مزهر جبر الساعدي - صداقة.. قصة قصيرة

توقفت سيارة أمام باب المقهى، من النوع الفخم الذي يثير انتباه الناظر إليها. في هذا الوقت من بداية الغروب، تراءت لي السماء التي تتحرك عليها قطع من الغيوم السود والحمر والبيض، التي أنظرها من مكاني، حيث يتيح لي إبصار الظلام الخفيف، الأخذ بالانتشار على سطحها الذي بدا غارقا في جب عميق الغور، أو هكذا ظهرت السماء كدائرة فوق الساحة الدائرية والواسعة، ولكنها في الوقت عينه، واضحة كل الوضوح، كأنها ميدان حرب لأشباح تدفعها الرياح المقبلة من اللامكان، فتجعلها وهي تتزاحم، تأخذ الأشكال الآدمية في قتالها الذي تخيلته في فضاءات مخيالي، قتالا شرسا على حيازة دروب السماء.
توقف القصف من الجانبين. كانت الساعة قد عبرت بقليل منتصف الليل. التفتُ الى زملائي الذين يغطون في نوم قلق ومضطرب؛ شخير هنا وكلمات مختنقة في الحلق هناك وبكاء من الذي كان ينام على مقربة مني، شاب يافع لم تمض عليه في هذا الملجأ إلا إيام قليلة. لماذا تبكي وانت نائم؟ سألته ذات صباح. لم يجب لاذ بصمت حزين بدا واضحا على معالم وجهه. لكن في المقبلات من الأيام من غير أن أثير معه موضوع بكائه الذي تواصل بلا انقطاع: تركت أمي وحيدة في البيت، أبي مات قبل سنوات. خرجت من الملجأ من غير صديقي سعيد الذي نام بعد نوم الجميع. كان قبل أن يتمدد على فراشه، يبحلق بسعة عينيه في وجهي. ظن أنني نمت على غير عادتي فقد كنت وهو يحدق فيّ، مغمض العينين بقصد مني. كانت السماء في المدى السحيق، في هذا السكون بلا قمر، لكن عوضا عنها كانت النجوم، ترسل ضوءا كافيا لإنارة الأنحاء.

لم تكن الأخبار قد بدأت، كانت هناك في البث بدلا منها، موسيقى إيرانية ناعمة تبعث على الوجع، أو تثير المواجع وتدفع العقل إلى تأمل لوحة الحرب.

