عبير درويش - الحلم الحجرى.. قصة قصيرة

حين توقفت الموسيقى؛ تقاطرت دموعه فاختلطت بحبات الرمل وفضلات القطط الجافة.

عبرَت الردهة المؤدية إلى حجرته.. توقفت الموسيقى تماماً، لم يعد بوسعه الاحتمال؛ قرْع حذائها المعدنى، واصطكاكه ببلاط الردهة ”البورسلين“ يذهب بعقله، تصيبه القشعريرة من الأصوات المتنافرة؛ المعدن والجرانيت والبازلت والأزميل-النباح والخرير. خلع قفازيه المطاطيين، واستند بمرفقيه على طاولة كبيرة، تقاطرت حبات العرق التى اجترت الُغبار من جبينه المقطب؛ لتسقط فى تثاقل أيضاً.. حين توقف نزق الصوت أدرك أنها مثَلَت أمامه، انتظر لبعض الوقت، تناهت إلى مسامعه بعض الكلمات المبتورة، فى محاولة مبتسرة للحديث…

_ لو.. إذا.. أمم

تلتها طقطقة آلية لصوت قداحة، فزفرة طويلة، ودائرة دخانٍ طالت أنفه المحتقن؛ أثر غبار الصقل لتماثيله الحجرية، بادرها بالسؤال:

– كيف أستطيع خدمتك؟

– أممم ربما أكون ضللت الطريق إلى الحمام..عذراً.

فى خجل، ترددَت، أعتذرَت، وكادت تستدير عائدة، ثم شحذت شجاعتها ليخرج صوتها من حنجرتها الجافة المشبعة بالنيكوتين، ابتلعت خجلها. طمست سيجارتها، بين الرمل أسفل قاعدة تمثال أجوف لم يكتسب ملامحه بعد، ثم بادرته:

– أخبرونى أنك أمهر مثَّالٍ، أردت أن تصنع لى ما يجعلهم يتحدثون عنه طيلة الأعوام المقبلة فى أمسياتهم.

– لهجتك وصوتك يضجان بنزقٍ.. كم عمرك؟

– أحمل وجهًا لفاتنة فى العشرين، يزيّنه قدّ أنثى مكتملة القطاف.

– يافعة مازلتِ…. هز رأسه مبتسماً.

– تخطيت الخامسة عشرة منذ يومين… قالتها فى حدة وغضب.

ثم هدَّأت من نبرتها، وأضافت:

– أنا مغرمة بابن العم الذى تخطى الثلاثين، ويتحدث بوَلَهٍ عن فتاتك العاهرة “قاضمة التفاحة”، التى تموضعت لك لتمرر أناملك على كامل جسدها، واعتقلت شهواتهم داخل إناء الحجر الذى صقلته بمجون أصابعك –مطرقتك- أزميلك أو حتى خيالاتك المعتِمة.

استمع إليها، لم يبدُ عليها أنها أكتفت، ربما أحست بالحرج؛ فأشعلت سيجارة أخرى ودعته لتدخينها، أشاح بوجهه رافضًا، ومد يده يتحسس طرف طاولة صغيرة، تناول منها غليوناً فاحم السواد، أشعله فى تلذذ، ثم زفر دوائر الدخان بيسار وجهه.. بعيداً.. بعيداً عنها، وقال لها:

– تدخنينَ بعمر عجوزٍ ناقمة، وتصدرين أحكامك، وتُمْلين طلباتك على الغير كطفلة أفسدها التدليل!

– لِمَ تدخن الغليون؟

– كما ترين.. لا أرى، وأناملى هى كل ما أملك.. سيجارتك يمرق بها اللهب سريعاً، وأنا كثيراً ما أشرد، ثم إنى لا أجيد التقبيل.

هزت رأسها إقراراً بموافقته.. ثم أردفت:

– أتخيل أنك تحلم بأنك بكامل هيئتك تراقص إحداهن، أو تتنزه بأكثر المحال التجارية زحاماً أليس كذلك؟

ابتسم فى دعة وهو يهز رقبته نافياً..

واصلت حديثها:

– أحلم دوماً بأنه يُطَّوق خصرى فى البهو، نحن فقط، ويدور بى كما أسطوانة “الجرامافون”، ندور وندور وندور مع الموسيقى، يحدق بعيني، أحلم، ويا له من حلم، أريد أن أعلَق به الى الأبد.. أحلم وأظل أحلم، لا يوقظنى من حلمى سوى حديثه عن عاهرتك وتفاحتها المقضومة، أسبك وألعن صلة قرابتكما، أحلم بمطرقة هائلة أنزل بها على نهديها اللذين يستثيرانه، أحلم أن أطيح برأسها الحجرى وفمها المتأهب للقضم، أو ابتلاع قاذوراتهم.. أحلم أحلم، يا رجل الحجارة أن تهبنى أمثولة حجرية تجعل قلـ…

توقفت عن الكلام فجأة، وأشعلت سيجاراً آخر، أغشى دخانه عينيها، فأخذت تمسح بطرف أصابعها حواف جفنيها والكحل السائل على جنباتها، وواصلت بجملة وجهتها له بطريقة تستدر عاطفته، وهى على مقربة منه:

– ألا يوجد لديك حلم يا رجل؟

ابتسم.. ثم ضحك، ضحك كثيراً، حتى دمعت عيناه، ثم قال:

– لم أُسأل من قبل، ولم أجِب، لكنى بعد أن واتتنى الفرصة سأخبرك قصة، أكاشف نفسى بها، أنا يا فتاتى الجامحة لم أحظَ بشرف الخوض فى الأحلام، ولم تمنحنى هى دعوة.. تعرفين لِمَ؟

داهمنى السحائى منذ كان عمرى عاماً واحداً، لم أُصَب من ذكرياتى سوى بكائى طفلاً ملتاعاً بالحمى -يوخز مرات ومرات فى جسده- يلقى به بغتة فى حوض الثلج، فلا يتوافر له سوى القشعريرة.. التهويدة الضعيفة على كتفِ الأم.. القنوط على أوجه الأطباء.. الصراخ علىِّ كلما خطوت تجاه مجهولٍ كان أو معلوم، كلها أصوات وبعض الأشكال الشائهة التى وفَرَتها لى أناملى، على وجه أمى الباكى، وأصابع أبى التى تفلت من كفي لأنه لا يحتمل نحيبى من الكدمات التى أصيب بها أثناء اللهو… أرأيتِ جميعها أصوات والباقى ظلامُ دامس يحمل على عاتقه استيعابى، وألوذ إليه كلما رغبت فى الحلم كما أفعل دوماً.. أخترق الظلام.. أستكشف هوية حلمى الجديد، أمشط أناملى جيداً فوق واهبى الحلم، ثم أنفرد بأحجارى.. أزيل عنها النتوءات والزوائد، أكشط التصور البعيد، ثم أراقص انحناءاته بأزميلى لأجرف منه الغث، والسمين، ثم أمسد عليه بمبردى؛ ليزهو ويبعث وينفح فيه روح الحلم، فأحلم وأحلم وأحلم.. أرأيتِ كيف أحلم؟

رأيتِ لأنى لا أرى، حلمى أجمل من حلمك أليس كذلك؟

انظرى إليه جيداً..

وحده بالغرفة.. صمت مطبق.. موسيقى معطلة برأسه، يشير إلى تمثالٍ حجرى مكتمل لفتاة يافعة، يبرز من صدرها النحيل برعمين صغيرين، تتموضع فى غواية، فوق قاعدة من الرمل، وفضلات القطط الجافة، وتضع قرب فمها سيجارة تفتح لها شفتيها الزهريتين الرفيعتين. حين توقفت الموسيقى، تقاطرت دموعه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى