شوقي ضيف - للحقيقة والتاريخ.. حول الفتنة الكبرى

قرأت بعناية مقال الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر بمجلة الرسالة في عددها 761 عن كتاب (الفتنة الكبرى أو عثمان) لأستاذنا الدكتور طه حسين. وقد رأيت الأستاذ صاحب المقال يقول في أوائل كلامه: (رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب. . . فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي). وذهب الأستاذ يوضح أسباب ذلك فإذا هو يعود بها إلى خبرين أو روايتين نفاهما مؤلف الفتنة الكبرى.

وأقام الأستاذ شاكر الدنيا وأقعدها لأن المؤلف نفى هاتين الروايتين وما كان ينبغي له. وإن كتاباً يخرج عن عثمان وتنفى فيه هاتان الروايتان لخليق بأن يختلج، على الأقل، بين يدي الأستاذ شاكر!

أما الرواية الأولى، فهي أن مؤلف الفتنة الكبرى ينفي ما يروى من عمل لابن سبأ في فتنة عثمان. وأما الرواية الثانية، فهي أن المؤلف ينفي ما يروى من كتاب المصريين الثائرين الذي خرجوا به عن عثمان إلى واليه على مصر، فلما فضوه في بعض الطريق وجدوه يأمره أن يقتلهم، فرجعوا إلى عثمان وحاصروه حتى كان مقتله.

وإنكار الرواية الأولى هو الذي أثار ثائرة الأستاذ شاكر؛ فقد رأى مؤلف الفتنة الكبرى أن هذه الرواية لم تأت في الكتب التاريخية القديمة كلها، وأن المؤرخين المتأخرين توسعوا فيها، فشك فيما صارت إليه، بل شك أيضاً في أصلها، لأن ابن سبأ أسلم في عصر عثمان ومثله - وهو ليس من السابقين الأولين ولا من قريش ولا من الأنصار - لا يؤثر تأثيراً عميقاً في هذه الفتنة الكبرى التي انتهت بقتل الخليفة. وقد كان الإسلام لا يزال في دوره الأول، وما كان المسلمون الأولون ليثوروا على خليفة وراء يهودي أسلم حديثاً. وإن وصفهم بذلك ليحط من شأنهم؛ إذ يكونون أطفالاً أغراراً يتبعون هذا الناعق الذي يكيد للإسلام. والحق أن المسلمين ثاروا على عثمان لأسباب داخلية يفصلها مؤلف الفتنة الكبرى.

ومن المسلم به أن من حق المؤرخ أن ينفي بعض الروايات وأن يثبت الأخرى؛ معتمداً ف ذلك على القرائن والأدلة المختلفة وقد رأى صاحب كتاب الفتنة الكبرى قصة ابن سبأ هذه أو ابن السوداء تروى في بعض الكتب التاريخية الموثقة ولا تروى في أخرى، بل رأى أن الكتب التي كانت أكثر اهتماماً من غيرها بفتنة عثمان لا تروي هذه القصة من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري فازداد شكه في القصة وازداد اتهامه وخاصة وأنه رآها تكبر وتتضخم مع مر الزمن فقال: (إن هذه القصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدراً لما كان من الاختلاف على عثمان).

وعلق على ذلك الأستاذ شاكر بأن الطبري كان أحد رواة هذه القصة، وقد ذكر مؤلف الفتنة الكبرى نفسه ذلك. وإذن فكلمة الرواة المتأخرين السابقة فيها إبهام شديد متعمد فيما يظهر. فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، وقد روى القصة عن سيف بن عمر بشهادة المؤلف نفسه، وأظن أن كان ينبغي للأستاذ شاكر أن يلاحظ أن المؤلف لا ينفي عن بعض الرواة السابقين ذكر القصة، بل هو يثبت ذلك ويثبت بجانبه أن الرواة المتأخرين بالغوا في القصة أو على حد تعبيره أكبروا من شأنها وأسرفوا فيها.

وهذا كلام مستقيم، فقد أخذت القصة تطول وتتسع في البيئات الشيعية وعند خصومهم كلما تقدم الزمن حتى أصبحت أشبه ما يكون بالأسطورة. وكان هذا سبباً في أن يتهم مؤلف الفتنة الكبرى في بعض الوجوه. وأيضاً فقد لاحظ أن المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان لم تذكرها من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري.

وليس معنى ذلك أن المؤلف يقصد بذلك إلى التقليل من شأن الطبري كمصدر مهم في التاريخ الإسلامي وإنما معناه أنه يقارن ويقابل فيجد ابن سعد لا يذكر القصة كما يجد البلاذري، وهو أهم المصادر - في رأيه - لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً، لا يرويها، إنما يرويها الطبري وحده بين المصادر القديمة، وهو يرويها عن سيف بن عمر.

وهذه المقارنة بين الطبري وغيره في هذه القصة جعلت مؤلف الفتنة الكبرى يتهمها، فقد أثار ذلك الشك في نفسه، وأظن من حق كل مؤرخ أن يشك ويتهم بعض الروايات القديمة وخاصة إذا لم تتآزر الكتب التاريخية المختلفة في روايتها.

وقد ذهب الأستاذ شاكر يبرهن على صحة القصة بأن طبقات ابن سعد طبعت من نسخ ناقصة وربما كانت القصة موجودة في الأصل وسقطت. واتسع بهذا البرهان في أنساب الأشراف للبلاذري فقال إن ناشره يهودي من طغاة الصهيونية وربما حذف الرواية الخاصة بابن سبأ. ولست أدري ماذا يضير اليهودي الناشر من رواية هذا الخبر!. وقد رجع الأستاذ شاكر يقول ربما ذكر البلاذري هذا الخبر في ترجمة مفقودة.

وواضح أن هذين البرهانين أو قل هذا البرهان لا يثبت قصة ابن سبأ، فإن ما جاء به الأستاذ شاكر إنما هو فرض ولا يقين في يده.

وقد أخذ بعد ذلك يناقش المؤلف في الخبر أو في القصة على أساس أن من لم يرو خبراً ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وخاصة إذا كان الراوي مثل الطبري علماً وفهماً وهو الذي روي عنه أنه قال لأصحابه (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه، فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم يكون قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال إنا لله، ماتت الهمم).

وأحسب الأستاذ شاكر نقل هذا الخبر عن كتاب معجم الأدباء لياقوت، ولو أن استمر بعد هذا النص الذي نقله عن معجم الأدباء يقرأ في ترجمة الطبري لرأى ياقوت يقول عنه: (إنه لم يدخل في كتابه (التفسير) شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمد بن عمر الواقدي، لأنهم عنده أظناء) ثم يقول ياقوت عقب ذلك مباشرة: (وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه).

وإذن فالطبري لم يكن يحقق في روايات التاريخ كما كان يحقق في روايات التفسير، ومع ذلك يقول الأستاذ شاكر: (من قرأ كتاب الطبري في تاريخه. . . علم أن هذا حق، وأن الرجل كان فارغاً للعلم لا يلفته عنه شئ). وأنا لا أنفي أن الطبري كان فارغاً للعلم، ولكن أنفي أن تاريخه حق خالص لأنه قد يروي عن الكلبي وابنه هشام والواقدي وغيرهم كما يقول ياقوت:

وإذا أضفنا إلى ذلك ما تقوله دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة تاريخ ص493 من المجلد الرابع في الترجمة العربية من أن (مواطن الضعف عند الطبري في تاريخه هي ما يتوقع من محدث مثله - مثال ذلك إيثاره لمصنف سيف المنحول عن التاريخ.) ثم عرفنا أن سيفاً هذا هو سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري قصة عبد الله بن سبأ؛ أفلا يكون هذا كله سبباً في أن يتهم مؤرخ حديث قصة ابن سبأ؟

وإن من رجع إلى ابن عساكر يلاحظ أنه يروي كل ما يتصل بفتنة عثمان عن طرق مختلفة أكثرها طرق محدثين إلا قصة ابن سبأ فإنه يرويها مثل الطبري عن سيف بن عمر.

على أن ابن سبأ كان له ضربان من النشاط، نشاط مزعوم في عصر عثمان، ونشاط حقيقي في عصر علي. ومع ذلك فالنشاط الأخير قد بولغ فيه على ما هو معروف في قصته من الحرق والنفي الخ.

وهذا ما جعل مؤلف الفتنة الكبرى يؤخر الحديث المفصل عنه إلى الجزء الثاني من كتابه حتى يلم بهذه الشخصية من جميع أقطارها إلماماً دقيقاً. ألم يق في ص232: (لم نفصل في هذا الجزء حديث عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، لأنه طويل معقد، ولأن نشاطه الخطير إنما يظهر في رأينا أثناء خلافة علي فقد أرجأنا حديثه إذن إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب). وقبل ذلك يقول في ص134: (وأكبر الظن أن عبد الله ابن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً - إنما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولائه من ناحية وليشنعوا على عيٍّ وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة).

ليست قصة ابن سبأ ' ذن قصة سهلة يسيرة يمكن أن تقبل لمجرد أن يرويها الطبري عن سيف بن عمر، بل هي أعمق من ذلك وأبعد. وأكبر الظن أن من حق المؤرخ إزاءها أن يقابل بين الروايات بعضها وبعض وألا يكتفي بوجودها في الطبري عن سيف بن عمر.

أما الروايات الثانية أو القصة الثانية التي وقف عندها الأستاذ شاكر فقصة كتاب المصريين وما كان من فضهم له في الطريق واطلاعهم عليه ثم عودتهم إلى المدينة ومحاصرتهم لعثمان، فإن الأستاذ شاكراً لا يأتي بدليل عليها سوى أنها جاءت عند البلاذري! كأن الأصل أن يجيء الخبر أو القصة ثم نصدق بها من غير بحث ولا درس ولا امتحان ولا فحص. ومجيء قصة في البلاذري لا يحتم صدقها ومن حق كل مؤرخ أن يختبرها ويمتحنها ويتهمها إن كان هناك ما يدعو إلى تهمة.

وبعد فهذه آراء رأيت أن أعلق بها على مقال الأستاذ محمود محمد شاكر للحقيقة والتاريخ.

شوقي ضيف



مجلة الرسالة - العدد 763
بتاريخ: 16 - 02 - 1948




:
أعلى