وصل إلى مسمعي نعيق غربان من مكان بعيد. كنت حزينا ومتألما، أكاد انفجر من شدة الأسى والغيض. فتحت المذياع الذي اصطحبه معي في الحراسة وحتى في المنام، لقد كان سلوتي وملهاتي في وقائع الموت هذا الذي نحن فيه، أدرت المؤشر على إذاعة طهران علني أسمع خبرا ما عن الحرب، بارقة أمل ولو خيطا رفيعا ينتهي بموافقة إيران على وقف إطلاق النار، ومن ثم تضع نهاية لهذه الحرب الضروس، في ذاك الحين كانت الحرب في السنة الأولى من بدايتها. الوساطات الإسلامية تتوافد على العاصمتين بغداد وطهران. لم تكن الأخبار قد بدأت، كانت هناك في البث بدلا منها، موسيقى إيرانية ناعمة تبعث على الوجع، أو تثير المواجع وتدفع العقل إلى تأمل لوحة الحرب. وجدتني أحس أحساسا عميقا بالتقاطع بين هذه الموسيقى وأخبار الموت الذي سوف يبث بعد ثوان. تمنيت لو أن هذه الثواني تتمدد زمنيا وتطمس إلى الأبد أخبار الفناء للحياة والانطفاء لحلم الناس بالسلام. مع أنني في تلك اللحظة كانت بي لهفة شديدة لسماع بثها، في الحقيقة ليس ما تأتي به واقعات الفناء لأجساد البشر، لكن، كي تصلني، وأنا في هذا أعاند اليأس الذي كان قد تغلل ووصل إلى أعمق نقطة في أعماق تفكيري؛ شعلة من نور تطفئ أتون النار هذا.
بدأ البث الأخباري، كان خاليا من بوارق الأمل، فقط وقائع الموت على طول الجبهة: الاستماع إلى إذاعة إيران ممنوع، قال صديقي سعيد وهو يقف فوق رأسي ما أصابني بالذهول فقد تركته نائما قبل حين من الوقت لا يتجاوز نصف الدقيقة. في البدء أشعرتني نبرة صوته بالخوف والقلق، لكن سرعان ما أبعدت هذه الخشية من نفسي وتفكيري، فهو على الرغم من جميع ما به من سوء، يظل صديق العمر، عشنا وتربينا معا في بيئة واحدة، كان ظلي كما أنا ظله، على الرغم من التباين بيني وبينه، لكنها العشرة من الطفولة مرورا بالصبا إلى الشباب، تجعلني رغم كل شيء مطمئنا إليه كل الاطمئنان، لذا، تماسكت وأجبته: الجميع يستمع لها بما في ذلك الضباط في خلوتهم. في هذه الأثناء عافتني خلجات نفسي أو أنا من عافها وانتبهت بكلي إلى ذاك الشيء الذي أحبه وأعشق شربه حد الوله، حمله النادل على كف يده وهو يطقطق به مع قدح الماء. وضعهماعلى المنضدة الصغيرة وانصرف بسرعة وهو يحاول إفساح الطريق لرجل فارع الطول يتبعه اثنان من الحماية. كانوا قد دخلوا من الباب الزجاجي بعد أن ركنوا السيارة الفخمة في زاوية الساحة. لكن الرجل الذي أعرفه، لم يتابع مشيه إلى داخل المقهى، أو الصحيح إلى عمق المقهى، حيث أن المساحة القريبة من الباب فارغة. كنت الوحيد الجالس فيها كما هي عادتي في اختيار هذا المكان. شعرت بألم شديد في معدتي وبغضب لا يقاوم في نفسي، إلى الدرجة التي ما عدت أسيطر على ارتجاف يدي وكامل جسدي. وددت لو كان بإمكاني البغيك كما تبغك الناحات من اللواتي فقدن أعزاء لهن في الملمات. لكنني مع كل هذا، صمتُ صمتا قاسيا، كان على روحي التي تفتت في تلك اللحظة. تقدم نحوي، صار على بعد بوصة مني، شممت أنفاسه: أنا سعيد. قال ضاحكا: تعرفت عليك من لحظة نزولك من السيارة. قلت له. نهضت بوجل وحييته بوجل أشد. أخذ يحدثني عن السنوات التي افتقدني فيها. لم أسمع ما كان يقول كنت غائبا تماما عنه فقد كنت أستمع إلى صوتي الذي تدفق ساخنا في هذا الجزء من الثانية وصوت مسؤول أمن الوحدة وهو يفتح التسجيل الصوتي، في ذاك الليل الموغل في الزمن الذي بات بعيدا جدا، والذي أبعدني عن الحياة ومفاعيلها لسنين عديدة، حين كنت لا أرى الشمس حين تشرق ولا حين تغرب. عندما خرجت كان عمري قد تقدم بي كثيرا. لم تكن فقط السنوات التي خسرتها، كنت ممزقا في الداخل مني، فقد فقدت الثقة بالحياة والناس والأصدقاء، شللي هذا جعلني أتآلف مع الوحدة التي اخترتها، أو هي الظروف التي جعلتني أختارها، على الرغم من رغبتي الجامحة للحياة وإرادتي القوية في ذلك الوقت، في فعل ما تستوجبه الحياة مني كإنسان. تدفق الصوت من المسجل، كما الشلال وهو يبث الأخبار وصوتي وأنا أعلق على أخبار الموت. صرخ المسؤول الأمني وهو يؤنبني بقسوة وشدة وشراسة: إسمع أخبار إيران وصوتك الواضح كل الوضوح: آما لهذه الدوامة الدامية من نهاية ألا تبا ولعنة الله على مشعلي الحروب..

٭ كاتب عراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى