندق عند دخولكَ الباب الأول فقد حُفِرَ لمنع الأعداء من التقرب إلى الأسوار وصنع ترابه قدر عظيم من الآجر، فبنيت به تلك الأسوار حتى بلغ ارتفاعها 95 متراً وعرضها 25» (ص341). وبعد هذا الحديث يتم دمج الرؤيتين بضمير موحد في المواقف التي تهتم بالمسح العام مثل «دخلنا المدينة»، «رأينا فيها» ثم يعود التركيز على وجهة نظر السارد الوطني الذي يتخصص في ضخ المعلومات الجديدة المتعلقة بعدد الشوارع وأشكال البيوت وأيضاً في حديثه عن «الجنائن المعلقة» و«برج بابل».

ونلاحظ في سرد السارد الوطني الذي يدخل السرد بوظيفة مساعد أو مصاحب أن سرده يعتمد على ما ورد في «الوثائق التاريخية» المستقاة من المدونات والكتب المؤلفة عن مدينة بابل وجنائنها المعلقة وبرجها الشهير.

وهذا واضح من إجاباته على الأسئلة. وبهذا المعنى فإن السارد الوطني، يمثل وظيفة تعليمية معرفية تستقي معلوماتها من التاريخ إضافة إلى وظيفة دلالية، لها علاقة بنهوض الذاكرة التي ترى في ذلك التاريخ مجداً ينبغي إعادته، وهذه الوظيفة ترتبط بالإجابة على المقطع الأول من عنوان هذه الرؤيا (كيف يرتقي العراق؟).

وعند الانتقال إلى وصف «برج بابل» تسهم الرؤيتان في تجسيد مظاهر البناء الخارجية له: عدد طوابقه، طريقة بنائه ـ الشكل الزقوري.

«فشكرته على أفضاله وتبعته حتى رأينا برجاً عظيماً شامخاً في الهواء مدوراً ذا سبع طبقات تتناقص سعتها تدريجياً كلما ارتفع البناء وقد بني على قطعة من الأرض يبلغ ارتفاعه 25 متراً وكانت الطبقة العليا منه هي المخصصة بعبادة الآلهة» (ص343)(6).

وعند الدخول إلى داخل البرج والصعود التدريجي في طوابقه الداخلية يتم الإعلان عن سارد جديد بتمهيد دال على وظيفته بقول السارد (المؤلف الضمني): «ما أسعدني الليلة وما أسرّني لأني سأزور فيها المنجّم الكلداني الكبير والمؤرخ البابلي الشهير الأستاذ بيروس بيروسيوس كاهن الإله بلْ في بابل» (ص343). وهذا التمهيد يضفي على السارد الجديد صفة المنجم والكاهن وهما وظيفتان تختصان بتجسيد الرؤيا واكتمالها، ولذا فإن الدخول إلى طوابق البرج الداخلية وارتقائها حتى الطبقة السادسة سيكون إعلاناً عن ظهور هذا السارد (الكاهن) ولغة جديدة تدخل السرد حال الاقتراب من مكانه(7)، إذ تنتقل لغة السرد من لغة وصفية إلى لغة الابتهال والدعاء التي تستفيد من لغة الدعاء الإسلامية مع الميل التدريجي نحو بنية الدعاء في المدونات العراقية القديمة، يتضح ذلك بالتوسلات والنداءات التي تستجد بالآلهة والريح وبالشكل الذي نجده في بعض المدونات القديمة: «إلهي وسيدي. لطّف عليَّ غضبَ قلبك! ويا من لم نعرفك حق معرفتك، ليهدأ روعك فإني الآن أذوق طعم الغضب وأتجرع ماء الهجران» (ص344).

ويلاحظ في هذه اللغة إلى جانب قربها من بنية لغة الدعاء الإسلامية، اعتمادها على مفردات لها علاقة بالمدونات القديمة مثل: «إن ذنوبي كثيرة وسيئاتي عظيمة. آلهتي ـ إن ذنوبي كثيرة وسيئاتي كثيرة» (ص344). ثم يجري تعديل ذلك ليناسب بنية الدعاء الإسلامية، وبهذا المعنى فإن القاص أراد أن يستفيد من بنية الدعاء الدالة على ذلك العصر لأنه يتعامل مع شخصية تاريخية، فأكد ذلك ببعض الجمل الدالة على ذلك، ثم انحرف عنها إلى بنية الدعاء الإسلامية خشية الاتهام وهو أمر معقول آنذاك. ويؤكد هذا الاستنتاج أن السارد الجديد (الكاهن) يخرج من صومعته وهو يترنم بأبيات من قصيدة (ذهاب الزهرة إلى جهنم)(8) التي تقول:

«هذا السعير محل يدخل فيه الإنسان ولا يخرج منه أبداً ويمر به فلا يرجع عنه قطعاً، يرى الداخلون فيه ظلمة بدل الأنوار، وغباراً بدل الأزهار، طيناً بدل الأثمار. هنالك تختفي الشمس وتتحكم الظلمات» (ص344). والقصيدة كما هو واضح من سياقها من الشعر المترجم فشكلها غير مألوف إذا نظرنا إلى ذلك العصر ـ عصر التأليف الذي يستخدم الإيقاع حتى في التأليف النثري ويتأكد ذلك في نهاية القصيدة التي أوردناها بوجود حرفين دالّين على المترجم (أ. هـ) وكلمة بتصرف قليل (ص344).

إن ظهور السارد الجديد، قد مهد له بطريقتين: الصفة الدالة عليه كمنجم وكاهن ثم اللغة المصاحبة لظهوره التي اتسمت بالاختلاف مع لغة السرد المألوفة وفيها يحاول المؤلف أن تكون اللغة ملائمة لشخصية السارد الجديد وهذا واضح من بنية الدعاء والقصيدة التي ترنم بها. وكل هذا يمهد لوظيفة أساسية سينهض الكاهن بإنجازها وهي وظيفة تحقق الرؤيا واكتمالها(9) من خلال إجابته على الأسئلة الموجهة له عن مصير مدينة السارد الواقعية (بغداد) وباستخدام تقنيات سردية تتأثر بالخيال العلمي وآلياته. فهو عندما يجيب على سؤال السارد عن مستقبل بغداد يصحبه إلى (غرفة مظلمة) تشبه الاستديو ليعرض أمامه مسيرة بلاده قائلاً له: «انظر أمامك وإلى تلك النافذة فسيمر منها التاريخ العراقي كما تمر الصور المتحركة في بلادك»(10). فيرى كلمة «الشمريين» في الجنوب و«الأكديين» في الشمال ثم رأيت في أعالي جزيرة العرب أقواماً مجتمعين (ص344). وباستخدام «الصور المتحركة» التي يشير إليها الكاهن وتوكيدها بكلمة «في بلادك» نتعرف على لغة الخيال العلمي التي يوظفها القاص في تلك الفترة المتخلفة باستخدامه «الصور المتحركة» بشكلها البسيط آنذاك وتطوير إمكاناتها بالخيال لتسهم في تجسيد الرؤيا فتظهر مسيرة وطنه متحركة أمام ناظريه في زمن السرد القصير الذي يلخص هذه المسيرة التاريخية الطويلة.



بنية المكان:

يتم الدخول إلى الرؤيا من المكان الواقعي المشخص في مجموعة الأوصاف الدالة على مدينة بغداد بوجهة نظر تتجه نحو تجسيد الطبيعة من أشجار ونهر وجو، دون الاهتمام بالمنشآت المقامة على أرضها في منتصف ليلة ربيعية كي يمهد للدخول إلى الرؤيا متجنباً الخوض في تفاصيل الواقع المعيش لأنه واقع يثير الهموم والمتاعب.. «إلا أن فكري كان يجول في ميادين الهموم» ويكشف هذا التصريح القصير قوة الضغط التي تهيمن عليه، الأمر الذي يدفعه سريعاً إلى مجال الرؤيا ورحابها، فتتكشف له تفاصيل البناءات المدهشة التي يشاهدها ويتأمل تفاصيلها، وبذلك يتغير منظوره بالاتجاه من العام في الواقع المعيش إلى المشخص في الرؤيا ويتضح هذا المنظور ودلالته من مجموع المشاهد المنتقاة التي تشمل الإنشاءات الحصينة ـ الأسوار، الحصون، الخنادق، المعابد ذات الطبقات المتعددة وسيتمثل هذا المنظور من الآن صعوداً بالتدقيق في وجهة النظر التي يهيمن عليها طابع التحصين الذي يرمز إلى التهيؤ للدفاع عن المدينة: «دخلت الباب ومررت من السور فشاهدت بالقرب منه سوراً آخر فعلمت أن للمدينة سورين» (ص344) ثم يؤشر على وجود خندق «حُفِر لمنع الأعداء من التقرب إلى الأسوار» (ص342) ويتضح هذا المنظور «الدفاعي» باللافتة الموضوعة على الجسر وحديث حارس الجسر معهما: «لا يجوز العبور في الليل لأن الحاكم نهى عن ذلك لتقلّ السرقات» (ص342).

إن وصف المدينة يتم تقديمه عبر هيمنة الوظيفة الدفاعية المعرفة بمجموعة التحصينات التي أشرنا إليها وكل ذلك يرتبط بدلالات سنشير إليها لاحقاً. ويكتمل وصف هذه المدينة/ الحلم بالظهور التدريجي لإنشاءاتها ومرافقها المهمة بحركة وصف أفقية تعمل على الإحاطة بكل شيء ضروري حتى تتضح المدينة التي تحمل اسم «بابل» التي عُرفت بمظاهرها العمرانية المعروفة كالجنائن المعلقة وبرج بابل الشهير. ولا يكتفي السارد بوصف الإنشاءات، بل إنه يتعمد طرح أسئلة للتعرف على الحاكم الذي تمت في عهده هذه الإنشاءات، وهي أسئلة تتعلق بالبناء السياسي وما يتفرع منه من إقرار مفاهيم العدالة والمساواة ويتأكد ذلك من طبيعة السؤال: «سألت صاحبي عن هذا الملك العظيم الذي سمعت عن عظمته وشدة بأسه وحبّه للخير والإصلاح ما أدهشني وسلب لبّي» (ص342) وهو سؤال يحمل إجابات مبطنة تؤكد اتجاه خطاب السارد إلى تأشير هذه المعاني في خطابه الموجه أصلاً إلى متلقٍ معاصر له.

إن بنية المكان في هذه الرؤيا ترتكز على بناء مدينة حلمية ذات تكوين حصين ونظام سياسي وإداري يعمل بالعدل والإصلاح في مقابل التستر والتغييب لمنشآت الواقع المعيش الذي تم الدخول منه إلى الرؤيا لغرض توجيه الخطاب بنسق صاعد وباتجاه عنوان هذه الرؤيا.

بنية الزمن:

يبدو الزمن في بداية الرؤيا وقد توقف عند لحظة واحدة هي منتصف ليلة ربيعية، ويظهر توقف الزمن جلياً من هيمنة لوحات الوصف على السرد. غير أن الزمن ينفتح من خلال بعض الصيغ الفعلية عند دخول السارد إلى مجال الرؤيا. وفي هذا الجانب يهمل الكاتب التراتب الزمني ويلجأ إلى تقنيات الزمن في الحلم حيث تجري الأحداث متداخلة ببعضها بين زمن غابر وزمن معاصر. ويتضح ذلك بالعلاقة بين السارد الذي يمثل المؤلف «المؤلف الضمني» من جهة وبين الرجل الوطني من جهة أخرى. وبين السارد والكاهن الذي يُستدعى من بطون التاريخ القديم من جهة ثانية. وعند إنشاء المشاهد المتعاقبة الدالة على مسيرة التاريخ في المكان المسمى «بابل» يستخدم القاص التقنيات الخاصة بتسريع السرد كالحذف والتلخيص، فالحذف يجري بإسقاط فترات زمنية من السرد حين يستعرض الكاهن أحداث الماضي بطريقة الحذف أمام السارد، فيظهر «الشمريين» لافتة يقرأها السارد ولا يرى تفاصيلها وكذلك مع البابليين والأموريين. أما تقنية التلخيص فتكون من خلال تصوير المشاهد التي جرت بمقاطع محددة وأسطر قليلة وهذا ما نجده في حكاية امرأة (نبوخذ نصر) التي جلبها من منطقة جبلية وتوضيح أسباب إنشاء الجنائن المعلقة كي لا تشعر هذه المرأة بغربة المكان، وكذلك حوار الكاهن عن مدينة بغداد الذي لخص فيه تواريخ العسف والتنكيل الذي تعرضت له.

ونلاحظ في بناء الزمن وجود ثوابت تفصل بين زمن الحكاية وزمن الخطاب أهمها ما يؤكد انفصال السارد عن حركة السرد الخاص بالحكاية باعتباره مشاهداً لا مشاركاً فيها كاستخدامه الأفعال الدالة على ذلك: «قرأت كلمة الشمريين» و«رأيت في أعالي جزيرة العرب أقواماً مجتمعين».

إن بنية الزمان في رؤيا «كيف يرتقي العراق؟» تستثمر الإمكانات المتاحة في تشكيل الزمن في الرؤيا، ويدل هذا الاستثمار على وعي مبكر بالتقنيات الضرورية التي تسمح للرؤيا بالتجسد والظهور كتقنية تداخل الأزمنة التي تجد صدقها بالعلاقات المتناقضة، والأزمان المختلفة في الحلم إضافة إلى تقنية تسريع السرد عبر الحذف والتلخيص التي استخدمت هنا لتلقي ضوءاً على الأمكنة والشخوص الذين تم استدعاؤهم من التاريخ كوظيفة أولية لبناء مدينة الرؤيا «بابل» وأيضاً للمساعدة في الإجابة على السؤال الذي تصدّر هذه الرؤيا. وقد ساعد بناء الزمن بهذه الطريقة على الاستفادة من العلاقات التجاورية بين المشاهد والشخصيات التي يسمح زمن الرؤيا بتحققها دون اهتمام بالعلاقات السببية بينها حيث تم استبدالها بالخيالات والإيهامات كعتبة أولى في إنشاء قصة الرؤيا وتحقق شكلها في القصة العراقية المعاصرة.



اتجاه الخطاب القصصي ودلالاته:

يشير العنوان إلى توظيف مقصود للرؤيا باتجاه حاضر السرد وبشكل يعاكس حركة الأحداث في الحكاية الذي يتخذ النسق النازل مساراً له، فالحكاية التي تروى تتجه نحو عمق التاريخ، في حين يتجه الخطاب بنسق صاعد يعمل على تحقيق تلاق مقصود مع بنية العنوان وهو أمر سيبقى مؤجلاً في ثنايا الاستهلال الذي يخفي مقاصد السارد باتجاه بناء المشهد العام للطبيعة بتفاصيله العامة إلا أن هذا التستر والصمت لا يستمر طويلاً إذ يُقطَع بخطاب مباشر يشير إلى هموم السارد إضافة إلى مجموعة التعليقات المباشرة التي تعمل على ظهور المؤلف في السرد عند مشاهدته لبعض الآثار الدالة على قوة البناء وانسجامه. من أمثلة ذلك تعليق السارد «المؤلف الضمني» على حكاية الجنائن المعلقة وسبب بنائها الذي يُعلي من شأن المرأة في ذلك العصر فيقول: «تذكرت حالة نسائنا وما هنّ عليه من الجهل والذل والرقّ والبلاء» (ص342) ويعلق على عظمة البناء الذي اتسم به برج بابل قائلاً: «ليت بلادي في القرن العشرين بعد الميلاد، كبابل في القرن الثالث قبله» (ص343). وتشير هذه التعليقات المباشرة إلى مقاصد المؤلف وهي تعمل على مستويين دلاليين أولهما: كسر الإيهام الذي تعمل الرؤيا على تجسيده باعتبارها خيالاً محضاً لا علاقة له بالواقع المعيش وإحالتها إلى حيلة تقنية يستثمرها القاص لإيضاح وجهة نظره بما يحيط به من أحداث جارية في الواقع ويتأكد ذلك في الهامش الذي وضعه المؤلف في نهاية قصته حيث يشير إلى أن ما ورد من «الأخبار والأوصاف والصلوات حقيقية لا دخل فيها للخيال» (ص345). وثانيهما: عقد علاقة ذات أواصر متينة بين شكل الرؤيا وما ورد فيها من أوصاف وأخبار وصلوات وبين هذه التعليقات، واعتبار ذلك كلاً متجانساً وكأن هذه التعليقات هي إحدى وظائف الرؤيا في شكلها الذي تجسدت فيه. وبهذا المعنى فإن اتجاه الخطاب القصصي بنسق صاعد نحو بنية العنوان، سيتعزز بوجهة نظر السارد أو مجموعة الساردين التي تتجه باستقراء واضح للأبنية والإنشاءات الحصينة في مدينة الرؤيا بمعانيها المجسدة في كلمات هي: الأسوار والحصون والخندق الحاملة لدلالات محددة في اللغة الاصطلاحية ودمجها بعلاقة مع أحد زوجي الثنائية بناء/ (هدم) الذي يشير إلى دلالات معاكسة في الواقع المعيش ـ عام 1919م يتأكد بقوة الانتهاك والعسف الخارجي والتحكم في الإرادة الوطنية، واستنتاجنا هذا لا يعبر عن أمر مفروغ منه من خلال قراءة لأحداث التاريخ قراءة خارجية تساعد على فهم النص بل إن ذلك يبدو جلياً من النص نفسه، حين يضع المؤلف خطاباً مباشراً موجهاً إلى بغداد على لسان الكاهن الفلكي «بيروس» فيقول: «مسكينة أنت يا بغداد كم ذقت آلاماً وتجرعت سموماً وصبرت تحت المعاول والسيوف. كم قد دار عليك الزمان فأراك من مصائبه ومتاعبه ما جعلك تأنين تحت أثقاله وتستغيثين تحت آلامه» (ص345). وكذلك في خطابه الذي يستشرف فيه مستقبل هذه المدينة بتمنيات أو «رؤيا صادقة» فيقول: «أرى نجمك في السماء سعيداً، وحظك على الأرض حسناً، ومستقبلك في عالم الغيب زاهراً (...) ستعود إليك الثروة والشرف والسلطان ويزول الفقر والذل والخسران» (ص345). وأخيراً فإن نصيحته ـ الكاهن ـ ستمثل مستقبلاً لمدينة بغداد بما تحمله هذه الرموز من أسباب التقدم والعمران «فالبذور والماء والتراب تشير إلى ضرورة الاهتمام بالزراعة وترقيتها. والآلة التي تأمر الرياح بتسيير السفائن والمراكب ترمز إلى الصناعة، والكتاب الذي يحوي علوم الأولين والآخرين رموز للثقافة والمعرفة»(11).

إن بنية الخطاب في رؤيا عطاء أمين (كيف يرتقي العراق؟) تعمل بالشكل الكنائي الذي يتعزز بالرموز المستخلصة من التاريخ: سمو الماضي بحضارته وبنائه وعدالة نظامه السياسي، وبرموزه الدالة على هذا السمو كارتفاع برج بابل والجنائن المعلقة والحصون والأسواق الواردة في النص. وأيضاً بالتعليق المباشر الذي يرصد حركة الواقع باتجاه معاكس يبدو فيه الحاضر القصصي وقد توقفت فيه حركة السرد (كما لاحظنا في الاستهلال) وخلوه من قوة الرموز الدالة على القوة والتقدم، الأمر الذي يكرس معاني الضعف والتأخر والإذلال في الواقع المعيش الذي حرضت الرؤيا على الارتقاء به. □



الهوامش

(1) نشرت هذه الرؤيا أول مرة في مجلة (دار السلام) ـ بغداد، العدد 17، السنة الثانية، 24 آب 1919م. وقد أعاد الناقد (عبد الإله أحمد) نشرها في كتابه الموسوم (نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق ـ مطبعة شفيق، بغداد، 1969، ص341). ويعود الفضل للناقد عبد الإله أحمد أيضاً في إعادة نشر مجموعة من قصص الرؤيا التي نشرت في الصحف والمجلات العراقية بداية القرن العشرين والتعريف بها. كما يعود الفضل له في التعريف بهذه الرؤيا بشكل خاص إذ أنه درسها في كتابه (نشأة القصة العراقية)، ملخصاً أحداثها ومؤشراً على الجديد فيها. ومما لاحظه أن هذه الرؤيا تمثّل «رؤيا جديدة» «تعتبر امتداداً لهذا النمط الابتدائي من القصص الذي شهدناه قبل الحرب وفي الوقت نفسه تطويراً له» (ص48). ثم أشار إلى مظاهر هذا التجديد في قدرة كاتبها «على صياغة العبارة القصصية، فأسلوبها مرن، قصصي، كما أن الكاتب وفّق في نقل أحاسيسه الخاصة إلى القارئ» (ص48). ونتيجة لاحتفائه بهذه الرؤيا أبدى حيرته من «جوّها (الذي) يعبق بهذا الشذا الخاص الذي يتلمّسه القارئ في عمل أصيل ويحار في تعليل مأتاه». وجرياً على عادات النقد آنذاك سجّل الناقد بعضاً من المآخذ عليها فعنوانها «لا يمكن أن يصلح لقصة، كما أن تعليقاته العديدة التي يقطع بها سرده دليل آخر على بعده عن القصة» (ص48). غير أنه رد على اعتراضاته في نفس الصفحة قائلاً: «وليس الكاتب ملوماً في ذلك، فلم يكن بالرجل القادر على أن يمنع هذه التعليقات التي تُضعف من رؤياه (…) كما أن هذا العيب كان صفة لازمة للنتاج القصصي في هذه الفترة ولفترة طويلة بعد ذلك» (ص48). وقد اعتمدنا كتاب (نشأة القصة العراقية..) مصدراً لهذه الرؤيا.

(2) اهتم القاص محمد خضير بإنشاء مدينة خيالية هي (بصرياثا) وهي مركز تجربته القصصية التي جسدتها مجموعته القصصية (رؤيا خريف ـ مؤسسة عبد الحميد شومان، دار أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1995). في حين وردت مدينة (أرنجا) الخيالية في قصص القاص جليل القيسي وبالضبط في بعض قصص مجموعته (مملكة الانعكاسات الضوئية ـ دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1995). أما اسم (أرابخا) فقد تكرر في بعض قصص القاص محمود جنداري المنشورة في مجموعته (عصر المدن ـ دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1994).

(3) نشرت مجلة الأقلام العراقية في العدد 11-12 الصادر عام 1988 عدداً خاصاً للقصة العراقية القصيرة وردت فيه مجموعة من القصص التي تستفيد من بنية الرؤيا في تجسيد مدينة رؤيوية خيالية، تاريخية، واقعية، وقد استثمرت تلك القصص بناءات فنية مختلفة وضعت القصة القصيرة في مفترق طريق. من هذه القصص: رؤيا البرج محمد خضير؛ مملكة الانعكاسات الضوئية، جليل القيسي؛ زو ـ الطائر الصاعقة، محمود جنداري؛ موسيقى صوفية، لطيفة الدليمي؛ دومة الجندل، جهاد مجيد. وقد أصبحت هذه القصص أساساً لمجاميع قصصية صدرت بعد ذلك.

(4) يمكننا أن نعدّ المجاميع المشار إليها في الهامش (2) نماذج للقصص المتضامنة. وقد وردت كلمة (قصص متضامنة) في المقدمة التي كتبها القاص محمد خضير لمجموعته (رؤيا خريف، مصدر سابق، ص9).

(5) يبنى المشهد الاستهلالي في قصة (مملكة الانعكاسات الضوئية) للقاص جليل القيسي بنزول السارد من مكان مرتفع (القلعة) في وسط ليلة ربيعية صافية «كانت ليلة مقمرة من ليالي نيسان الهادئة» (ص25)، «أثارتني الليلة الربيعية الطرية والأرض الندية التي تعبق برائحة لذيذة وهي تلطم الأنف وتدغدغ الحواس». وبنية الاستهلال هنا تشبه بنيته في رؤيا (عطاء أمين) فهو ينتقل أيضاً من السماء إلى الأرض ثم يعود إلى الأرض وفي كليهما يلتقي السارد بشخصية تنتمي إلى عالم الرؤيا: الرجل الوطني في قصة عطاء أمين و«الشبحان الطويلان الملتحيان» في قصة مملكة الانعكاسات الضوئية. وفي كلا القصتين تتراءى هذه الشخصيات بفعل الرؤيا/ الحلم عند الأول على شكل طيف وبفعل الخمرة عند الثاني إذ يقول: «مجرد طيفين خلقهما ذلك الشيطان ـ ويسكي».

(6) أوضحنا في دراسة سابقة عن قصة (رؤيا البرج) للقاص محمد خضير، استثماره لتقنية تعدد الصوت السارد لمجموعة ساردين يمثلون الرديف/ القرين/ الصاحب في إدامة السرد وتنوع لغاته. وقد لاحظنا في تلك الدراسة تغيراً واضحاً في لغة السرد بالعلاقة مع ظهور السارد الجديد يكشف وظيفته ويشير إليها. ونؤكد هنا ابتكار القاص عطاء أمين مثل هذه التقنية في قصته الرائدة (كيف يرتقي العراق؟/ رؤيا صادقة) وهذا واضح هنا من لغة الأرقام الحسابية التي يستخدمها الرجل الوطني كسارد جديد يدخل السرد لوصف السور والخندق وكذلك برج بابل. والمثير في ذلك أن القاص عطاء أمين عندما يصف البرج، يعطيه ملامح متشابهة مع ما ورد عنه في قصة (رؤيا البرج) وهذا ناتج من الرجوع إلى مصادر تاريخية عن البرج، والذي نعنيه في هذا الابتكار هو انتقال السرد عند هذا القاص من سرد محمّل بالأوصاف بجمل السجع إلى سرد «موضوعي» يستخدم لغة الأرقام.. فالبرج عند عطاء أمين بناء زقوري شامخ ذو سبع طبقات «تتناقص سعتها تدريجياً كلما ارتفع البناء وقد بُني على قطعة من الأرض يبلغ ارتفاعها 25 متراً..» (ص343). في حين يصفه السارد في (رؤيا البرج) قائلاً: «يتكون البرج من خمسة طوابق مربعة القاعدة متدرجة في الحجم والمساحة مرتكزة جميعها على مصطبة واسعة يبلغ ارتفاعها خمسة عشر متراً» (رؤيا خريف، مصدر سابق).

