علي حسين - هل جلست إلى عبد الرحمن منيف يوماُ

ظل يحمل حقيبة السفر حتى اليوم الاخير من حياته ، ورغم انه اشتهر كواحد من اهم المسافرين داخل نفس الانسان العربي المعاصر ، إلا انه عاش في الواقع عالم الترحال بين البلدان ، ومثلما يصفه غائب طعمه فرمان بانه : " وزع حياته على خارطة البلدان العربية " ، والده نجدي من السعودية ، كثير الأسفار ، وفي واحدة من سفرياته تزوج في بغداد من امرأة عراقية ، سافرت معه إلى الاردن حيث ولد عبد الرحمن منيف في مدينة عمان يوم التاسع عشر من ايار عام 1933 ، بعد ثلاث سنوات من مولده سيتوفى والده فتضطر العائلة الى البقاء في الاردن بانتظار العودة الى مدينة نجد ، في عمان حيث سيطول المقام يكمل دراسته الابتدائية والثانوية ، يعود الى نجد التي لم يمكث فيها طويلا ، حيث يقرر الدراسة الجامعية في بغداد عام 1953 يدرس في كلية الحقوق ، لكن قرارا سيصدر بابعاده بسبب نشاطه السياسي ، ليكمل دراسته الجامعية في القاهرة ، بعدها سيحط الرحال في يوغسلافيا يدرس النفط بدلا من القانون ، هذا النفط الذي كان: " سببا في ان ترافقني حقيبة السفر مثل ظلي " ، بعدها سيجد نفسه موظفا في الشركة السورية للنفط في دمشق ، وعضوا في القيادة القومية لحزب البعث الذي سيعلن استقالته منه عام 1962 ، في العام 1963 سيجد نفسه بلا جواز سفر بعد ان قررت الحكومة السعودية سحب الجنسية منه ، فتمنحه الجزائر جواز سفر دبلوماسي ، سيضطر ايضا الى التخلي عنه امام ضغط الحكومة العراقية التي قررت ان تمنحه جواز سفر عراقي ، وسينتقل الى بغداد التي تصبح واحدة من المدن القريبة الى قلبه وسيتذكرها كثيرا حين يضطر الى مغادرتها عام 1981 ، ليحاول استعادة رائحة المدينة التي عاشت فيها جدته من خلال ملحمته الروائية " ارض السواد " التي صدرت عام 1999 :" كنت اريد ان ابعث برسالة حب صادق لهذا البلد الحزين الذي يتناساه الجميع الآن " ، معتـقداً أنه لكي يسترد المجتمع الذي غادره فإن عليه أن يعود الى تاريخه :" عندما ذهبت الى العراق عام 1952، وخلال الاسابيع الاولى قدرت انني أخطات اختيار المكان لأن كل شيء : البشر والامكنة والمناخ غير ما تصورت وافترضت ، امكنة لها تضاريس خشنة ، مناخ قاس بحيث لا يعرف الانسان هل هو في الصيف ام الشتاء ؟ ، اما البشر في الشوارع ، في الجامعة ، في الباص والدكاكين ، فانهم يعبرون مسافرين أقرب الى الصمت والتامل ، لكن لم تمر اسابيع اخرى ونتيجة الاحتكاك اليومي المستمر حتى تخلخلت تلك الصورة ثم اخذت تتغير ، فالأمكنة التي كانت تراها العين خشنة ما لبثت ان تكشفت عن جمال بدوي غير مجلوب كما يقول المتنبي ، والبشر المغلقون الذين لا يضحكون للرغيف الساخن ، كما يقال ، بعد ان تعرفوا ووثقوا فاض ودهم أالى درجة لايستطيع الانسان ان يجاريهم او يحتمل كل ذلك الود دون ان يصبح اسيراً له، فقد تدفق حبهم الى درجة لا يمكن للانسان الى ان يردد مع محمود درويش : انقذونا من هذا الحب القاسي ." - من حوار اجراه فيصل دارج مع عبد الرحمن منيف ونشر في مجلة الكرمل عام 2000-
قبل ان التقي المرة الاولى بالروائي عبد الرحمن منيف كانت صورته التي اشاهدها في الصحف مرفقة مع المقابلات التي تجرى معه او مع النقد الذي يكتب عن اعماله ، تتنافى مع الصورة التي رسمتها له في مخيلتي وهي صورة لاتختلف عن الصورة التي تعرفنا عليها لبطل روايته الاشجار واغتيال مرزوق " منصور عبد السلام " ، رجل في منتصف العمر ، ينظر بلا مبالاة الى ضجيج العالم ، متخفيا وراء اسماء وهمية منحها لابطال رواياته ، خائف قلق ، مرتبك احيانا، يعتقد ان الجميع يراقبه ويسجل عليه ادق حركاته .. وفي مرات كنت اتخيله " الياس نخلة" البطل الآخر في الاشجار واغتيال مرزوق ، في الخمسين من عمره ، ضعيف ، عظام وجهه بارزة ، ورقبته تبرز واضحة داخل القميص الواسع ، عيناه ببن الرمادي والأزرق ، ضاحكتان بسخرية ، يرتدي ملابس فضاضة متناقضة الالوان .. وربما هو مرزوق الذي يتردد اسمه في الرواية كثيراُ ، يملك ابتسامة مليئة بالحزن والسخرية .. في تلك الايام كنت انتهيت من قراءة رواية كازنتزاكيس " زوربا اليوناني " ولاتزال صورة العجوز زوربا ماثلة في ذهني " قامة منتصبة ، ذا انحناءة خلف رأسه ، وذا عينين صغيرتين مستديرتين مثل عينين طائر .. واخذت اقارن بين شخصية الياس نخلة والعجوز زوربا .. حتى جاء عصر احد الايام قبل ما يقارب الاربعين عاما حين دخل الى المكتبة التي اعمل فيها الناقد ماجد السامرائي وكان من الزائن الدائميين للمكان ، ومعه رجل انيق جدا ، صاحب وجه اسمر شديدة الخصوصية والحميمية ، ولفرط خصوصيته تكاد تشعر بانك لم تره من قبل نظر لفرادته ، ولفرط حميمته تكاد توقن انه احد اقاربك .. والسر في هذه الازدواجية انه وجه مطمئن جدا لما يفعله في حياته اليوميه .. وعلى الرغم ان صاحب الوجه كاتب مشهور، إلا أنه أصر أن يعرفني بنفسه " عبد الرحمن منيف " كنت قد قرأت له الأشجار وإغتيال مرزوق، وشرق المتوسط، وكانت الروايتان قد صدرتا ضمن منشورات وزارة الثقافة العراقية. قال لي ماجد السامرائي إن منيف يبحث عن كتاب، بعنوان"فاوست كما آراه"، أخبرته بوجوده وذهبت لإحضاره وأنا أشعر بالسعادة لأنني تمكنت من تلبية طلب روائي وكاتب مهم .
