محمد فتحي المقداد - شعاع منعكس (قصة قصيرة)

عيناها حاصرتني. أحكمت طوقها على آخر حُصوني، شيئًا فشيئًا تتقدّم بسهام عينيها المُصوّبة إلى قلبي.
حيرةٌ مشوبةٌ خوفًا من أبي عيون جريئة.
- "يا إلهي..!! أنا في موقف لا أُحسَدُ عليه.. ما العمل؟".
إنّها سيّدة أربعينيّة، أحلفُ جازمًا ولا حتّى مُصادفة أو في حُلُم أنّني التقيتُها. قرص القمر بدرًا يتمثّل بوجهها. ثرثرة علامات ثرائها تُعبّدُ مسافة الأمتار القليلة الفاصلة بين طاولتيْنا.
محاكاة في داخلها:
-"يا لها من مصادفة عجيبة، أيمكن أن تتطابق صورتيْهما؛ لدرجة يصعب التفريق بينهما؟، كأن أكفانه نَسجَت من روحه صورة تقمّصها وجه هذا الشابّ بوسامته التي عهدت بها أخي..!!".
ارتباكٌ داخليٌّ انعكس توتّرًا اكتست به ملامح وجهه: "عيناها لا تتحوّلان عنّي إلى صديقتها الثرثارة، وهي تتصنّع حركات وابتسامات، ولا تلتفتُ إليها. نظراتُها مَخارِز تنخز أعصابي؛ فترتجف رغمًا عنّي".
لاحظتْ استراق نظرات سالم لها. تخفّت خلف نظّارتها. حركتُها أضافت له دفعة إبهام أجّجت مخاوف وهواجس جديدة في عقل سالم.
توارد الأفكار أخذه باتّجاه مُغاير تمامًا لما أحس به بداية، سبح في دوّامة العاطفة، وراح يستمع إلى قلبه:
-"أمِنَ المُمكن وسامتي جَذبَتها، كانت أمنيتي المفقودة من أيّة فتاة كانت أن تُبدي إعجابها بي. كذلك لا أظنّ أنّ قميصي أو بنطالي أو حذائي هنّ السبب؛ لأنهن من الأوربيّ المُستعمل سابقًا، ولا أعرف من ارتداها قبلي، أهو شيطان أم ملاك.. أرَجُلٌ مكتملُ الرّجولة أم مِثْليُّ الجنس. أقارئ أم جاهل.. أمسؤول كبير أم مُتسوّل..!!؟.. لا.. لا.. بكلّ تأكيد تسريحة شعري المصبوغ بالأسود".
في حركة مفاجئة منه، التقط صورة بواسطة هاتفه النقّال، توجّهت أعين زبائن المقهى إليه.
بهدوء راح يتأمّل قسمات وجهه، للمرّة الأولى في حياته أحسّ بوجهه. اكتشف أن عقوده الأربعه عَدَتْ عليه تاركة لمساتها المحفورة على جبينه وتحت عينيْه.
بخطوات واثقة توجّهتْ إليه. بينما هو غارق في ذهوله سقط الهاتف من يده، عيناه جحظتا مع كل لحظة تقترب منه، جفّ فمه كأنّ الحُليْمات مُتواطئة بتوقّفها عن إفرازاتها، تخشّب لسانه عن الحركة.
توقّفت لحظات تتفرّسُ ملامحه. سيْلٌ من الدُموع مُتلوّن بألوان (الماكياج). شكّل قوس قزح على خدّيها المليئيْن تورّدًا. على غير المُتوقّع صرخت بجنون ارتّجت لها جنبات الصّالة:
- "إنّه هو.. مُتأكّدة منه لا مجال".
عجزت قدماه عن الاستجابة في الوقت المناسب عندما فكًر بالهروب، ظنّا منه أنها اشتبهت به كمجرم قاتل، أو لصّ حراميّ. إحساس مُبهم بِبلَلٍ تسرّب إلى الكرسيّ تحته، أو سيلانًا على البلاط.. شعورٌ مُخزٍ بالمَهانة.
طوّقته بذراعيْها. اختفى رأسه بالكامل في غابة شعرها المُتهدّل، انهالت عليه بقبُلاتٍ مجنونةٍ، وهمهمةٍ غير مفهومة. اغتسل وجهه بدموعها المُلوّنة.
انجلى الموقف بعد هدوئها على وقع اعتذارها الشديد بخروجها عن اتّزانها ورزانتها ووقارها. أعلنت للجميع:
- "ظننتُه أخي الذي قضى قبل سنة بحادث".
رفعت هاتفها النقّال عارضة صورة يحيى مُحاولةً إقناعهم، وكسب التعاطف معها. الصورة انتقلت من جديد عبر (البلوتوث) إلى هاتف سالم.

الروائي (محمد فتحي المقداد)

عمّان - الأردنّ
٢٨ / ٩ / ٢٠١٩

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى