عبير درويش - حياة.. قصة قصيرة

حين ضجت جدران منزله بأسئلته التى يتردد صداها فى مسامعه، وملَّت الإصغاء إليه، وملَّ هو صوت اصطدام الأحذية بالطرقات، وجلبة العربات المسرعة وهى تئز، وهسيس الأوراق التى جمعتها الرياح أسفل نافذته الموصدة بقضبان الأمان، ومتاريس السكينة، قرر فى محاولة بائسة أن يأتنس بها.

وفى رتابة اعتادها، وفى تثاقل سكن مفاصله؛ سلك الطريق إليها، عبر مقابر “الغفير” حيث ترقد الزوجة. منذ ما انفرط من ذاكرته ومل حسابه. وجد البوابة مشَرعة والممر نظيفًا، رجح أنه الحارس، توغلت قدماه أكثر، طرق مسامعه صوت أغنية من الراديو..”إبعد يا حب باقولك لاءا ولا عمرى هغلط يوم وأقولك آه”

خطت قدماه فى حذر، يملؤه ألف سؤال وتقيده رهبة عن مقابر العائلة التى لم يطأها عدة أعوام أقعده فيها المرض، وتهيب الموت، تسربت إلى أنفه رائحة طعام لم يحدد كنهها، هى مزيج من رائحة الثوم النفاذة، وبعض المواد الحريفة، التى تصله أيضًا رائحتهما، من شقى الضلفتين المشرعَتين على الممر.

يتناهى إلى مسامعه صوت امرأة تنهر أحدهم “بمودة”: “يا ضنايا لساه سُخن”. اقترب أكثر فى وجل، يحدث نفسه أن ثمة خطأ ما قد ارتُكب، يراها تقف قبالة موقد مستطيل يرقد على منضدة خشبية تآكلت أطرافها، تهتز فى دلال مع إيقاع الأغنية؛ فيتجلى قوامها المكتنز وتهتز مؤخرتها، التى أعاقت جلبابها عن الانسدال البديهى على انحناءات البدن، ويتأرجح مع اهتزازاته المتناغمة شعرها المقوض فى وشاح صغير انزلق بطرفه إلى خصرها، فتهدلت خصلاته فى عفوية فوق الكتفين، ابتلع ريقه، مسح العرق المتصبب من جبينه، فرك عينيه، نهر ذهنه الخرف عن الخوض فى التفاصيل، مد بصره يتفحص الجوار، فتاتان صغيرتان، ترتكز إحداهما بذراعيها النحيلتين على “طبيلة” خشبية بعينين مبيضتين زائغتين، شاخصة إلى الحائط المقابل، والأخرى تبدو أصغر سنًّا، تقبض على رغيف أعزل بكلتا يديها، وتقضمه بأسنانها الأمامية، وتبتسم له فى وداعة؛ فتضيق العينان اللامعتان، وتسقط منهما بقايا دموع.. “لا أنا أد دمعة عين فى ليلة فرقة.. ولا أد رمشك والمخبي وراااه”

استدارت وهى تحمل الأطباق نحو الطفلتين، مالت بجذعها، وظلت لبضع ثوانٍ تقسم فيها رغيفًا، ثم تضع طبقًا أمام الطفلة الشاخصة إليها، وتناولها ملعقة أمسكتها الطفلةُ فى الحال، وتوجهت نحو الصغرى فى محاولة لنزع الرغيف المقتنَص من بين أصابعها الصغيرة، حررته ثم أشارت إلى الشيخ صوب النافذة.

على غير المتوقع؛ بُغت الشيخ، تلعثم، ابتلع كلماته التى كان يتحفز لقذفها. للحظات أُسقط فيها، وانهال فوق مسامعه تقريعًا ولومًا وسبابًا، ثم استعاد أسبابه التى من أجلها جاء، ثار وتحشرج بكلمات التهديد والوعيد، وصاح على “الغفير”: “يا صبحى.. إنتَ يا زفت الطين” (الشيخ فى غضب)

: “معلش يا بيه دول يومين على ما تساوى حالها.. دى غلبانة والبتين يتامى”.. (صبحى فى استعطاف).

مضى، لم يوقع على “صبحى” العقاب، ولم يأمر بإخلاء المدفن، فقط جرَّ عصاه المتجمدة بالأرض، وألهب مفاصله الخجل من الجلبة التى حدثت وتوقفت فيها الفتاتان عن مضغ طعامهن، ولا سيما الصغيرة منهما بعينيها النجلاوين، اللتين أسقطتا دموعهما المتحفزة، والطفلة الكفيفة التى التجأت تتحسس مجال صوت أمها؛ لتلتحم بساقها المتشنجة.

اليوم الثانى:

مر الوقت عليه مملًّا رتيبًا، والصمت ينتشر ثقيلًا كالرصاص، تلوح له ابتسامة الصغيرة؛ فيسقط الجليد المتراكم على أوصاله وروحه، يعتصره الذنب لترويع الفتاتين، تأخذه قدماه إلى الطريق نفسه مستندًا إلى عصاه الخشبية، وحزمةِ أسبابٍ واهية، يتوقف، يُحرر أصابعه عن التواء العصا، وباطن يده تستقيم عليها، لبرهة، يقطب جبينه مُستاءً، يستدير بقدميه وعصاه المطواعة، يخطو بآلية، يتوقف، يحرك رأسه مستنكرًا، يستجمع الأصوات المتداخلة فى رأسه إلى فمه؛ فيكتظ، يطلقها إلى الخارج كنافخ بوق: “طُز”.. يبتسم لنفسه، ويمتشق عصاه ويشق طريقه عائدًا إلى المقابر.

“لمين.. لمين يا قمر يا قمر.. تطلع لمين.. تسهر لمين؟”

بسمل وتلا بعض الآيات القصار أمام المقبرة، أطلق العنان لذاكرته ما أنضج دموعه، مسحها وتابع، ختمها وصدَّق، مسح على وجهه وتنهد، استدار وتوجه إليها بناظريه، تلك المنزوية فى الركن تتحصن بطفلتيها، سألها

: “إسمك إيه؟”

أُسقطت فى دهشتها، ابتلعت ريقها وخوفها

: “حياة.. إسمى حياة.. تعيش وتفتكر يا حاج”.

هز رأسه، ربما موافقًا، أو مجاريًا لها، ولعلَّها مواساة أو سخرية، ولعلَّها جارته هى الأخرى تحت طيات المعانى.. ربما.

بحث عن لسانه وتحدث: “أعيش وأفتكر، وحياة عايشة فى التُّرب؟!”

شُدِهت من كلماته، والأسى الذى يغمر ملامحه، وقامته التى عانقت عصاه، لم تسعَ للحديث معه بأمر بقائها وطفلتيها بالحوش، بل أفلتت يد صغيرتها التى تقبض على طرف جلبابها، ورفعتها إلى المصطبة الحجرية، ولاذت بها الصغيرة ذات العينين اللامعتين الرقراقتين، ومنحته مقعدًا، وكوب شاى، وبضع دقائق من الإنصات، ولحظات من اللهو والمرح مع الصغيرتين..

“ردوا السلام ألَّا السلام دا غالى”.

اليوم الثالث:

افترش الأرضَ، وجلس معهن حول الطبلية، واتكأ على ذراعيه ينتظر معهن، ويسترق النظر لما يحويه الإناء أعلى الموقد، ولاعبهن “حزر فزر” عمَّا يكون الغداء اليوم؛ استنادًا إلى الرائحة، وقسَّم رغيف ذات العينين المبيضتين لقيماتٍ صغيرة بحجم فمها، وشارك الصغيرة لسعة العجلة فى الالتهام؛ حتى يسمع: “يا ضنايا لساه سخن”.. ضحك معهن حتى دمعت عيناه، ووخز الألم ظهره؛ أثر اعتلائه “شى يا حمار”.

“اصحى يا دنيا وقومى يا دنيا واسمعى ديك الصبح صديقك، خدى من الكسرولة الألمونيا لبن الصبح وغيرى ريقك”.

تساءل عن مكمن قوة المرأة، أعيته الأسئلة أكثر من دوار البحث عن الإجابات، أرهقه التفكر فى حكمة الابتلاء، وخيوط الحزن القاتمة التى تقتص من الضحكة العالية لها، عن مغناطيس يجذبه كلما أرقته الهمهمات والنظرات المستنكرة، والأسئلة التى تبتلعها “حياة” داخل جوفها، وتجرح حلقه كلما هَمَّ بطرح إجاباته العليلة؛ إلى أن أفضت بها الحيرة لإجابة نَقل عدواها إليها…. “طُز”.

اليوم الرابع:

شاركهن الاستماع لصوت الدفء، وتغنَّى معهن أيضًا، وشاركهن عشق الصوت الذى سرَى فى مفاصله وحرره من عصاه…

“ردوا السلام ألَّا السلام دا غااالى.. ردوا السلام وما تطلعوش فى العالى ياسلام”

ويومٌ خامس، وسادس، وسابع، ووووووو…. اقتطعت من عمره أعوامًا، وأضافت أسبابًا لتشبثه بالحياة، ومائة ألف من “طز” ألقاها على مسامع الآخرين دون اكتراث، ومئات الأغنيات ترنم بها على حصيرة الألفة وفى “وسعاية الحوش”، ووقت شرب الشاى بالنعناع فى العصارى. الوقت الذى تعرف فيه على السعادة، وصاحب الكثير والكثير من الضحكات التى أنعشت روحه الضامرة. لَكَم من الوقت مر عليه؟! لم يُدخله فى تعداده لـ.. “طُز”…. الأهم أنه قيد الحياة.

أعلى