أثناء عملي في المكتبة ، كنت أعتقد انني أستطيع الإجابة على أي سؤال عن الكتب، وكان هذا الغرور دائماً ما يضعني في مواقف محرجة، مثلما وجدت نفسي أمام عبد الرحمن منيف وهو يردد على مسامعي عناوين لكتب وأسماء تَطرقُ سمعي للمرة الأولى، قال لي عبد الرحمن منيف: حاول أن تجعل من القراءة واقعاً تعيشه، الكتب كثيرة وأشار الى رفوف المكتبة، ثم أضاف:"ضع قائمة خاصة بقراءاتك، لاتقرأ من أجل المتعة فقط رغم أهميتها، إقرأ من اجل ان تعيش اكثر من حياة" ، قلت له انا قرأت الاشجار واغتيال مرزوق واعتبرها رواية لاتقل اهمية عن رواية كازنتزاكيس " زوربا " ، قال لي وهو يبتسم هل تعرف ان الكتب تنافس بعضها البعض ، والجيدة منها فقط تدخل في سباق مع القارئ، ثم اكمل : استطيع ان ازعم انني قارئ جيد ، وان القراءة بالنسبة لي متعة .. ولهذا فان الاشجار واغتيال مرزوق لايربطها بعمل كازنتزاكيس الكبير سوى ان ابطال العملين همهم البحث عن الحلم .. كان كازنتزاكيس عندما كتب روايته زوربا وهو في الثالثة والستين من عمره ، وانا الان في الخامسة والأربعين - اللقاء كان عام 1978 – واضاف منيف لاتنسى ان كازنتزاكيس تاثر جدا بافكار نيتشه وبوذا وبرجسون ، ، اما انا فعقلي ميال الى ديالكتيك هيجل ، لكن عواطفي مع سارتر ومواقفه ، في زوربا كان كازنتزاكيس يريد من ابطاله ان يتجهوا الى الامام رغم ان اليأ س يحيط بهم .
قلت له : ومنصور عبد السلام ايضا كان يريد في الاشجار واغتيال مرزوق ان يتجه الى الامام برغم اليأس الذي يحاصره .
صمت قليلا ثم قال بصوت اقرب الى الهمس : منصور عبد السلام حطواتها كلها الى الوراء ، ما حاولت ان اقوله في الاشجار واغتيال مرزوق هو الاضطهاد والغربة ، الاضطهاد والغربة ليست لهما وجه واحد ، لهما وجوه متعددة ، وحتى نستطيع استيعاب الاضطهاد بكل ابعاده يجب ان نرى نماذج خقيقية للاضطهاد بكل ابعاده .. ومن هنا اخترت نموذجين يمثلان الاضطهاد في مرحلة معينة وبمفهوم معين .. الاضطهاد المادي والاضطهاد النفسي .. ويبدو لي أن صورة الياس نخلة او صورة منصور عبد السلام لم تكن تظهر واضحة لو كانت منفردة .. عكس زوربا صورته لوحده صورة واضحة جدا ، بل ان صورته تضفي ملامحها على معظم احداث الرواية ، وهذا لم يحدث في الاشجار واغتيال مرزوق ، فصورة الياس نخلة التي يجدها البعض شبيهة بصور زوربا لايمكنها لوحدها ان تؤدي غرضا معينا ، فالقارئ يحتاج الى جانبها صورة منصور عبد السلام لتكتمل الصورة النهائية ، ولنرى ما يعانيه الانسان المسحوق ماديا في منطقة معينة ، ومدى ما يعانيه الانسان المسحوق نفسيا عندما يكون عرضة لاضطهاد من نوع آخر ، لذلك لا يمكن ابداً الفصل بين الشخصيتين وبين الموضوعين ..وانا اعتقد اننا لو حاولنا ان ناخذ احد الوجهين ونذهب بعيدا في تتبع حياته، لا بد ان نصل الى الشعور بفقد شيء ما .
تجرأت وسالته ثانية : عندما قرأت الاشجار واغتيال مرزوق وجدت ان " الياس نخلة " هو البطل ، وتاثيره بالنسبة لي كان اكثر من منصور عبد السلام .
نظر في فنجان القهوة الذي احضرته له ثم قال : هذا ما اسمعه من الكثيرين .. في الرواية كان عندي محوران اتحراك فيهما ، بمقدار ما كنت ابرز هموم وتعاسة الياس نخلة ، كنت ارى تعاسة من نوع آخر يعاني منها انسان المناضل يتعرض لنوع آخر من الاضطهاد والغربة .. الياس نخلة لايفكر في الحياة وانما يعيشها ، انها صورة اخرى لزوربا الذي عشقت شخصيته ، اما منصور فقد كانت الافكار عماد حياته سنوات وسنوات ، وعندما تحطمت افكاره تحطمت معها احلامه .
في مذكراته " تقرير الى غريكو " يخبرنا كازنتزاكي إن فكرة زوربا كانت في البداية أشبه بايقاع جديد استولى على حياته:" حين إلتقيت بزوربا، وكان ما يزال يُلقي بظله على الأرض، وحين عرفت انه لاجسده ولا أغنيته ولا حتى رقصته كانت قادرة على استيعابه، تساءلت بتوقع كبير عن أي نوع من الوحوش البرية سيتفجر حيت تأتي ساعته ويقطع القيود الشفافة المحيطة به "، ولهذا ما إنْ نبتت فكرة الرواية في ذهنه حتى أخذ يكتبها بسرعة، بطريفة محمومة وهو ما جعله يصف الرواية بعد أن انتهى من كتابتها بأنها:" مثل المصيدة، كنت أرتبها بكل الدهاء الذي لدي، لكي أقبض على الصرخة المعجزة التي تظل تتقدم أمامي ".
يلتقي منصور عبد الرحمن في القطار الذي ينقله الى البعثه الاثارية التي سيعمل معها ، بالياس نخله ، كان كأنه يلتقي بوجهه الحياتي الآخر ، منصور انسان الفكر والسياسة والاحلام المؤجلة ، والياس انسان الحياة المعاشة ، في القطار سيقص الياس نحله كل حياته ، ثم ينزل في محطة الحدود ، ليتابع منصور رحلته متذكرا حياته حتى يصل الى مقر البعثة الاثرية ، هناك يبدا بتسجيل يومياته ومنها سنعرف ان مرزوق مات ، مرزوق شريك الطفولة والشباب والاحلام كان موته وجه آخر من موت احلام منصور ..ومع الصفحات الأخيرة للرواية يكون عبد الرحمن منيف قد قدم لنا ثلاث حكايات تكاد تكون منفصلة ، لولا ربط شخصية منصور عبد السلام بينها .
وهنا حاولت ان استعرض بعض قراءاتي فقلت له : في الأشجار واغتيال مرزوق وايضا في شرق المتوسط كان هناك موضوعة السفر .. وقبل ان يجيبني اكملت ووجدت وانا اقرا الصفحات الاولى من الاشجار واغتيال مرزوق انها قريبة الشبه بافتتاحية دوستويفسكي في روايته الأبله حيث القطار هو المكان ( اثناء ذوبان الثلج الجليد . كان قطار وارسو يقترب من بطرسبورغ مسرعا . في احدى حجرات الدرجة الثالثة راكبين قد جلس احدهما امام الآخر قرب النافذة منذ الصباح ) – رواية الأبله دوستويفسكي الجزء الاول ترجمة سامي الدروبي –
ابتسم ابتسامه صغيرة ، ثم تجمعت في وجهه مجموعة من التعابير المحببة وهو يقول : تعلمت من دوستويفسكي ان الكاتب لكي يكون قادرا على ان يكتب جيدا ، عليه ان يعاني ..صمت قليلا ثم اكمل : وان يتغلب على معاناته .. ولهذا انا اعتقد ان كل رواية اكتبها اتغلب فيها على جزء من المعاناة التي عشتها في حياتي .. احيانا تكون المحاولة ناجحة ، واحيانا اصاب بالفشل لأن المعاناة لاتريد ان تغادرني .. كثير ما يطرح عليُ سؤال عن جنسيتي ، وفي الحقيقة هذه القضية لم تعد تشكل محنة بالنسبة لي ، وليست المشكلى بالنسبة لي كوني من السعودية او اردني او عراقي وانما مشكلتي انني في رحيل دائم ، وعديم الجدوى لانني في كل مرة اعتقد ان هذا هو الميناء الاخير ، فاكتشف ان هناك موانيء أخرى ، ومن خلال التنقل بين هذه الموانيء اجد ان الاشياء والحالات تتكرر لدرجة لا اعرف في اي ميناء انا الآن .
في الاشجار واغتيال مرزوق كان القطار وسيلة للعودة الى الماضي وفي شرق المتوسط كانت السفينة اشيلوس تنقل رجب الى المستقبل ، فهو يغادر شخصيته السابقة ..رجب مناضل سياسي اعتقل وعذب اربع سنوات الى ان خرج متبرئا من تاريخه السابق ، وقد وافقت السلطات على خروجه وسفره شريطة ان يظل على اتصال بها ، وان يزودها باخبار المعارضة في الخارج .
قلت له : الا تعتقد ان ما فعله بطل شرق المتوسط هو انكسار ، كيف يتحول المناضل الى مجرد كاتب تقارير على رفاقه .
كأني اثرت مواحع عنده قال بصوت حزين : شرق المتوسط لاتناور ، ولاتحاول ان تجمل الواقع ، او تتحايل على القراء ، انها توجه الاتهام مباشرة الى السلطات ، السلطة السياسية هي المسؤولة عن هذا التحول الذي اصاب المناضل ، فهذه السلطات هي من جعل التعذيب الاداة التي لاتكتفي بتحطيم الاحلام فقط بل وتكون الاداة الاقوى في تحطيم الانسان وتشويهه جسديا وروحيا ( لا احد ينجو الذي يعمل في السياسة والذي لايعمل ، الذي يحب هذا النظام والذي لايحبه ) – رواية شرق المتوسط –
يقول رجب لنفسه في شرق المتوسط :" لو ظلت امي لظللت شابا وصامداُ ، لو ظلت هدى لظللت اقوى واشد ، لكن جسدي هو الذي عذبني لم يتركني ارتاح يوما واحدا ، حاربت جسدي فترة طويلة ، جاملته ، سألته أن يقف بجانبي ، لكن شيئا في الخارج ظل يغزوني دون رحمة "
شكلت عبارة نيتشه الشهيرة :" لن تغلبوهم بقوة السلاح بل بقوة الروح "، نقطة البدء بالتفكير بشخصية زوربا اليوناني ، وقد أشار اليها كازنتزاكي كثيراً في رسائله ويومياته. اقترح نيتشه قانوناً واحداً لهذا الانتصار يلخصه في كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت ":" الحق إن من يكون خالقاً في مجال الخير والشر، عليه أولاً أن يكون محطماً وهادماً للقيود و القيم المتناقضة "، بدأ زوربا حياته بوعي التناقض بين الفطرة والقيود الاجتماعية، فأنفق حياته في التحرر منها وتحطيمها. لقد تزوج، لكن هموم الأسرة حالت بينه وبين ممارسة هوايته المفضلة، العزف على آلة السانتوري فهاجر. وشعر إن رغبته تقيده، فأشبعها الى حد التخمة:" عندما أرغب في شيء آكل منه حتى التقزز كي أتخلص منه، ولا أفكر به مطلقاً، أو أفكر به باشمئزاز، فالإنسان يتحرر بأن يشبع من كل شيء، لا بأن يزهد فيه ويبتعد عنه. هذه هي الحرية، أن تهوى شيئاً، كأن تجمع قطع الذهب وفجأة تتغلب على هواك وتلقي بكنزك في العراء. أن تتحرر من هوى كي تخضه لهوى آخر.أكثر نبلاً ".
( نظرت الى الجدران ، توقفت عيناي على صورة الشهادة ، كانت زاويتها اليسرى صورتي ، نهضت على رؤوس اصابعي ، صعدت فوق المقدمة ونظرت طويلاً الى الصورة ، ليس بيننا أي شبه ، ذهبت الى المرآة وتطلعت الى وجهي ، شعرات بيضاء في الفودين ، وفي منتصف الرأس ، صفرة حقيقة في العينين ، تجاعيد ، " لمن هذا الوجه ؟ " وعدت اتطلع الى الصورة من زاوية الشهادة ، قلت في نفسي ان احد هذين مات ) - شرق المتوسط -
قال لي وانا اواصل حديثي معه حول روايته :" معظم عمري ضاع في الانتظار ، لاشياء جاءت ، ثم بعد ان جاءت ذهبت ، او تحققت ، وبقيت انتظر أشياء آخرى ..ومن خلال التجوال والإنتظار والتنقل بين المدن ، اجد أان الأشياء والحالات تتكرر لدرجة انني لا اعرف احيانا من انا ويط هذه الفوضى والاحلام والانكسارات
واذا سالتك الآن من هو عبد الرحمن منيف ؟
ضحك وهو يقول : تريد ان تستدرجني ، ومع هذا فانا لا اعرف بدقة من هو عبد الرحمن منيف ، كل ما اعرفه انتي واحد من الملايين الفقراء الذين يعيشون على الارض الشديدة الغنى والقسوة في وقت واحد ، ولاني هكذا ولأن الحياة حولي هكذا ، فقد امتلأت منذ الصغر بالتمرد والرفض ، ولا ازال كذلك حتى الان ، ولاني هكذا ، ولان الحياة حولي هكذا ، اذن لا اعترف بأي مكان ، والى ان يتم الاعتراف ، سابقى متجولاُ دائم الرحيل .
( نسفت كل الجسور التي تصلني بالعالم ، بشاطيء السلام ، لم يبق امامي الا ان اشرب ، انا مجرد انسان عادي ، انسان مضطهد عاطل عن العمل منذ وقت طويل ، لي هموم صغيرة واحلم اغلب الوقت ) - منصور من رواية الاشجار واغتيال مرزوق -
يؤكد كازنتزاكيس أن " زوربا " شخص من لحم ودم، رجل عجوز يعيش في إحدى قرى كريت، كان يحبه كثيراً، بل إنه واحد من الأشخاص الذين تركوا في نفسه أثراً كبيراً وفي مقدمة الرواية يكتب: " لو إنني أردت أن أذكر الاشخاص الذين تركوا أعمق الأثر في نفسي، فلعلني أذكر بصفة خاصة ثلاثة أو أربعة: هوميروس، برجسون، نيتشه وزوربا"، وبعد ذلك يقول لو كان بمقدوره أن يختار في هذه الحياة مرشداً هادياً روحياً لأختار بلا تردد زوربا، ويرجع السبب في تأثير زوربا على كازنتزاكيس هو لإمتلاكه النظرة الفطرية للأشياء، والبراءة الخلاقة التي تتجدد في نفسه كل صباح، والتي تجعله دائماً في تطلع مبهور الى جميع الموجدودات، كما إنه يملك في داخله قوة قادرة على تجاوز كل العوائق الاخلاقية والدينية..إن زوربا يمثل التفاهم بين الطبيعة والإنسان مثله مثل زرادشت في كتاب نيتشه، لقد كان العالم بالنسبة لزوربا رؤيا ثقيلة وكثيفة، وهو يعيش في هذه الحياة في صداقة مع الطبيعة دون تدخل العقل الذي يشوه الاشياء، وقد استطاع بفطرته هذه أن يحب ويكره ويقاتل ويعمل ويحل جميع المشكلات التي تعترض طريقه دون الرجوع الى الكتب وأقوال الفلاسفة، أما الكاتب فهو نتاج الثقافة الاوروبية الحديثة، اختار البوذية كطريق للخلاص الفردي، وكان يؤمن أن كل انسان هو جزء من الطبيعة التي يحصل من خلالها على هدوء الروح. وعندما يلتقي بزوربا يكون في حالة زهد بالطعام والشراب والجنس، لكنه يعاني من قلق الروح، الأمر الذي يجعله مشلولاً، شارداً، أشبه بالمخدَر، ولهذا يصر زوربا أن لايتركه في سكون ويبدأ يعلمه كيف يستخدم جسده وحواسه فنجده في النهاية يقول:" سأدرب حواسي الخمسة، جسدي كله كي يتمتع ويفهم سأملأ روحي بالجسد وأملأ جسدي بالروح. سأوافق أخيراً في نفسي ما بين هذين العدوين الأبديين ".كانت هذه هي الخلاصة التي خرج بها الكاتب بعد أن عاش الحياة الحقيقية مع العجوز زوربا ".
لقطة عابرة
في منتصف التسعينيات وانا اهم بدخول بناية دائرة السينما والمسرح التتقيت بالفنان يوسف العاني كان في طريقه الى غرفته في الطابق الرابع ، لمحت الفرح يشع من عينيه ، اشار الى ظرف يحمله : لقد وصل كتابي الجديد " شخصيات وذكريات " وقبل ان تكلم ، اكمل العاني هل تعرف من كتب المقدمة ؟ انه صديق سنوات الخمسينيات عبد الرحمن منيف .
في يومياته " تقرير الى غريكو " يلخص كازنتزاكيس فلسفته الإنسانية وهي:" ثمة واجبات ثلاثة على الإنسان أن يؤديها أولها واجبه نحو عقله الذي يفرض النظام على الفوضى ويشكّل القانون ويقيم الجسور فوق عالم اللامفهوم، ويضع الحدود المعقولة التي لايجرؤ أحد على أن يتخطاها، ثانيها واجبه نحو قلبه الذي لا يعترف بحدود، والذي يتوق الى النفاذ وراء الظواهر ليمتزج بما هو أبعد من العقل وبما هو وراء المحسوس، أما واجبه الثالث فهو أن يحرر نفسه من العقل والقلب وما يقدمه كلاهما من أمل في اخضاع الظواهر الطبيعية واكتشاف جوهر للأشياء، ثم من واجبه أيضاً أن يحتضن هاوية الزوال بلا أمل، وألا يعترف بشيء لا بالحياة ولا بالموت، وأن يتلقى هذه الحميمية بسمو وشجاعة، عندئذ يستطيع الإنسان أن يقيم لحياته بناء راسخاً فوق الهوة السحيقة التي لامفر منها وقد سرى في بدنه الفرح المشوب بالحزن ".
عام 2000 سيعيرني الصديق مقداد عبد الرضا ملحمة عبد الرحمن منيف " ارض السواد " باجزائها الثلاثة ، لم انتظر طويلا ، في المقهى التي كنا نلتقي فيها في شارع السعدون فتحت الصفحة الاولى :" بعد ان حَضرت سليمان الكبير الوفاة ، بعد ان ظل واليا على بغداد اثنتين وعشرين سنة " اذن هذا هو عبد الرحمن منيف يعيد لنا حكاية عشقه لبغداد بعد سنوات من مغادرته العراق، ها هو يجد نفسه من جديد مشدوداً الى ذكريات مجتمع أحبه وعاش فيه باستغراق وجداني تام، حيث على هذه البقعة من الارض اختمرت احلامه وتطلعاته وتحولاته الثقافية والسياسية ، فالعراق ظل حتى اللحظات الاخيرة من حياة عبد الرحمن منيف هو الحدث الحياتي والروائي الاول الذي لم يفارق ذهنه ابدا، انها العاطفة التي تفوح من بين صفحات الكتاب وتعيدني الى زمن كنت فيه لا ازال اخطوا خطواتي الاولى في عالم القراءة .. في تلك الايام مثل التلميد امام الرجل الاسمر الباسم ، وهو يقول لي : :"لا تنسى أقرأ حتى وإن شعرت بالملل، دع الكتاب يقوم بالمهمة.. لايعني شيئاً للقارئء إن لم يَفهم بعض الصفحات، يكفي إنه يشعر بالحماس لإتمامه". لقد كانت كلمات منيف مدهشة وصادمة لدرجة لم أستطع إلا أن أقول له إنني ساعتبر نصيحته دليلاً في القراءة.
وبرغم مئات الصفحات التي كتبتها في مديح الكتب ، ساظل طوال عمري أتذكر نصيحته وهو يصافحني عند باب المكتبة : حاول أن تجعل من القراءة واقعاً تعيشه .



أعلى