(7) كما نلاحظ أن لغة السرد قد انحرفت هي الأخرى بظهور (السارد الوطني) و(شخصية الفلكي الكاهن) حال الدخول إلى باطن البرج في رؤيا عطاء أمين، وقد لاحظنا هذه اللغة في كلا القصتين بانتقالها من لغة سردية موضوعية إلى لغة سردية ذاتية تستفيد من اللغات المجاورة: الدعاء والنبوءة عند عطاء أمين واللغة الصوفية مع مجموعة من اللغات عند القاص محمد خضير وهو أمر شخصناه في قصته الموسومة (رؤيا البرج) أساساً، الموصوفة في دراستنا المذكورة في مجلة الموقف الثقافي، العدد 27، السنة الخامسة 2000، ص73، تحت عنوان (مخطوطة البرج دراسة في قصة رؤيا البرج).

(8) عند دخول السارد إلى مدينة (بابل) في قصة (مملكة الانعكاسات الضوئية) «بقوة سحرية» يسمع صوتاً كورالياً جميلاً يردد قصيدة (أرض دلمون مكان طاهر) وعند انتهاء الكاهن من دعائه في رؤيا عطاء أمين ونزوله إلى الطابق السادس يردد قصيدة (ذهاب الزهرة إلى جهنم) وفي كلا القصيدتين يمهّد كل قاص إلى وظيفة قادمة: بابل المنفتحة على البهجة والفرح في (مملكة الانعكاسات الضوئية) و(بغداد) التي تعيش عصر الانحطاط والتخلف آنذاك في رؤيا عطاء أمين.

(9) اقترحنا مصطلح (السارد الرائي) لهذا النوع من الساردين حيث تتحقق الرؤيا وتكتمل بظهوره. لاحظ دراستنا (بناء مدينة الرؤيا، مجلة نزوى، العدد العشرون، أكتوبر 1999).

(10) أقف متأملاً عبارة الكاهن (بيروسيوس) في رؤيا عطاء أمين وهو يقول: «ففكر قليلاً ثم قادني إلى غرفة مظلمة وقال لي: انظر أمامك وإلى تلك النافذة فسيمر منها (التاريخ العراقي) كما تمر الصور المتحركة في بلادك» (ص343). فهل تمثل استباقاً حلمياً مستوحى من الخيال العلمي وباستثمار (الصور المتحركة) بصورتها البدائية عام 1919 ليطلق خياله الخصب جاعلاً منها وسيلة سردية فنية تعتمد هذا الخيال فيما تحقق له في السنوات اللاحقة التي تنأى بزمن بعيد عن زمن كتابتها للتعريف بتاريخ العراق عبر العصور المختلفة. ومما له دلالة هنا هو قوة التخييل عند هذا الكاتب وقد وجدنا توظيفاً مشابهاً لها في قصة (أطياف الغسق) للقاص محمد خضير الذي استخدم الخيال العلمي فيها، ونشير لذلك تخصيصاً إلى (استوديو الرؤى المجسّمة في مركز الفنون) أو (الغرفة السوداء للقيامة ـ غسق) في قصة القاص محمد خضير التي تشبه غرفة كبيرة مبطنة الجدران باللون الأسود وفيها أجهزة مصممة على استحضار صور الأطياف من الأثير التي يلتقطها النحات منعم فرات الرابع ـ الحفيد لتساعده في تجسيد شخصية جده الفنان الفطري منعم فرات. انظر: قصة (أطياف الغسق، مجموعة رؤيا خريف، مصدر سابق، ص86 و90) وهي تقنية متقاربة إذا نظرنا إلى زمني كتابة كل منهما..

(11) نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق، مصدر سابق، ص53.
أعلى